هيكل: مراحل الانتقال لا تدار بالارتجال ... (3-3)
( الجزء الثالث و الأخير ) .
* قلت: قد تبدو الفرص وراء غيوم، أو أنها خارج مرمى البصر . . لكن المحاذير لابد أنها تومض أمامك بأضواء وإشارات . . كيف تراها بالتحديد، وما السبيل إلى توقيها؟
- الأستاذ هيكل: هناك أسلوب منطقي للبحث عن الحلول خصوصا إذا كان الباحثون عنها لا يعرفون جواباً مسبقاً، أو صيغة معتمدة، أو تجربة مماثلة .
هذا الأسلوب يحاول استكشاف ما حول الموضوع، يحاول قدر ما يستطيع أن يحيط بحدوده، يحاول أن يستقرئ مواقف مماثلة له في التاريخ، يتذكر تجارب الآخرين ثم يعثر على طريق اقتراب ويقترب، ويركز أكبر قدر من الضوء على ما يواجهه، ثم يستجمع عزيمته، ويتحمل المسؤولية .
هنا يكون عليه أن يتوقف من باب توخي السلامة، أو يطرح على نفسه سؤالين اثنين:
- ما مواقع المحاذير التي يصح توقيها، لأنها في الأغلب خطرة؟
- والسؤال الثاني ماذا فعل غيره في مواقف مشابهة، أو قريبة الشبه مما هو فيه؟ فلسنا أول أمة خاضت تجربة الانتقال من لحظة ثورة إلى مأمول فيه واقع .
دعنا نستعرض معا سؤال المحاذير التي يصح توقيها .
1- هناك كلام مرسل عن تسليم السلطة بأسرع وقت، وذلك من ناحية المبدأ - مفهوم ومعقول، لكن لاحظ مسألة مهمة .
لمن تسلم السلطة؟- أقرب الحلول إلى الخواطر أن تسلم السلطة لحزب الأغلبية، وحزب الأغلبية هذه اللحظة هو تنظيم سياسي ولد من رحم جماعة الإخوان المسلمين ورعايتهم .
مجلس الشعب كما حاولت أن أشرح من قبل - جدار في بناء الشرعية جرى إقامته بضرورات نعرفها جميعاً، والمجلس بلا جدل له مشروعية قانونية، ولكن الشرعية الكاملة في البلد لا يمكن أن يرفعها غير دستور كامل، بناء كامل، على أساس مُتفق عليه .
لا بأس بجدار ساند له قيمة، وهو يصد ويرد احتمالات فوضى من حيث إنه يحفظ مسؤولية التشريع . لكن هناك فارقا بين أن يكون المجلس جداراً شرعياً، وأن يكون سلطة حكم، ولكن الدستور والدولة قضية أكبر .
ثم إن هناك إشكاليات حقيقية، وهنا إشكالية: هل تسلم كل السلطة، أو تسلم بعضها فقط؟ ثم بأي منطق؟
هناك دواعٍ عملية تقتضي التفكير، هل تسلم سلطة وزارة الدفاع وفيها قيادة القوات المسلحة للإخوان المسلمين؟ وكيف والقوات المسلحة موصولة بالدستور، وليست بأغلبية في مجلس الشعب، وإلى هذه اللحظة ليس هناك دستور .
هل تسلم لهم بسلطة وزارة الداخلية؟ وكيف، وهم أي الإخوان المسلمين كانوا لسنوات في عداء مع جهاز الأمن في البلد، خصوصاً ما يسمى أو كان يسمى ب “النظام الخاص”، كما أن جهاز الأمن كان في عداء معهم .
هل تسلم لهم بسلطة السياسة الخارجية؟- وكيف، والأمن القومي معلق ليس فقط بالدستور، ولكن بممارسات تعرفت إليها وخبرتها طويلاً النخب المدنية؟ ولا أظن أن الإخوان المسلمين هذه اللحظة قادرون أو مستعدون، ثم وبصراحة فإن الإخوان المسلمين لهم صداقات مع قوى وقيادات في الإقليم قد تكون عبئاً على الدولة المصرية، وهذه قضية لا أريد أن أزيد فيها .
هل تسلم لهم بسلطة التعليم؟ أي صياغة فكر وعقل المستقبل، وكيف في هذا الزمن وفي ظروفه؟ ثم أن يتم ذلك من دون دستور يحدد الهويات والمرجعيات الإنسانية والفكرية .
أكاد أتصور أنه إذا وقع هذا المحظور فإننا سوف نستيقظ ذات يوم على مشكلة بين الطرف الذي يتسلح بالسلطة، وبين أجواء ممارسة السلطة، بمعنى أوضح: صدام بين القوات المسلحة والإخوان - صدام بين البوليس والإخوان - أزمة في إدارة الأمن القومي - ثم وفي غيبة دستور وبسلطة للإخوان مفتوحة، وبغير دستور يقرر الحدود ويربط الأواصر - ماذا عن أقباط مصر؟ تلك وصفة فوضى في هواجسي، وهذا واحد من المحاذير .
2- محظور ثانٍ هو أن مهمة الأسابيع والشهور المقبلة حتى يتم وضع نظام دستوري كامل أكبر بكثير من طاقة رجل واحد نسلمه السلطة هذه اللحظة، ونطلب منه أن يتقدم ويقود في ظل أوضاع راهنة تعودت بتركيبتها الإنسانية والعملية على فردية اتخاذ القرار بمعنى أنه ليس هناك رجل واحد، ومجلس وزراء يشكله في حدود ما يعرف ومن لن يعرف - يقدر على التصدي في الوقت نفسه، لأمن داخلي غير مستقر، ولأحوال مالية على الحافة، ولاقتصاد مثقل بالأعباء، ولاختلالات كبرى في الأجور والأسعار، ولأزمات طارئة من رغيف الخبز إلى بنزين السيارات، ومن سياحة معطلة إلى إعلام صاخب .
ولو أننا كنا أخذنا بفكرة مجلس لرئاسة الدولة فيه خمسة أو سبعة أعضاء - لكانت هناك طمأنينة إلى أن على القمة أو في موقع الرئاسة هناك رجال يقدرون على بعضهم بعضا بقيادة مشتركة لعلها تستطيع إتمام مرحلة الانتقال بغير هذه الطريقة التي يسمونها في لعبة الغولف “الموت المفاجئ” sudden Death، أو السكتة القلبية الرياضية، بمعنى أن لاعباً يخسر كل نقاطه المسموح له بها قبل أن تنتهي المباراة، وحينئذ لا يصبح من الضروري عليه مواصلتها، لأن نتيجتها أصبحت معروفة، والاستمرار فيها إلى النهاية مضيعة للوقت .
لكننا لا نفعل ذلك - نجري انتخابات على أساس مرشح واحد يفوز .
والقفز بهذه الطريقة من رجل إلى رجل، وفي غيبة توافق على نصوص، فإنه مرة أخرى استمرار بمنطق نقل السلطة وليس نقل الدولة، وأكاد من دون مبالغة أن أتصور بعد شهور قليلة أن الميادين سوف تزدحم بنداء أن الشعب يريد إسقاط الرئيس الجديد - وليس القديم فقط .
وحتى إذا لم يكن السبب هو “تلبك” الساحة الانتخابية، فإن الحقيقة الأكبر أن الرواية السياسية المصرية لم تتغير، ولم يتغير الديكور، ولم يتغير المسرح، ولم يتغير الموضوع ولا النص، وفي معظم الأحيان ولا الممثلون .
3- يتصل بذلك محظور آخر هو أن الظروف تقتضي دخول شباب قادر على الظروف وعلى العصور، والحقيقة أنني لا أتصور الآن رئاسة لمصر يتجاوز شاغلها الخامسة والستين أو السبعين استثناء، وكان الشباب موجوداً في كل مواقع الثورة، بما في ذلك شباب الإخوان المسلمين، لكن التجارب تعلمنا داخل الإخوان وخارج محيطهم أن الشيوخ يقدرون طول الوقت على الإمساك بمواقع النفوذ، لا يتخلون عنها ببساطة، خصوصاً أنهم بالفعل داخلها وفي أيديهم - وليس في أيدي غيرهم - أدواتها ومفاتيحها .
لكن السؤال المحوري هو كيف يمكن ترتيب الانتقال في غياب شباب يحمل روح الثورة، وجسارة الشباب الذي فجرها، مع ملاحظة أن طاقة هذا الشباب أوسع وأقوى من الجيل الذي يمكن أن تنتقل إليه السلطة، بهذا الذي تكمل به الآن مرحلة الانتقال، ثم هل نحن مستعدون فلا نرى ونسمع جموعاً من الشباب تعود إلى الميادين بعد شهور قليلة تطالب الرئيس الجديد بالرحيل؟
4- هناك مواقيت على الطريق خلال شهر أو شهرين، فهناك موعد مع حقائق الأزمة الاقتصادية، فقد وصلت إلى الحافة، رغم مرونة في المقاومة أدهشت كثيرين من المراقبين، فقد كانوا يتوقعون لحظة الانفجار الكبير أمس ولم يحدث، وتوقعوه اليوم، ثم بدا أنه مؤجل، وسمعت بنفسي من أكبر الخبراء أن مرونة الاقتصاد المصري وقدرته على المقاومة مدهشة، لكن للحقائق أحكامها، وقد تحدثنا في ما سبق عن الحقائق الاقتصادية، وإذا كان الانهيار لم يحدث حتى الآن، وهذه معجزة، إلا أن المعجزات ظواهر استثنائية، إلهية أو رسولية، وزمن المعجزات تدخل من خارج التاريخ يصعب الحساب عليه والتخطيط في انتظاره .
وأتعهد أمامك منذ الآن بأنني سوف أكون أسعد الناس لو أن أحدا من مرشحي الرئاسة في الانتخابات المقبلة أظهر خلال معركة الانتخابات إشارة أو دليلاً يبشر بمعجزة، لكني بأمانة لا أظن .
نحن نأخذ حتى الآن بمنهج مقاربة الأزمة في مصر بالطواف حول تخومها ومشارفها، وذلك جزء من منهج اقترحته عليك ووافقتني عليه حتى نتعرف ونعرف ماذا ننقي قبل أن نتقدم لنقرر ماذا نختار .
* هناك بعض المحاذير في استكشاف الحلول الممكنة، مقاربة أخرى وهي كيف تصرف الآخرون في مثل ظروفنا - كيف تصرفت الثورات؟
في التاريخ نماذج:
- هناك مثلاً تجربة الثورة الإنجليزية التي قادها “كرومويل” بعد الثورة على الملك “شارل” وإعدامه، كانت هناك فترة انتقال ملأها “كرومويل” بالبرلمان، ولوصايته هو شخصياً على السلطة، لأن الشعب البريطاني كان قد أعدم ملكاً، لكنه لم يقم بإلغاء النظام الملكي من أساسه، وكذلك كان “كرومويل” ومعه البرلمان وصياً، ومضت فترة انتقال لم تصل إلى نهاية معقولة، لأن “كرومويل” نفسه تُوفي قبل أن يصل بها إلى نهايتها .
- هناك مثلاً بعد الثورة الفرنسية ومراحلها المتفجرة الأولى - أنه جرى تشكيل مجلس القناصل من ثلاثة قناصل يتولون سلطة الدولة في مرحلة انتقالية، انتهت بأن قام “نابليون بونابرت” بإزاحة مجلس القناصل، وتولى هو وحدد سلطة الدولة .
- هناك مثلا الثورة الروسية وعبر نجاحها فإن السلطة آلت إلى مجلس السوفييت الأعلى - برلمان - كما أن رئاسة الدولة حلت في مجلس رئاسي، ثلاثي في الأغلب .
- هناك الثورة العلمانية في تركيا، وبعدها فقد كان هناك رئيس تاريخي، لكن معه مجلس للأمن القومي فيه كما قلنا تمثيل للجيش والقضاء والجامعات .
- هناك الثورة الإسلامية في إيران، وبعدها كان هناك رجل مثل الخميني يمثل دور مرشد النظام الثوري الإسلامي، لكن معه رئيس للجمهورية، وحوله مجالس من خبراء الدستور، وساسة مهمتهم تشخيص مصلحة النظام .
وفي هذه التجارب الثورية كلها - عبر التاريخ - لم يحدث أن كان الانتقال في سلطة الدولة العليا من رجل واحد إلى رجل واحد، ذلك يحدث في الانقلابات، لكنه لا يحدث في الثورات .
محاولة سرقة الثورة العربية
5- هناك محاولات نراها أمامنا لسرقة الثورة العربية التي تطوع بعضهم وسماها “الربيع العربي”، وهي تسمية لا أجد عندي حماسة لها، بل لعلي لا أنكر أنني أستريب في تعبير الربيع مقروناً بالثورة العربية، فالثورات ليست فصولاً تتكرر كل موسم، والربيع في هذه المنطقة - في الطبيعة على الأقل - فصل قصير العمر، محصور بين الشتاء والصيف .
ومسميات “الربيع” كلها فاشلة، من “ربيع أوروبا” 1848 - إلى “ربيع براغ” سنة 1968 - كلها خيبات أمل .
أضف إلى ذلك شيئاً وهو أن هناك قوى تحاول الاستيلاء على “الربيع العربي”، كما يسمونه، وتحاول استغلال موسمه، وتحاول تزويقه بزهور وورود صناعية، تروج لها وكأنها زهور الطبيعة تفتحت وحان قطافها .
خذ ما تفعله أو تقوله السياسة الأمريكية هذه اللحظة في كل مكان في المنطقة، لا أحد في مقدوره أن يقنعني بأن البستاني الموهوب في فردوس “الربيع العربي” هو الرئيس الأمريكي باراك أوباما، أو وزيرة خارجيته الطموحة “هيلاري كلينتون”، أو الرئيس الفرنسي “نيكولاس ساركوزي”، أو رئيس وزراء بريطانيا “دايد كاميرون” .
6- تأمل بدقة ما يجري مثلاً في سوريا، في هذا البلد نظام سيئ، وهناك قوى كثيرة في سوريا بالفعل ترفضه، وفي كل الأحوال فقد طال حكمه بأكثر مما هو صحي، وأكثر مما هو أخلاقي، لأن طول البقاء في السلطة إلى درجة توريثها بإصرار، يفاقم سلبيات السلطة، ويستنزف أداءها، بمعنى أن في سوريا بالفعل حالة ثورية، لكن هناك من يستغل هذه الحالة، ويوظف “الربيع العربي” لصالحه، ولك أن تقرأ كامل التقرير الذي قدمه رئيس مراقبي الجامعة وهو الفريق “الدابي”، ففي هذا التقرير يتحدث الرجل صراحة عن أخطاء للنظام جسيمة، وعن خطايا رصدها فريقه، لكنه يتحدث أيضاً عن ضحايا لم يقعوا، وعن مشاهد لم تحدث، وعن صور وأصوات يجري تصنيعها بالتدليس والتزييف، وكثير منه في معامل باريس ولندن، لكن هذ التقرير تم إجهاضه منذ اللحظة الأولى من قبل أن يخط مقدمه حرفاً واحداً في نصه، على أنه تقرير كاشف، ثم إن الظروف التي أحاطت به ملتوية القصد، وفي الواقع فإن هناك حالة ثورة في سوريا، لكن هناك من يحاول الاستيلاء من الخارج على الثورة وعلى سوريا .
دعني أذكرك أن ذروة المعركة على روح الثورة السورية وعلى سوريا نفسها سوف تبلغ ذروتها خلال أسابيع، ومصر مشغولة مستغرقة في مطاردة نيران متفرقة، لا تعالج صميم مشاكلها، ولا تفتح طريقاً لحلها، وأسوأ من ذلك فلا يبدو لي أننا في مصر واعون بما يجري، ولا مهتمون به، رغم أنه إذا نجح في مقصوده، واستولى على الثورة في سوريا، فقد استولى على سوريا ذاتها .
دعني أستطرد من هنا إلى ملاحظة جانبية لكنها بالنسبة لي مهمة، لأنها تتصل بعدد من المفكرين والمثقفين في مصر، بينهم أصدقاء أعزاء أكن لهم إعجابا غير محدود، فقد قرأت ما يفيد أن بعضهم وقع على بيان يطالب بمقاطعة بضائع روسيا والصين، بسبب استخدام الدولتين لحق اليتو ضد مشروع يتعلق بسوريا عُرض على مجلس الأمن .
أذكر هؤلاء الأصدقاء، وأنا أفهم انحيازهم للحرية وحقوق الإنسان، وأشاركهم هذا الانحياز - أننا جميعا مطالبون بشيء من التدقيق لا يسمح بتناقض لا ضرورة له بين قيمة الحرية وبين حركة التاريخ، لأن الاثنين قيمة الحرية وحركة التاريخ في اتجاه واحد .
في يوم من الأيام قبل قرابة تسعين سنة كانت في “الشام” ثورة حقيقية، أطلقوا عليها وصف الثورة العربية الكبرى، وكان ثوار الشام على حق، لكنهم وقعوا في فخ الاستعانة بالشريف “حسين” وأبنائه قائداً لها، واعتمد الشريف “حسين” بدوره على الكولونيل “لورانس” الذي ادعى لنفسه دور قيادة الثورة العربية، وانتهى بالطبع وبالوظيفة إلى تسليمها بالكامل لمطامع بريطانية، ووضعها تحت سلطة الماريشال “اللنبي” (القائد العام للقوات البريطانية) .
الثورة العربية الكبرى كانت ثورة حقيقية، لكن الشريف “حسين” وأولاده، والكولونيل “لورانس” وقائده “اللنبي” دفعوا مسار ثورة “الشام” إلى سيطرة فرنسا وإنجلترا، وفي أسر اتفاقية “سايكس بيكو” القديمة .
وما أريد قوله هو: نعم نحن مع الشعب السوري في ثورته، لكنها لابد أن تظل ثورته لا يأخذها غيره .
وفي الواقع وعلى الأرجح فإن كلاً من روسيا والصين باستعمال “اليتو” لم يكونا في معارضة الثورة في سوريا، ولكنهما فيما أتابع وأفهم يعارضان تفويضها إلى غير السوريين - إلى الشريف “حسين” - وإلى “لورانس” - وإلى “اللنبي” .
وهذا موقف يمكن شكرهم عليه، حتى إذا كانوا يتخذونه لصالح مطالبهم الاستراتيجية، فذلك ما يفعله أي طرف قوي، لكنهم خُدِعوا مرة قبل ذلك في ليبيا، فقد أجازوا في مجلس الأمن قراراً أخذوا الوعود والعهود بأنه سوف يظل في حدوده، وأهمها أن القوة العسكرية الأوروبية الأمريكية لن تُستَعمل في ليبيا، وجرى تقديم الوعد والعهد بالتحديد إلى “ميدفيديف” رئيس روسيا، و”ينتاو” رئيس الصين، وقُدم إلى الرئيسين مختوماً بتعهد من قادة الغرب مباشرة، لكن هؤلاء راوغوا وتدخلوا بقواتهم الجوية، وبضربات الصواريخ الموجهة، وبقوات خاصة نزلت على الأرض، وكانت هي التي فتحت طريق “طرابلس”، وليس لنا أن نلومهم إذا رفضوا أن يُلدَغوا من نفس الجُحر مرتين .
دور ليفي
ومُناي على أصدقاء أحبهم وأعترف بدورهم - أن يقرأوا كتاباً عن الثورة الليبية نشره في باريس أخيرا “برنارد هنري ليي”، وهو الصديق وثيق الصلة بالرئيس الفرنسي “نيكولا ساركوزي”، وهو المتعاطف مع “إسرائيل”، ليس لأنه يهودي، ولكن لأنه عاشق للدولة الصهيونية حسب قوله هو - وكتاب “ليي” الجديد عنوانه “الحرب بدون أن نحبها” La Guerre sans l aimer يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي”، وقد شرح فيه “برنارد ليي” دوره العملي في ما جرى في ليبيا، وهو بالضبط كتاب “أعمدة الحكمة السبعة” ل”لورانس”، مع اختلافات واسعة في الجنسيات وفي الكفاءات، وبعض ما يرويه “ليي” في كتابه “مرعب”، فهو يقول بصراحة إنه صانع ما جرى في ليبيا ومدبره، وإنه هو الذي كتب بيانات المجلس الانتقالي في ليبيا، وأنه هو الذي حرك دفعات المال وشحنات السلاح من كل مكان إلى ليبيا، وهو الذي دعا إلى حشد القوات، ولقد بلغت صراحته حداً غير معقول عندما وجه اللوم إلى رئيس الوزراء البريطاني “دايد كاميرون” لأنه لم يقبل بالمشاركة في العمليات إلا بعد أن أخذت الشركات البريطانية نصيباً من بترول ليبيا مقدماً . يقول ليي أيضاً إنه هو الذي نصح بتوظيف جامعة الدول العربية لتكون جسراً لوضع ليبيا في سلطة مجلس الأمن كي يطبق فرض حظر جوي انتهى بالطريقة التي رأيناها .
أردت هذه ملاحظة على الهامش، واستطراداً خارج السياق، لأن القضية تختص برجال ونساء أقدرهم وأحترم فكرهم وعطاءهم .
والخلاصة أن هناك حالة ثورة في سوريا، لكن ما حولها مثير للقلق، معبأ بالمخاطر، مزعج إلى أبعد حد، وعلى الأقل فإن “لورانس” أعطى نفسه وصف صديق العرب ونصيرهم، ثم إنه كان يمثل الإمبراطورية البريطانية في ذروة قوتها، ثم إنه كان مسؤولاً أمام “تشرشل”، ثم إن النص الأدبي الذي كتبه “لورانس” في “أعمدة الحكمة السبعة” كان أرقى وأعمق بكثير من نص “الفودفيل” الذي كتبه “ليي”، وعلى أي حال فهو فارق زمن وزمن، وإمبراطورية وإمبراطورية، وموهبة وموهبة، لأنه حتى في “الشر” هناك درجات، وهناك مستويات .
وأعترف أنني أستطيع أن أفهم موقف حلف الأطلنطي، وأستطيع أن أفهم موقف أعضاء مجلس الأمن، ومن وافقوا على القرار المقدم له، ومن اعترضوا عليه، لكني لا أستطيع فهم موقف “مجلس التعاون الخليجي” مثلاً، ولا بعض المجالس العربية غيره .
والحقيقة أنه يجب أن نضع “اليتو” الروسي، و”اليتو” الصيني في إطاره ومعناه، وإذا فعلنا فإن علينا جميعاً أن نراجع تقرير الرئيس “أوباما” عن استراتيجية أمريكا الجديدة في هذا القرن، وسوف نجد أن هذه الاستراتيجية تتجه إلى الشرق، أي إلى المحيط الهادي قُرب الصين مع احتواء روسيا، ولكي يتحقق ذلك بأمان فإن منطقة الشرق الأوسط التي كانت منطقة صراع الحرب الباردة لابد أن تتم تصفية بقايا مشاكلها بسرعة، لأنها على خلفية المسرح الآسيوي الجديد، ومخاطره الطالعة خصوصا من الصين .
وكذلك فإن الهدف المباشر المقصود في المنطقة الآن هو “إيران” - ضرب “إيران”، وإخلاء الفضاء السياسي والاستراتيجي في المنطقة لسيطرة القوة “الإسرائيلية” دون منازع، إلى جانب تصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية تصفية كاملة ونهائية، وعند إجراء أي حساب حقيقي، فقد أقول:
إن هذا ال “يتو” ليس من أجلنا، ولكنه أيضاً ليس ضدنا .
بل إنه ليس ضد الثورة في سوريا إذا كانت الثورة في سوريا قادرة مستغنية بقوى شعبها، لا تكرر مشاهد التاريخ، ولا تحتاج إلى الشريف “حسين الهاشمي”، والكولونيل “لورانس”، والماريشال “اللنبي”، ولا تنتظر لتقرأ “أعمدة الحكمة السبعة” مرة أخرى، أو أن تطالع طبعة أخرى من الحرب دون أن نحبها - بقلم “ليي” آخر - لم تعرف بعد من هو .
7- وفي وسط هذه الأحوال كلها، وكلها واصلة إلى الذروة خلال أسابيع أو بضعة شهور، فإن مصر تبدو غارقة وغائبة في عالم آخر .
مجلس عسكري لا يحق له ولا يستطيع أن يحكم، وجماهير غاضبة، وشباب حائر بطبائع الثورة ذاتها، وهتاف بسقوط حكم العسكر، ووزارات مُحاصَرة، وانتخابات مجلس شعب فاتت على أي حال، وقد جاءت بنوع من السند المؤسسي لأحوال مضطربة ومرتبكة، مع أن ضعف الإقبال في المراحل الأخيرة من تلك الانتخابات، وأيضا ضعف الإقبال على انتخابات مجلس الشورى - أظهر على نحو ما أن هناك عدم ارتياح عام لما أسفرت عنه نتائج الانتخابات، إلا أننا لم نختبر بعد مدى صلاحية هذا المجلس على الإسهام في صنع مستقبل، ومع ذلك كله وإضافة عليه يكون أمامنا ومن دون دستور أن ننتخب رئيساً جديداً لمجرد سد فجوة فراغ في السلطة، والسلطة ليست هي المشكلة، وإنما المشكلة هي الدولة، والدولة مكشوفة ومعرضة .
* وأرجوك ألا تسألني ما العمل؟
العمل عند أولئك الذين يملكون المستقبل ويقاتلون من أجله، جيلنا لا يعرف، وهو كما قلت يستطيع أن يحاور، ويستطيع أن يحذر، لكن خريطة الطريق عند غيره، لأن طبوغرافيا الطريق إلى المستقبل في حوزته .
وأعرف أن المهمة شاقة، وهي أشبه بالوصف الذي قاله شاعر في وصف حاله حين قال:
إن حالي كزجاج فوق شوك نثروه
ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه
هو فعلاً زجاج تكسرت شظاياه فوق حقل من الشوك، وعلى الحفاة أن يتقدموا لجمعه في يوم رياح خماسينية، حتى يفتحوا طريقا آمناً إلى مستقبل مأمول .
8- هناك قضية أخرى وهي أن المشاعر حساسة مؤثرة بعد تجربة “الانتخابات النيابية” -فهناك من فاجأتهم النتائج- وهناك من لم يتأقلموا بعد عليها حتى من بين الفائزين بها، وتكفي ساعة أو نصف ساعة في مشاهدة وقائع الجلسات، ثم إن هناك حالة وجع عام في البلد يزيد من حدته أن هناك من يتصورونها فرصة للانقضاض، أو الانفلات إلى الأهواء، ويفاقم من هذا الوجع أن المرجعيات التقليدية كلها لم تتغير، بل إنها جميعا مسرفة في الكلام، لا تعرف أن “كثرة الكلام تسيء للمقام”، وإذا أضيف ذلك إلى عشرات الصحف الجديدة والفضائيات الملونة، بما فيه أن هناك كل ليلة أكثر من خمسين برنامجا حواريا - فإن الصخب شديد، والمناقشة الجادة في الدستور أو غيره تكاد تكون استحالة عملية ونفسية وفكرية، ولا يمكن لبلد أن يكتب ميثاق حياته، ويرسم خريطة طريقه في مثل هذا المناخ.
. . وتبقى مصر
وكثيراً ما يخطر ببالي في هذه الأحوال ما نقل عن النرال “آموس يادلين” (مدير الموساد السابق) في آخر تقرير قدمه للجنة الأمن والدفاع في الكنيست “الإسرائيلي”، عندما أشار إلى “أنهم فعلوا في مصر ما لو أراد المصريون إصلاحه لعجزوا”، وفي الحقيقة فإننا نحن الذين فعلنا بأنفسنا - أكثر مما فعلوا بنا، وأليس غريباً أن النظام العربي المتمثل في الجامعة العربية قام على ثلاث دول رئيسة: العراق ومصر وسوريا، ولقد جرى تدمير العراق، وسوريا في مستنقع دم، ولم يبق إلا مصر في هذه الأحوال التي نراها، وإذا استطاعت أن تجد طريقاً، فهناك الأمل .
حاولت معك أن أشارك في بناء خريطة مجسدة ومجسمة للمشهد كما هو وبتضاريسه كما تبدت أمامي، وأما اختيار الطرق على هذه التضاريس فهو مرهون بأجيالكم، أنتم الأقدر على خياراتكم، وأنتم أصحاب المستقبل، ولو أن الشباب سأل أحداً من أجيالنا نفس السؤال: ما العمل قبل 25 يناير 2011 لكانت إجابة أي واحد منا هي تصور حل تقليدي، والدليل أننا فوجئنا بالحدث العبقري الذي وقع في ذلك اليوم .
لم نكن نحن - مهما ادعى أحدنا لنفسه - مَنْ طرح السؤال، أو قام بالرد عليه . . الشباب وكتل الجماهير هم الذين سألوا وأجابوا وفعلوا ما لم يفكر فيه غيرهم، ولم يجب عنه سواهم .
والآن دعني أسألك من جانبي . . قل لي أنت ما العمل؟
أنت يا أستاذ أقدر مني ومن غيري على الإجابة وأظنك قد أجبت، فقد رسمت خريطة، وجسدت تضاريسها، ووضعت علامات تشير إلى الطرق والمسالك، ورفعت إشارات تحذر من المنعطفات والمزالق .
بقي لمن ينظر أن يرى، ولمن يقرأ أن يفكر ويتدبر، ثم يتصرف .
شكرا جزيلاً يا “أستاذ” ونأمل في لقاء آخر قريب، تسعدنا به، ويسعد قراء “الأخبار” .