مرحباً للجميع :

إذاً دخلت الأزمة السورية مرحلة التسويات ... هذا ما كان منتظراً بعد عام على الأزمة .
بالتأكيد الدماء التي سالت والتي قيل أنها هي مشاعل نور نحو الحرية قد لا تكون كذلك ، وقد تصبح البساط الأحمر الذي سيمشي عليه الفرقاء السياسيين بعد إنضاج التسوية السياسية .
وبينما المواجهات على الأرض مستمرة رغم تراجع حدتها نسبياً ، إلا أنها ستظل قائمة إلى أن يتفق على التسوية بشكل نهائي .

في الحقيقة عندما أردت كتابة هذه المداخلة احترت بشدة عماذا أتكلم ... فأنا لا أحب أن أتوقع المستقبل وحتى لو كان لدي شبه يقين بصحة توقعاتي ، فتوقع المستقبل ليس أمراً ذا أهمية أوشيء يدلل على ذكاء بالغ . بقدر ما يدلل في أحسن الحالات على استقراء صحيح للمعطيات المتوفرة بين أيدينا ، وفي أسوءها على تنجيم ناجح لوضع مشكوك باستقراره .
ودائماً قراءاتي لأي حدث تعتمد على استبعاد الأحداث الدراماتيكية التي تصنع الأحداث وتحول مسارها والتي قد لا تكون ظاهرة في الصورة ، إما لعدم توفر معلومات كافية إن كانت وقائع على الأرض أو قراءات وتحليلات ... إلخ ، أو بسبب تأثير الـــ Butterfly Effect ، لأن معرفة أبعاد هذا التأثير لا يعتمد على استقراءات متوازية وتسلسلية للحدث وحسب بل قد يكون أحياناً خارج إطار أي قياس يمكن سحبه على المجتمعات .
وبالتالي استشراف المستقبل أمر مهم وخصوصاً أثناء الأزمات كي يدرك الإنسان إلى أين يسير به مركب الأحداث ، لكن الأهم برأيي هو إعادة قراءة أو تقييم موضوعي لكل ما سبق وللإنجازات التي حصلت على الأرض من قبل النظام أو المعارضة على السواء وفي المقابل ما هي المفاعيل التي انعكست على الشعب السوري جراء هذه الأزمة .

فلو نظرنا من جهة النظام فالنظام منذ عام وحتى الآن شرعن الحل الأمني كحل أول وأساسي لتجاوز هذه الأزمة ، وهنا يهمني أن أنبه للخطأ في التقدير الذي يقع فيه البعض عندما يتكلم عن فشل الحل الأمني ، فتقدم الحل الأمني في سوريا بطيء على مستوى سوريا كدولة ، ولكنه كان عالي المردود بالنسبة للنظام السوري وبقائه وثباته بل وشعوره بالفترة الأخيرة بالارتياح لجهة أنه لم يعد محشوراً بالزاوية .

من جهة المعارضة التي تنقسم إلى عدة تقسيمات ولن أتكلم عنها بشكل تفصيلي ولكن سأتكلم باختصار شديد عن تجمعي المعارضة البارزين وهما :
أولاً - المجلس الوطني السوري (مجلس اسطنبول) : لقد أنشئ هذا المجلس ليكون مجلساً تأسيسياً "لحكومة منفى" ، ومن يعرف هذا المصطلح السياسي ومدلولاته يعلم ما المقصود منه وما أهداف هذا المجلس وما هي مهماته ، وهذا ما يفسر كل مواقفه السياسية الراديكالية بدءاً من محاولته الحثيثة للحصول على اعتراف دولي بوجوده وصولاً إلى استجلاب التدخل الخارجي .
وأكثر ما يميز هذا المجلس في تركيبته هو إنعكاس التوازنات الإقليمية والدولية على تركيبة هذا المجلس . ويخطئ من يعتقد أن تركيبة المجلس تراعي الاتجاهات السياسية على الأرض في سوريا ، بل هي تركيبة توافقية إقليمية - دولية تماشي الطرح الراديكالي في الشارع السوري واحياناً تغذيه بطرق غير مباشرة لصالح هذا الطرح .
وهذا ما يفسر مثلاً سبب عدم القدرة على إعادة توزيع المناصب ضمن المجلس ، بل وتأسيس هيثم المالح وبعض المعارضين الآخرين ما سمي بمجموعة "العمل الوطني السوري" داخل المجلس والتي كانت عبارة عن "زكزكة" بسيطة ورسالة تحذير من قبل إحدى الدول تجاه دولة أخرى ، بسبب خلاف حدث بينهما مؤخراً لا علاقة له بالموضوع السوري أصلاً .
لكن محصلة إنجازات هذا المجلس إذا ما تجاوزنا عن قضية العلاقات العامة ، والـــ Show الإعلامي على قنوات الخليج ، هي ببساطة صفر مكعب . وباستثناء اعتراف الاتحاد الأوروبي بهذا المجلس كممثل شرعي للسوريين ، ليس هناك إنجازات تذكر . ولكن لو قمنا بصرف سعر هذا الإنجاز في سوق المساومات السياسية سيعرف الجميع أن قيمته تفاوضية مؤقتة تتعلق بالتسويات السياسية التي يتم تحضيرها ، وهذا ما تبين مباشرة بعد ما صرح كوفي عنان بأن الحل في سوريا يجب أن يكون سياسياً والتدخل العسكري غير وارد وحتى موضوع التسليح في الداخل السوري غير مجد . وهذا ما يفسر قضية الاعتراف على أنها موضوع تفاوضي بحت وليس إنجازاً يحسب للمجلس .
وبحسب توصيفي الشخصي للتيارات والشخصيات التي تشكل هذا المجلس ، هم ليسوا أكثر من مجموعة هواة في السياسة بأحسن الأحوال ، ومرتزقة سياسيين في أسوأها .

ثانياً – هيئة التنسيق الوطنية في سوريا : أكثر ما أثبته هذا التجمع وضوح الرؤية ونضج طروحاته السياسية واستشرافه لمنعرجات الأزمة السورية رغم كل التهميش والتخوين والاستهداف الذي تعرضت له شخصيات الهيئة من قبل مجلس اسطنبول والإعلام الخليجي الداهم له من جهة ومن قبل النظام من جهة أخرى .
وأرجو أن لا يقفز أحدهم ليشرح لي أنني مخطئ في هذا الاستنتاج ، لأني سأحيله على مواقف الهيئة منذ تأسيسه وحتى الآن وسيعرف أي مراقب محايد أنهم في كل طروحاتهم السياسية كانوا ناضجين يوصفون الواقع السياسي السوري الداخلي والخارجي بدقة بعيداً عن متطلبات البروباغندا الإعلامية وحسابات الديماغوجية السياسية .
يبقى موضوع التمثيل المختلف عليه ، فلو حاولنا توخي الموضوعية فإن معظم الشخصيات المعارضة (مجلس - هيئة – مستقلين) ليس لها حيثيات حقيقية على الأرض بسبب حالة الأحادية السياسية التي احتكرها النظام خلال الفترة الماضية من تاريخ سوريا . لكن التمثيل يتجسد في الطروحات ونستطيع تقسيمها ببساطة إلى طروحات راديكالية تتمثل في المجلس تتبنى إسقاط النظام وبأي ثمن كان حتى ولو كلف هذا الأمر تدمير الدولة السورية على رؤوس السوريين ، وطروحات معتدلة تتمثل في هيئة التنسيق تتبنى تغيير النظام القائم بكل مرتكزاته مع الحفاظ على الدولة السورية ضمن أقل قدر من الانهيارات .

بابا عمرو "ستاليغراد" :
كنت في مداخلة بسيطة سابقة –لم أعد أذكر في أي موضوع- قلت كلمة بسيطة في سياق تشبيهي لم تؤخذ على محمل الجد أو ربما لم ينتبه لها أحد ، وهي عبارة عن فكرة مفادها أن الحرب الباردة انتهت بسقوط جدار برلين وعادت لتسلل إلى العالم على ضفاف نهر العاصي .
ومن يعرف قوانين وشروط لعبة الحرب الباردة ، يعرف أنه لا يوجد هزيمة ساحقة ماحقة لطرف من أطرافها وإنما هي لعبة تكتسب بالنقاط وتراكم الانجازات .
ولربما بابا عمرو قدمت للمخدوعين كستالينغراد سوريا عبر الإعلام والمعارضين وحتى عبر النظام الذي ترك هذا الحي ومعه مدينة حمص لمصيرها عدة أشهر إلى أن يحين وقت القطاف .
وقد يستقرأ البعض هزيمة مشروع المعارضة المسلح في وجه النظام من خلال سقوط بابا عمرو وهذا صحيح ، وقد يستنتج البعض أن الوقت قد حان للتسويات السياسية وهذا صحيح أيضاً ، ولكن الاستنتاج الأهم الذي يجب أن يخرج منه المراقب هو أن النظام السوري كان يلعب لعبته الأمنية بحرفية عالية ويدير معركته السياسية والأمنية ليس مع المعارضين في الداخل وحسب ، بل وفي مواجهة الدول السائرة في قاطرة إسقاطه أيضاً . بينما الذين انتفضوا في وجه النظام تركوا لمصيرهم نتيجة صبيانية الطروحات الراديكالية التي صورت أن الحل المسلح قد يأتي أكله ، وسيجلب دول العالم لكي تساعدنا على تغيير النظام ، بينما في الحقيقة معظم الخيارات التي سوقت لم تكن للدفاع عن المنتفضين بقدر ما كانت محاولة لتعويم المجلس الوطني السوري وفرضه بديلاً -مقبولاً من الغرب- عن النظام السوري أو ورقة تفاوض معه بحسب تغير الظروف . وبالتالي ركوب انتفاضة الشعب السوري من أجل تأمين مصالح الدول العظمى بغض النظر عن مصلحة هذا الشعب .
وبعيداً عن موال " يا بو كفية وعقال ... ويا بو عقال كفية" الذي يسمعوننا إياه بعض المعارضين ليل نهار على الفضائيات ، فإن سبب الأزمة لا يتحملها النظام السوري لوحده إن كان ببنيته وتركيبته الأساسية ووجوده وما ينتج عن هذه البنية وهذا الوجود من إشكالية وحسب ، بل الوجه الآخر للأزمة هو عدم وجود طرح سياسي ناضج يشكل بديلاً مقبولاً ومقنعاً لعموم السوريين المعتدلين الذين يريدون العبور بسوريا وبالدولة السورية نحو بر الأمان بغض النظر عن بقاء النظام أو ذهابه .
فالأزمة السورية هي أزمة مجتمع سوري يحاول التعرف على ذاته وتلمس طريقه نحو خلاصه ولكن ببطئ ، ومن يعتقدها أنها سياسية تتلخص في نظام قائم ومجلس يقبع في اسطنبول فهو واهم .
إلى هنا سأكتفي بهذا العرض المختصر والمركز في جانب من جوانب الأزمة السورية ، ولا أعرف حقيقة إن كنت سأعود لأتكلم عن الصراعات الدولية والمعادلات التي فرضت وجودها على الأزمة السورية ... سأحاول العودة ولكن لا وعد بذلك .

تحياتي للجميع