الأخ جعفر علي .
كتبت هذه الذكريات بمناسبة عيد الميلاد بشكل سريع للغاية و لم أطورها ،و حتى اليوم عندما فكرت ان أضعها معك في هذا الشريط بينما تفكر في المداخلة التالية تركتها كما هي ، فأحيانا نفسد الحياة عندما نعترضها و نحاول إصلاحها .. هذا ما حدث أتركه كما هو ، فحتى لو لم يكن مفيدآ فلن يضر .
كنت ابنا لموظف حكومي يتنقل بين عواصم المحافظات ، و هكذا قضيت طفولتي في مدينة الفيوم بين أبناء الموظفين ،و كان هناك عدد ملحوظ منهم من المسيحيين ، بما في ذلك "طنط ميري" صاحبة البيت و أخت لها لم أعد أذكر اسمها ، و كانتا تقيمان في بيت آخر لهما على ناصية شارع " الجون " حيث كنت أقيم ، و كانت والدتي صديقة حميمة لهما ، لهذا كانت تصحبني أنا و أخي الأصغر للزيارة و لمشاهدة بعض الإحتفالات التي كانت تجوب الشوارع وقتها مثل ليلة الشك أي الليلة التي تسبق شهر رمضان ، حيث تدور عربات مخصصة لأصحاب الحرف مثل النجارين و السباكين و مبيضي النحاس ... الخ . و أيضا لمشاهدة شجرة عيد الميلاد و الإحتفال مع أقربائها الذين يأتون لزيارتها في هذا اليوم ،لأنها كانت أرملة بلا أولاد . و عندما يمضي الوقت بنا كنا نرقد فجأة كالصغار ، فتتركنا الأم و تأتي صباح اليوم التالي لإصطحابنا إلى البيت . كنا نجد هدايا صغيرة بجوارنا و نسمع " ماما " تقول لطنط ماري :" و ليه التعب دا يا ست ميري ؟!" و بمجرد ما نغادر البيت كنت أقول لأمي " بتشكريها على ايه ؟" هي يعني جابت حاجة ، دا بابا نويل اللي جابه ؟" ،و كنت استشيط غضبا عندما تقص والدتي ما حدث لوالدي بعد عودته من العمل فيضحكان ، كنت أراهما – خاصة والدي – مغفلان لأنهما مسلمان لا يعرفان شيئا ، ولا يدريان أن بابا نويل يأتي بالهدايا لمن يحب المسيح و كنت و أخي نحبه ، و ننظر طويلا إلى صورته المعلقة عند طنط " ميري " و أقول لأخي :" دا أجمل كتير من بابا ، ياريت ماما تزوجته !" ، فكان ينهرني لأنه يحب شارب أبيه و المسيح بلا شارب .
لأن الطفولة تمضي دون أن نعيها فهي أجمل سنوات العمر ، و هي كما يقول صديقي فترة الخلايا الخضراء التي تبقى بعدما تغيب كل الذكريات . على النقيض من كل زملائي ، فهم يولدون في القرية و بها طفولتهم حتى يرحلون إلى المدينة ، عشت طفولتي في المدن فلا أتذكر قريتي في تلك المرحلة . عدت إلى القرية صبيا فبدوت مثل سائح قادم للزيارة ،و لكني مضيت هناك سنوات طويلة حتى بداية التحاقي بالعمل ، عندما رحلت إلى القاهرة نهائيا ، رغم ذلك ظللت مرتبطا بالقرية لأن والدتي رفضت بعناد مغادرتها لتكون قريبة من أرضها . خلال كل تلك السنوات الطويلة لم أصادف حتى مسيحيا واحدا في قريتنا ، بينما كان هناك قلة من الأقباط في مدرستي الثانوية ، و هكذا لم أعد أدري شيئا عن بابا نويل وهل مازال حيا يزور الأطفال الذين يحبون المسيح أم لا ، فقط تبقى في قلبى حب للمسيح و "ماماته" العذراء و ذكريات صافية كالشهد لطنط ماري و هداياها ، حتى مشاعري المشبوبة التي تدفقت على غفلة مني عندما أشاهد الفتيات القرويات على الترعة في الفجر لم تبدد تلك المشاعر الجميلة .