{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
للتحميل: لماذا النشوء والتطور حقيقة
راهب العلم غير متصل
مرشد إلى الإلحاد
**

المشاركات: 12
الانضمام: Jul 2008
مشاركة: #1
للتحميل: لماذا النشوء والتطور حقيقة
للتحميل: لماذا النشوء والتطور حقيقة للعالم الجليل الأستاذ بجامعة أوكسفور د قسم البيولجوجيا التطورية جيري إيه كوين، مترجم لأول مر بالعربية

http://www.mediafire.com/?rb0ruw72uzbqb2r

لماذا النشوء والتطور حقيقة



تأليف: Jerry A. Coyne
أستاذ علم الأحياء التطوري بجامعة شيكاجو
ترجمه إلى العربية: لؤي عشري

Original Title: Why evolution is true

Author: Jerry A. Coyne

Publisher: Oxford University press

Translated to Arabic by Louai Ashry

loayashry@yahoo.com





المحتويات

إهداآ المؤلف والمترجم…………..………...……………………………………..4

مقدمة المترجم..…..……………………………………………………………5

تمهيد..………………………………………………………………………6

مقدمة……………….………………………………………………………9

الفصل الأول: ما هو التطور؟…………..…………………………………………13

الفصل الثاني: مكتوب في الصخور (تاريخ الحياة ومتحجرات الحلقات الانتقالية)...………………25

الفصل الثالث: الآثار: الأعضاء الأثرية والأجنة والجينات الميتة والتصميمات السيئة………………54

الفصل الرابع: الجغرافيا الحيوية (انتشار الكائنات).…...…………………………………75

الفصل الخامس: محرك التطور…………..…………………………………………91

الفصل السادس: كيف يقود الحنس التطور…….……………………………………112

الفصل السابع: أصل الأنواع….……...…………………………………………130

الفصل الثامن: ماذا عنا؟……………………………………………………….144

الفصل التاسع: التطور، عودة على ذي بدء …………………………………………170

الملاحظات…..…………..…………………………………………………178

معاني مصطلحات علمية……………….………………………………………187

إهداء المترجم
إلى المثقفين والمفكرين والعلماء العرب

إهداء المؤلف

For Dick Lewontin

il miglior fabbro


مقدمة المترجم

عندما نجد أشكالاً انتقالية، فهي تظهر في السجل الأحفوري تماماً حيث ينبغي أن تكون. أقدم الطيور تظهر بعد الديناصورات لكن قبل الطيور الحديثة. نرى حيتاناً سلفية تسد الفجوة بين أسلافهم عديمي الخبرة بالسباحة والحيتان الحديثة تماماً. إن لا يكن التطور حقيقة، لما ظهرت المتحجرات في ترتيب له منطق تطوري. مسؤولاً ما هي الملاحظة الممكن تصورها تدحض التطور، تذمر عالم الأحياء سريع الغضب J. B. S. Haldane حسبما يُقال مجيباً: "متحجرات أرانب في العصر الكامبريّ!" (العصر الجيولوجي الذي انتهى عند 542 مليون عام ماضٍ). ليس هناك من حاجةٍ للقول، لم يُعثَر قط على أرانب قبل كامبرية أو أي متحجرات أخرى منطوية على مفارقة تاريخية.

من الفصل الثاني من هذا الكتاب

حينما وضع تشارلز دارون البريطاني عالم التاريخ الطبيعي والحيوان نظريته في النشوء والتطور عبر الانتخاب الطبيعي للصفات في أواخر القرن التاسع عشر في كتابه (أصل الأنواع) كانت الكثير من العلوم ما زالت في مهدها كعلم الأجنة والتشريح والحيوان وسلوك الحيوان والمتحجرات، وأخرى لم تكن قد نشأت وُعرِفت بعد كعلم الوراثة والجينات والحمض النووي والطفرات الوراثية. لقد أدت كل هذه الاكتشافات والعلوم والملاحظات إلى نشوء ما يسمى اليوم بـ "نظرية التطور الحديثة" أو "الدارونية الحديثة" على أساس من علم الجينات أو الوراثة الذي لم يكن يعرف دارون ومعاصروه شيئاً عنه حيث لم يكن قد تم اكتشاف قوانين الوراثة وذيوعها والجينات والحمض النووي بتسلسلاته. وحين يطالع المرء مقالات وبحوث الدوريات العلمية ومواقع الإنترنت الجامعية في مجال علم الحياء وفرعه علم الأحياء التطوري يشعر أن النشر الجماهيري العلمي قد صار في أمس الحاجة إلى "أصل الأنواع" جديد ومعاصر، بمعنى كتاب موسوعي ككتاب دارون، يعالج الأسس العلمية وآخر الاكتشافات والحقائق طبقاً لأحدث المعطيات العلمية. لقد كان جهد دارون في تأليف أصل الأنواع أو غيرها من عشرات الكتب له رغم بداءة العلوم في عصره ضخماً للغاية وخارقاً موسوعياً حيث تعمق سواء في قراآت ومراجع عصره أو دراساته الحقلية خلال رحلاته العلمية حول العالم كعالم للتاريخ الطبيعي واستغرق عشرين سنة يجمع الملاحظات لعمل كتابه الشهير. وقد تفضل المجلس الأعلى للثقافة بقسم المشروع القومي للترجمة بنشر أشهر كتابين لدارون وهما (أصل الأنواع) و(نشأة الإنسان والانتخاب الجنسي) إلا أن كتباً كهذه مع تقدم العلوم اليوم تعتبر بدائية وتراثية للغاية ومليئة بالغموض والأمور المجهولة والتي في عصرنا الحالي لم تعد مجهولة ولا من الغوامض المطلسمة بل عُرِفت وتُوُسِع فيها ككيفية انتقال الصفات الوراثية وقوانينها وظاهرة الطفرات الوراثية والجينات الزائفة وعلم المتحجرات والحلقات الانتقالية وغيرها.

ولعل هذا الكتاب لأستاذ الأحياء Jerry A. Coyne بجامعة شيكاجو بأمركا، هو سعي مجتهد فاضل على طريق كتب من هذا النوع، ولعله قد أدرك الكمال في التأليف بهذا العمل الموسوعي الموجز. وأحد أهم فصوله هو الفصل الثالث ويتحدث عن علم الجينات وعلم وظائف الأعضاء وعلم الأجنة في علاقتهم بالتطور.

يتوجب الإشارة إلى أنه حيثما ترد في الترجمة كلمة (جينيّ) فهي تعني كذلك (وراثيّ)، ونادراً ما بدلت كلمة جيني Geneticبكلمة وراثي، كما في عبارة التباين الوراثي والانجراف الوراثي والدراسات الوراثية، وكثيراً ما ترجمت كلمة (بيولوجيّ) بكلمة (حيويّ)، وكلمة (كروموسوم) أو (كروموسوميّ) بكلمة (صبغيّ)، وقد راعيت الترجمة بدقة دون تغيير للمادة كما وردت وحرفياً، وإن استبدلت كلمة (الدارونية) التي استعملها الكاتب أحياناً بكلمة (نظرية التطور)، كما زودت كمترجم إلى العربية الكتاب ببضع صور إضافية كصور لبعض المتحجرات الانتقالية الهامة ونماذج لثنائية الشكل الجنسية وغيرها لإضفاء المزيد من الحيوية والمشاهدة البصرية على الكتاب كأداوت توضيحية وأدلة، وهذه الصور بلا أرقام.



تمهيد

في 20 ديسمبر من عام 2005، ككثير من العلماء في هذا اليوم، استيقظت شاعراً بالقلق، فالقاضي الفيدرالي John Jones في Harrisburg، في بنسلڤانيا، كان على وشك إعلان حكمه في القضية المرفوعة، من Kitzmiller et al ضد Dover Area School District et al مدرسة بلدة دوڤر والآخرين. لقد كانت قضية فاصلة، وحكم جون كان سيحدد كيف ستُدرِّس المدارس الأمركية التطور.

بدأت الأزمة التعليمية على استحياء، عندما واجه رجال الإدارة التعليمية في بلدة the Dover، في بنسلڤانيا، نقاشاً بصدد أي كتاب مدرسي لعلم الأحياء سيُأمر به لمنهج المدرسة العليا (الثانوية) المحلية. اقترح بعض أعضاء مجلس المدرسة المتدينين_ غير راضين بمناصرة نص الكتاب المدرسي الحالي للتطور الداروني_كتباً بديلة تحتوي فرضية الخلق الكتابية. بعد جدال محتدم، أقر المجلس قراراً يفرض على مدرسي علم الأحياء في مدرسة Dover High schoolقراءة البيان التالي على فصول الدرجة التاسعة الخاصة بهم:

"تتطلب المعايير الأكاديمية لبنسلڤانيا من الطلاب التعلم عن نظرية دارون للتطور وآخر الأمر لعمل اختبار قياسي يكون التطور جزءً منه. لأن نظرية دارون هي نظرية، فهي تستمر في أن تُختَبَر كلما اكتُشِف اكتشاف جديد. النظرية ليست حقيقة. توجد ثغرات في النظرية إذ لا يوجد لها دليل....التصميم الواعي الذكي هو شرح لأصل الحياة يختلف عن رأي دارون. إن الكتاب المدرسي (عن الباندا والناس) متاح للطلاب ليروا إن كانوا يحبون استكشاف هذا الرأي في مسعى لكسب فهم عما يشمله التصميم الذكي حقيقةً. وكما يصح قولنا بصدد أي نظرية أخرى: فالطلاب مُشجَّعون على البقاء منفتحي العقول."

أشعل هذا زوبعة نارية في القضية التعليمية. فقد استقال اثنان من أعضاء المجلس التعليمي التسعة، ورفض كل مدرسي علم الأحياء قراءة البيان على صفوفهم، محتجين بأن (التصميم الذكي) هو دين وليس علماً. وحيث أن تقديم التعاليم الدينية في المدارس الحكومية هو انتهاك لدستور الولايات المتحدة، فقد رفع أحد عشر ولي أمر غاضب القضية إلى المحكمة.

ابتدأت القضية في 26 سبتمبر عام 2005، واستمرت لستة أسابيع، وكانت مسألة حيوية، أعلنت على نحو معلَّل كـ (قضية Scopes في قرننا)، بعد المحاكمة الشهيرة في عام 1925 لمدرس المرحلة التعليمية العليا John Scopes، من Dayton, Tennessee، والتي أدين فيها لتعليمه أن البشر قد تطوروا. نزلت الصحافة القومية إلى بلدة Dover الناعسة، والتي هي منذ ثمانين سنة أبكر القرى نوماً في Dayton، حتى حفيد تشارلز دارون، برز في الحدث، باحثاُ القضية في كتاب.

لكل الأسباب فقد كانت اضطراباً. كان الادعاء بارعاًَ ومستعداً جيداً، والدفاع فاقداً البريق. اعترف العالم الألمع الشاهد الخاص بالدفاع بأن تعريفه لـ "العلم" كان متحرراً بحيث يمكن أن يشمل التنجيم. وفي النهاية، بُرهِن على أن كتاب (عن الباندا والناس) كان عملاً مدبراً مسبقاً، كتاب خَلقيّ فيه تُستبدل كلمة "الخلق" ببساطة بكلمة "التصميم الذكي".

لكن القضية لم تكن واضحة النتيجة قبل إعلانها، فإن القاضي Jones كان معيناً من قِبَل الرئيس George W. Bush، وهو متردد مخلص على الكنيسة، ومؤيد للحزب الجمهوري المحافظ، فليس بالضبط مؤيداً للتطور. حبس كل امرئ أنفاسه وانتظر بتوتر.

قبل خمسة أيام من عيد الميلاد، أعلن Jones حكمه، لصالح التطور. هو لم يصطنع الكلام، حاكماً بأن سياسة المجلس التعليمي هي واحدة من "التفاهات المفزعة"، تلك التي كذَّبها المدعى عليهم عندما ادعوا أنهم لا يقومون بتحريضات دينية، والأهم، أن التصميم الذكي كان مجرد خَلقية معادة التدوير.

"إن رأينا أن المطلع الصائب التفكير والموضوعي، بعد النظر في الملف الضخم لهذه القضية، ومسألتنا هذه، يصل إلى النتيجة الحتمية أن التصميم الذكي هو جدال لاهوتي مثير للاهتمام، إلا أنه ليس علماً...... والخلاصة، فإن تنصل المجلس التعليمي بتمييز نظرية التطور بمعالجة خاصة، يحرف مكانتها في المجتمع العلمي، ويجعل الطلاب يشكون في صحتها دون تبرير علمي، مقدماً للطلاب بديلاً دينياً متنكرً كنظرية علمية، موجهاً إياهم للتعامل مع نص خَلقي (عن الباندا والناس) كما لو أنه مرجع علمي، ويُعلِّم الطلابَ الامتناعَ عن التساؤل العلمي في فصول المدراس الحكومية، وبدلاً عن ذلك البحث عن التعاليم الدينية في كل الأمور."

ثم أيضاً انطلق Jones بخفة إلى جانب ادعاء الدفاع أن نظرية التطور متصدعة على نحو مهلك:
"بالتأكيد، فإن نظرية دارون عن التطور غير ملزمة. ومع ذلك، حقيقة أن نظرية علمية لا يمكنها علاوة على ذلك تقديم تفسير كل النقاط لا يجب أن تُستعمَل كذريعة للطعن بنظرية بديلة غير قابلة للاختبار قائمة على الدين في الحصص العلمية تحريفاً للفرضيات العلمية الراسخة."

لكن الحقيقة العلمية تُقرر من قِبَل العلماء، لا القضاة. ما قام به Jones كان ببساطة منع تشويش حقيقة راسخة من قِبَل مناوآت وثوقية ومتحيزة. ومع ذلك، كان حكمه نصراً عظيماً للمدارس الأمركية، وللتطور، وحقيقةً للعلم نفسه.

مع ذلك، فلم يكن ذلك هو وقت الشعور بالارتياح. فهذه بالتأكيد لم تكن آخر معركة سنحتاج إلى خوضها لمنع الرقابة على التطور في المدارس. فخلال أكثر من خمس وعشرين سنة من التدريس والدفاع عن التطور البيولوجي، تعلمت أن الخلقية كلعبة المهرج السمين القصير القابل للنفخ التي لعبت بها في صغري: عندما تلكمها تهبط، لكن بعد ذلك تنتفخ مجدداً. وإذا كانت قضية بلدة Dover قصة أمركية، فإن الخلقية ليست مشكلة أمركية على نحو فردي. فإن الخلقيين_الذين ليسوا بالضرورة أن يكونوا مسيحيين فقط_يرسخون مواطئ أقدامهم في أجزاء أخرى من العالم، خاصة في الولايات المتحدة، وأستراليا، وتركيا. تبدو المعركة لأجل التطور لا تنتهي. والمعركة هي جزء من حرب أوسع، حرب بين العقلانية والخرافة. إن ما هو على المحك ليس إلا العلم نفسه وكل فوائده التي يقدمها للمجتمع.

تعويذة مناوئي التطور_سواء في أمركا أو أي مكان آخر_هي نفسها دوماً: "نظرية التطور في أزمة". بما يتضمن أن هناك ملاحظات صعبة الفهم بصدد الطبيعة تتعارض مع الدارونية. إلا أن التطور هو أكثر من "نظرية"، ناهيك عن نظرية في أزمة. إن التطور حقيقة علمية. وبعيداً عن الشك المطروح منهم على الدارونية، فإن الأدلة المجموعة من قِبَل العلماء خلال قرن ونصف مضى تدعمها على نحو تام، مبرهنة أن التطور قد حدث، وأنه حدث إلى حد كبير من خلال أعمال الانتخاب الطبيعي، كما اقترح دارون.

يعرض هذا الكتاب الخطوطَ الرئيسية للأدلة على التطور. بالنسبة للذين يعارضون التطور كمسألة إيمان على نحو محض، لا كم الأدلة، فما لديهم هو اعتقاد غير قائم على العقل. أما بالنسبة للذين يجدون أنفسهم غير متأكدين، أو يقبلون التطور لكن غير متأكدين من كيفية الجدال في قضيتهم، فهذا الكتاب يعطي موجزاً بليغاً لسبب إدراك العلم الحديث للتطور كحقيقة. أقدمه على أمل أن يشاركني الناس في كل مكان تعجبي من القوة التفسيرية الشفافة للتطور الداروني، ويواجهوا معانيه الضمنية بلا خوف.

أي كتاب عن علم الأحياء التطوري هو بالضرورة تعاون، إذ الحقل يتضمن مجالات متعددة كعلم المتحجرات، والأحياء الجزيئي، وعلم الجينات، وعلم الجغرافيا الأحيائية، ولا يمكن لشخص واحد التسيد فيهم كلهم. أنا ممتن لمساعدات ونصائح الكثير من الزملاء، الذين أرشدوني بصبر وصححوا أخطائي، هؤلاء يتضمنون: Richard Abbott, Spencer Barrett, Andrew Berry, Deborah Charlesworth, Peter Crane, Mick Ellison, Rob Fleischer, Peter Grant, Matthew Harris, Jim Hopson, David Jablonski, Farish Jenkins, Emily Kay, Philip Kitcher, Rich Lenski, Mark Norell, Steve Pinker, Trevor Price, Donald Prothero, Steve Pruett-Jones, Bob Richards, Callum Ross, Doug Schemske, PaulSereno, Neil Shubin, Janice Spofford, Douglas Theobald, Jason Weir, Steve Yanoviak, and Anne Yoder . وإني لأعتذر للذين نُسِيَت أسماؤهم دون قصد، وأبرئ الجميع عدا نفسي من أي أخطاء باقية. أنا ممتن على نحو خاص لـ Matthew Cobb, Naomi Fein, Hopi Hoekstra, and Brit Smith، الذين قرؤوا المخطوطة التامة.

كان الكتاب سيكون مجدباً بشدة دون العمل الصعب والفطنة الفنية للرسام Kalliopi Monoyios. ختاماً، فإنني ممتن لوكيلي الأدبي John Brockman، الذي وافقني أن الناس يحتاجون إلى سماع الأدلة على التطور، وللمحررة من مطبعة جامعة أوكسفورد Latha Menon لمساعدتها ونصيحتها ودعمها الذي لا يكل.












مقدمة

"دارون مهم، لأن التطور مهم، التطور مهم لأن العلم مهم، العلم مهم لأنه القصة المتفوقة لدهرنا، قصة ملحمية عن من نحن، من أين أتينا، وإلى أين نمضي."

Michael Shermer

من بين كل العجائب التي اكتشفها العلم عن الكون الذي نسكن فيه، لا موضوع أثار فتنة وسخطاً أكثر من التطور. هذا ربما لأنه لا تحمل المعلومات عن أي مجرة عظيمة أو نيوترين مثل تلك المعاني الضمنية ذوات الطبيعة الشخصية. يمكن للتعلم عن التطور أن يغيرنا على نحو عميق. فهو يرينا موضعنا في كل أبهة الحياة العظيمة والرائعة. إنه يوحدنا مع كل كائن حي على الأرض اليوم ومع عشرات الآلاف من الكائنات التي انقرضت منذ زمن بعيد. يعطينا التطور الرواية الحقيقية عن أصولنا، بدلاً من الأساطير التي أرضتنا لآلاف السنين، يجد البعض هذا مرعباً بشدة، وآخرون مثيراً على نحو لا يوصف.

انتمى تشارلز دارون_بالتأكيد_إلى الفئة الثانية، وعبر عن جمال التطور في الفقرة الختامية الشهيرة لكتابه الذي كان فاتحة كل ما تلاه، كتاب (عن أصل الأنواع) عام 1859:

"هناك عظمة في هذه الرؤية للحياة، فبقدراتها العديدة المختلفة، منفوخةً في الأصل إلى أشكال قليلة أو شكل واحد، وبينما كان هذا الكوكب يدور بناء على قانون الجاذبية الثابت، من خلال بداية بسيطة إلى هذا الحد طُوِّرَت وتُطوَّر أشكال لانهائية ورائعة للغاية. لكن هناك بدرجة أكبر سبب آخر للتعجب. إذ أن عملية التطور، الانتخاب الطبيعي، الآلية التي قادت أول مجرد جزيء ناسخ لنفسه إلى تنوع ملايين المتحجرات والأشكال الحية، هي آلية ذات بساطة وجمال مذهلين. وهؤلاء هم فقط من يفهمون كيف أنه تُكشَف الرهبة النابعة من إدراك كيفية قدرة عملية مستقيمة كهذه على إنتاج صفات متنوعة على غرار زهور الأوركيد، وجناح الوطواط، وذيل الطاووس."

مجدداً في أصل الأنواع، يصف دارون_متشرباً بالأبوية الڤكتورية_هذا الشعور:
"عندما نتوقف عن النظر إلى أحد الكائنات المتعضية مثلما ينظر الإنسان الهمجي إلى إحدى السفن، على أساس أنها شيء أبعد تماماً من قدرته على الاستيعاب، وعندما نتأمل في كل تركيب معقد وغريزة معقدة على أساس أنها الخلاصة الخاصة بالعديد من الوسائل المخترَعَة، التي يكون كلٌ منها مفيداً للحائز عليه، وبنفس الطريقة التي يكون بها أي مُخْتَرَع آلي عظيم هو الخلاصة الخاصة بالعمل، والخبرة، والتفكير، وحتى التخبطات والأخطاء الخاصة بالعديد من الأفراد العاملين، وعندما نتطلع بهذا الشكل إلى كل كائن متعضي، فلنا أن نتصور المدى الأكبر للتشويق_وأنا أتكلم من واقع التجربة_التي قد تصبح عليها دراسة التاريخ الطبيعي."

نظرية دارون عن أن كل أشكال الحياة هي منتج للتطور، وأن تلك العملية قِيِدَت إلى حد بعيد بالانتخاب الطبيعي، دُعِيَت بأعظم فكرة جاءت على ذهن أي امرئ. لكنها أكثر من مجرد نظرية جيدة، أو حتى بديعة. بل هي أيضاً صحيحة. رغم أن فكرة التطور نفسها لم يكن دارون مبتكرها، فإن الأدلة الوافرة التي حشدها لصالحها أقنعت أغلب العلماء والكثير من القراء المثقفين أن الحياة في الحقيقة قد تغيرت عبر الزمن. هذا استغرق حوالي عشر سنوات فحسب بعد نشر (عن أصل الأنواع) في عام 1859. لكن لسنوات كثيرة بعد ذلك، ظل العلماء متشككين بصدد فكرة دارون الرئيسية المبتكرة: نظرية الانتخاب الطبيعي. ففي الحقيقة، لو كان هناك زمن على الإطلاق عندما كان التطور "مجرد نظرية"، أو كانت "في أزمة"، فهو النصف الأخير من القرن التاسع عشر، عندما كانت الأدلة على آلية التطور غير واضحة، والوسائل التي تعمل بها_الجينات_ كانت لا تزال مجهولة. هذا كله تم تسويته في العقود الأولى من القرن العشرين، ومنذ ذلك استمرت الأدلة على كلٍ من التطور والانتخاب الطبيعي في الارتقاء، ساحقة المعارضة العلمية للتطور. بينما كشف علماء الأحياء الكثير من الظواهر التي لم يكن دارون ليتخيلها. ككيفية تمييز العلاقات التطورية بين الكائنات من تسلسلات الحمض النووي منزوع الأكسجين DNA، فأولاً النظرية المقدمة في (أصل الأنواع) قد ترسخت بثبات. اليوم لدى العلماء يقين بالتطور بنفس القدر الذي لديهم في وجود الذرات، أو الكائنات المجهرية (الميكروبات) كسبب للأمراض المعدية.

لماذا إذن نحتاج كتاباً يقدم لنا الأدلة على نظرية صارت منذ أمد بعيد جزءً من تيار العلم؟ فمع ذلك، لا أحد كتب كتباً تشرح الأدلة على وجود الذرات، أو نظرية الجراثيم المسببة للأمراض. ما المختلف جداً بالنسبة إلى التطور؟

لا شيء، وكل شيء. صحيح أن التطور راسخ بقوة كحقيقة علمية (هو كذلك كما سنتعلم، أكثر من "مجرد نظرية" بمعنى فرض علمي)، ولا يحتاج علماء الأحياء إلى إقناع أكثر. لكن الأمور مختلفة خارج الدوائر العلمية. فبالنسبة إلى الكثيرين يزعج التطور إحساسهم بالنفس. إن كان التطور يقدم درساً، فيبدو أنه أننا لسنا فقط مرتبطين بكل الكائنات، بل نحن_مثلهم أيضاً_منتج القوى التطورية العمياء وغير الشخصية. فإن كان البشر هم فقط واحد من المنتجات الكثيرة للانتخاب الطبيعي، فربما نحن لسنا استثنائيين برغم كل شيء. يمكن تفهم لماذا هذا لا يسر تماماً الكثير من الناس الذين يعتقدون أننا جئنا إلى الوجود بطريقة مختلفة عن الأنواع الأخرى من الكائنات، كالغاية المميزة لهدف إلهي. فهل لوجودنا أي غاية أو معنى يميزنا عن الكائنات الأخرى؟ اعتقد البعض كذلك أن التطور يزيل الأخلاق. فإن كنا_برغم كل شيء_ببساطة حيوانات، فلماذا لا نتصرف كالحيوانات؟ ما الذي يبقينا أخلاقيين إن كنا لسنا أكثر من قرود ذوي أدمغة كبيرة؟ لا نظرية علمية أخرى تسبب مثل هذا الانزعاج لعوام الناس.

إنه لمن الواضح أن هذه المقاومة تنشأ إلى حد بعيد من الدين. يمكنك أن تجد أدياناً ليس فيها عقيدة الخلق ، لكنك لا تجد أبداً عقيدة الخلق دون الدين. فالكثير من المتدينين لا يعتقدون فحسب أن البشر استثنائيون، بل ينكرون حقيقة التطور بالتأكيد على أننا_كالأنواع الأخرى_مواد خلق إلهي لحظي من قِبَل الألوهية. بينما وجد الكثير من الناس المتدينين سبيلاً للمواءمة بين حقيقة التطور ومعتقداتهم الروحانية، لا توفيق مثل هذا ممكن إن التزم امرؤٌ بعقيدة الخلق المستقل لكل كائن على حدة كحقيقة حرفية. هذا سبب شدة قوة المعارضة لحقيقة التطور في الولايات المتحدة الأمركية وتركيا. حيث تتغلغل المعتقدات الأصولية. تظهر الإحصائيات بشدة مدى المقاومة التي يقوم بها الأمركيون لقبول الحقيقة العلمية البسيطة للتطور. رغم الأدلة العلمية غير القابلة للدحض أو الجدل لحقيقة التطور، فسنة تلو سنة تظهر الاستبيانات أن الأمركيين متشككون على نحو مؤسف في هذا الفرع الوحيد من علم الأحياء . في عام 2006، على سبيل المثال، طُلِب من الراشدين في 32 ولاية أن يجيبوا على التوكيد التالي: "الكائنات البشرية_كما نعرفهم_تطوروا من نوع أبكر من الحيوانات."، بالإجابة إذا كانوا يعتبرونه حقيقة، أم خطأ، أم غير متأكدين. في العصر الحاضر، هذه العبارة صحيحة تماماً، كما سوف نرى: دليل الجينات والمتحجرات يظهران أن البشر تحدروا من خط تحدر للرئيسيات، والذي انفصل عن سلفنا المشترك مع الشمبانزي منذ حوالي سبعة ملايين سنة. ورغم ذلك فإن نسبة 40% فقط من الأمركيين_أي أربعة من كل عشرة أشخاص_حكموا على الجملة بأنها صحيحة (كانت النسبة أعلى بـ 5% عام 1985). يكافئ هذا الرقم تقريبا نسبة الأشخاص الذين قالوا أنها خطأ وهي 39%، والباقون 21% هم ببساطة غير متأكدين.

هذا يصير جديراً بالملاحظة بدرجة أكبر عندما نقارن هذه الإحصائيات بالتي في البلاد الغربية الأخرى. فمن بين واحد وثلاثين أمة أخرى ممسوحة بالاستبيانات، فقط تركيا_حافلة بالأصولية الدينية_تحتل مرتبة أدنى في قبول التطور (25% يقبلون، 75% يرفضون). الأوربيون_على جانب آخر_يسجلون نسباً أفضل بكثير، بأكثر من 80% في فرنسا والدول الإسكندناڤية وأيسلاند يرون التطور كحقيقة. في اليابان 78% من الناس يوافقون أن البشر قد تطوروا. تخيل لو أن أمركا احتلت مرتبة أقرب إلى الأخيرة بين البلدان التي تقبل وجود الذرات! كان الناس سينطلقون فوراً للعمل على تحسين التعليم في علم الفيزياء.

ويتلقى التطور ضربة أكثر على مستوى أعلى عندما نصل إلى ليس تقرير إذا كان صحيحاً، بل إذا كان يجب أن يُدرَّس في المدارس الحكومية. فحوالي ثلثي الأمركيين يشعرون أن التطور إذا دُرِّس في الحصص العلمية، فيجب ان يُدرَّس الخلق كذلك. فقط 12% _واحد من كل ثمانية أشخاص_يعتقدون أن التطور يجب أن يُدرس دون إشارة لبديل خلقي. ربما جدلية "تدريس كل الجوانب" تروق للإحساس الأمركي بالمعاملة العادلة، لكن بالنسبة إلى معلم فهو أمر محبط حقاً. فلماذا تدريس نظرية مكذوبة مبنية على أساس ديني_حتى وإن تكن مصدقة على نحو عريض_جنباً إلى جنب مع نظرية علمية واضحة الصحة للغاية؟ هذا كالمطالبة بتدريس السحر والعرافة في كليات الطب جنباً إلى جنب مع الطب العلمي الحديث، أو التنجيم في حصص علم النفس كنظرية بديلة للسلوك الإنساني. ربما أكثر الإحصائيات إرعاباً هي هذه: رغم قوانين التجريم، فإن واحداً من كل ثمانية مدرسي أحياء تقريباً في المدارس العليا الأمركية يسمحون بتقديم الخلقية أو التصميم الذكي كبديل علمي صحيح للتطور. (وربما هذا ليس مذهلاً إن علمنا أن واحداً من كل ستة مدرسين يعتقدون أن الله خلق البشر بشكلهم الحالي تقريباً، منذ عشرة آلاف سنة فقط!).

على نحو مؤسف، فإن معاداة التطور التي كثيراً ما اعتُبِرت مشكلة أمركية بصورة مميزة، تنتشر الآن في بلدان أخرى، تشمل جرمانيا والمملكة البريطانية المتحدة، في المملكة المتحدة بعام 2006، سأل استفتاء عملته قناة BBC ألفي شخص أن يصفوا آراءهم في كيفية تكون الحياة وتطورها. بينما قبل 48% الرؤية التطورية، اختار 39% إما الخلقية أو التصميم الذكي، و13% لم يعرفوا. واعتقد أكثر من 40% من المستعلَمين أنه يجب تدريس الخلقية أو التصميم الذكي في حصص العلوم بالمدارس. هذا ليس مختلفاً جداً عن إحصائيات أمركا. وبعض المدارس في المملكة المتحدة تقدم فعلاً التصميم الذكي كبديل للتطور، وهو تكتيك غير قانوني في الولايات المتحدة. مع اكتساب الأصولية المسيحية موطأ قدم في جزء من أوربا، والأصولية الإسلامية المنتشرة في الشرق الأوسط، تتبع الخلقية صحوتهم. وكما كتبت، فإن علماء الأحياء الأتراك يجابِهون بحركة مقاومة ضد خلقيين مدعومين جيداً بالمال ومجعجعين في بلدهم. و_للسخرية القصوى_فقد رسخت الخلقية موطأ قدم حتى في أرخبيل الجالاباجوس (مجموعة جزر تتنوع أشكال الحياة فيها كانت عاملاً رئيسياً في بداية ملاحظة دارون لحقيقة االتطور العلمية). هناك_ في نفس الأرض التي صارت من رموز نظرية التطور، الجزر "الأيقونية" التي ألهمت دارون_ مدرسة لطائفة Seventh-day Adventist (مقدسي اليوم السابع (سبتيون) المؤمنين بقرب قدوم المسيح الثاني) توزع كتب بيولوجي خلقية غير مخففة للأطفال من كل العقائد.

عدا صراعها مع الأصولية الدينية، يحيط بنظرية التطور_عند العوام_الكثير من التشوش وعدم الفهم بسبب العوز الجاهل إلى إدراك وزن وتنوع الأدلة لصالحها. بلا شك فإن البعض ببساطة غير مهتمين. لكن المشكلة الأكثر انتشاراً من ذلك، هي عوز المعلومات. فحتى الكثير من زملائي في علم الأحياء غير محيطين علماً بالكثير من مسالك الأدلة على التطور، والكثير من طلابي الجامعيين_الذين درسوا التطور في المدارس العليا كما يُفترَض_يأتون إلى محاضراتي غير عالمين أي شيء تقريباً عن هذه النظرية الأساسية المنظمة لعلم الأحياء. وعلى الرغم من التغطية الواسعة للخلقية، وسليلها المعاصر: التصميم الذكي، لا تقدم الصحف الشعبية أي خلفية تقريباً عن سبب قبول العلماء للتطور. فلا عجب_إذن_أن الكثير من الناس يسقطون فريسة خطابة الخلقيين وعدم فهمهم المتعمد للتطور.

رغم أن دارون كان أول من جمع الأدلة على النظرية، حيث كان البحث العلمي في عصره قد اكتشف سيلاً من الأمثلة الجديدة تظهر التطور في عمله. فنحن نلاحظ أن النوع يتفرع إلى اثنين أو أكثر، ونجد المزيد والمزيد من المتحجرات احتفظت بعلامات التغير في الماضي، كديناصورات أنبتت ريشاً، وأسماك أنمت أطرافاً، وزواحف متحولة إلى ثدييات. في هذا الكتاب سأحبك سوياً كل خيوط الاكتشافات العلمية الحديثة في علوم الجينات، والمتحجرات، والجيولوجي علم طبقات الأرض، والأحياء الجزيئي، والتشريح، والتطور العلمي الذي برهن على "الختم الذي لا يُمحى" للعمليات التطورية التي اقترحها لأول مرة تشارلز دارون. سنبحث في: ما هو التطور، وما ليس هو، وكيف يتحقق المرء من صحة نظرية تغضب الكثير من العوام.

سنرى أنه بينما إدراك المعنى الكامل بالتأكيد يتطلب تغيراً عميقاً في الفكر، فهو لا يقود حتمياً إلى العواقب الرهيبة التي يصفها الخلقيون دوماً عندما يحاولون تنفير الناس من نظرية التطور العلمية. لا يتطلب الاقتناع بالتطور تحولك إلى العدمية النهلستية البائسة، أو تجريد حياتك من الغاية والمعنى. هي لا تجعلك عديم الأخلاق، ولا تقدم لك آراء ستالين أوهتلر. ولا يجب أن تدعم الإلحاد، لأن التدين المستنير لطالما وجد دوماً السبيل للتوافق مع تقدم العلوم. في الحقيقة فإن فهم التطور لابد حتماً أن يعمق ويغني إدراكنا لعالَم الأحياء ومكاننا فيه. فحقيقة أننا_كالأسود والأشجار الحمراء والضفادع_كلنا نتجنا عن التبديل البطيء لجين بآخر، منحت كلُ خطوة أفضليةً مُنتَجَة صغيرة، هي بالتأكيد أكثر إقناعاً من الأسطورة القائلة بأننا جئنا إلى الوجود فجأة من العدم، وكما العادة، صاغها دارون على نحو أفضل:

"عندما أنظر إلى كل الكائنات ليس كعمليات خلق مستقلة، بل كالمتحدرين المباشرين من بعض الكائنات القليلة منذ زمن طويل قبل ترسب أول طبقة من منظومة العصر الكامبري، فإنهم يبدون لي يصيرون مُعَظَّمين."
















الفصل الأول
ما هو التطور؟

‘‘الجانب الغريب لنظرية التطور هو أن كل أحد يعتقد أنه يفهمها.’’

Jacques Monod

إذا كان أي شيء صحيحاً عن الطبيعة، فهو أن النباتات والحيوانات تبدو مصممة على نحو معقد وكامل تقريباً لعيش حيواتهم. فالحبار والسمك المفلطح يغيرون ألوانهم ويحاكون للانسجام مع محيطاتهم، صائرين غير مرئيين للمفترسين والفرائس. الخفافيش لديها رادار لاستهداف الحشرات ليلاً. الطيور الطنانة والتي نقدر أن تحوم في مكان وتغير موضعها في لحظة أكثر رشاقة من أي طائرة عمودية (هليكوبتر) بشرية، ولديها ألسنة طويلة لترشف الرحيق المتوضع عميقاً في الزهور. والزهور التي تزورها تبدو بدورها مصممة لاستعمال الطيور الطنانة كمساعدين لتكاثرها الجنسي بحبوب اللقاح. إذ بينما تنهمك الطيور الطنانة في رشف الرحيق، تلصق الزهورُ غبارَ الطلع بمناقيرها، ممكِّنة إياها من تلقيح الزهرة التالية التي يزورها الطائر. تشبه الطبيعة آلة مزيتة جيداً، وكل نوع هو سن عجلة أو ترس فيها.

ما الذي يبدو أن كل هذا يتضمنه؟ بالتأكيد، ميكانيكيّ رئيس. هذا الاستنتاج عُبِّر عنه بأكبر شهرة من قِبَل فيلسوف القرن الثامن عشر الإنجليزي وليَم بالي William Paley. قال إذا عثرنا على ساعة واقعة على الأرض، سندركها حتماً كعمل صانع ساعات. بطريقة مماثلة، فإن وجود الكائنات المتعضية المتكيفة جيداً وصفاتها المعقدة تتضمن بالتأكيد مُصمِّماً مُدرِكاً، سماوياً، الإله. فلننظر إلى جدلية بالي في كتابه (اللاهوت الطبيعي)، وهي واحدة من أشهر الجدليات في تاريخ الفلسفة:

"عندما نقدم على فحص الساعة، ندرك أن أجزاءها المتعددة قد شُكلت وجُمعت لهدف، على سبيل المثال، فإنها قد شكلت وضُبطت للغاية لإنتاج الحركة، وتلك الحركة مضبوطة للغاية لتعيين الساعة من اليوم، إذ لو صيغت الأجزاء المختلفة على نحو مختلف عما هم عليه، لو حجماً مختلفاً عما هم عليه، أو وُضعوا تبعاً لطريقة أخرى، أو أي ترتيب آخر غير ما هم عليه، فلا حركة كانت ستتواصل في الآلة على الإطلاق، ولا كانت ستفي بالغرض الذي تؤديه الآن.....كل دلالة على الاختراع، كل مظهر للتصميم، مما يوجد في الساعة، يوجد في أعمال الطبيعة، مع فارق، من جهة الطبيعة، كونها أعظم وأكثر، وذلك بدرجة تفوق كل حسبان."

إن الجدلية التي قدمها بالي بهذا الشكل البليغ للغاية كانت شعوراً مشتركاً وقديمة. عندما وصف هو وزملاؤه من (اللاهوتيين الطبيعيين) النباتات والحيوانات، اعتقدوا أنهم يفهرسون عظمة وإبداع الإله الظاهرة في مخلوقاته المصممة جيداً.

دارون نفسه ناهض سؤال التصميم، قبل أن يقوم بإزالته، في عام 1859م:

"فإن ذلك من شأنه أن يساعدنا ولو قليلاً في تفهم كيف تنشأ الأنواع في الطبيعة. وكيف تم اكتمال جميع هذه التكيفات الرائعة لأحد الأجزاء من نظام التعضي مع جزء آخر، ومع ظروف الحياة، وتكيف أحد الكائنات المتعضية مع كائن آخر؟ ونحن نرى هذه التكيفات المتبادلة الرائعة بصورة واضحة جداً في نقار الخشب ونبات الهدال، وبصورة واضحة أقل بقليل فقط في أكثر الطفيليات تواضعاً والتي تتعلق بالشعر الخاص بأحد الحيوانات رباعية الأرجل أو بالريش الخاص بأحد الطيور، وفي بنيان الخنفساء التي تغوص في الماء، وفي البذرة ذات الريش التي تُساق عبر الهواء بواسطة أرق النسمات، وباختصار، فإننا نرى تكيفات رائعة في كل مكان وفي كل جزء من أجزاء العالم العضوي."

كان لدى دارون جوابه الخاص على لغز التصميم. عالم طبيعة حاد الذكاء، تعلم في البدء ليصير كاهناً في جامعة كامبردج(حيث_على نحو ساخر_شغل الحجرات التي كانت لبالي سابقاً)، عرف دارون جيداً القوة المغرية لجدليات كجدلية بالي. أكثر من درس عن النباتات والحيوانات، وأكثر من تعجب من مدى ملاءمة تصميماتهم على نحو جيد مع أساليب حيواتهم. ما الذي سيكون أكثر سوية من الاستدلال على أن الملاءمة تُظهر تصميماً مُدرِكاً؟ إلا أن دارون نظر أبعد من الظاهر، مقترحاً_وداعماً بالأدلة الوافرة_فكرتين بددتا إلى الأبد فكرة التصميم المقصود. هاتان الفكرتان هما التطور والانتخاب الطبيعي. لم يكن أول من فكر في التطور، فإن عديدين قبله، بما فيهم جده هو نفسه إرازموس دارون Erasmus Darwin، بدؤوا فكرة أن الحياة قد تطورت. لكن دارون كان أول من استعمل المعطيات من الطبيعة لإقناع الناس أن التطور حقيقة، وأن فكرته عن الانتخاب الطبيعي هي قصة حقيقية. إن ما يشهد لعبقريته أن تصور اللاهوت الطبيعي، المقبول من معظم الغربيين المثقفين قبل عام 1859، قد تُغُلِّب عليه خلال سنوات قلائل فقط بكتاب واحد من خمسمئة صفحة. (عن أصل الأنواع) حوَّلَ ألغاز تنوع الحياة من الأسطورة إلى العلم الحقيقي.

إذن فما هو التطور؟(1) هذه النظرية البسيطة والجميلة بعمق، نظرية التطور بالانتخاب الطبيعي، قد أسيء فهمها في أغلب الأحيان، وحتى أحياناً حُرِّفَت بمكر، هذا جدير بالتوقف قليلاً لعرض نقاطها ودعاوها الأساسية. سنعود إلى هؤلاء مراراً كلما درسنا الدليل على كل واحد منهم.

في الأساس، فإن النظرية الحديثة للتطور سهلة الفهم. يمكن تلخيصها في جملة واحدة (وإن كانت طويلة قليلاً): تطورت الحياة على الأرض تدريجياً من نوع بدائي واحد_ربما جزيء ناسخ لنفسه_والذي عاش منذ أكثر من 3.5 مليار سنة مضت، ثم تفرع خلال الزمن، منتِجاً أنواعاً متنوعة وجديدة كثيرة، وآلية معظم التغير التطوري_لكن ليس كله_هي الانتخاب الطبيعي.

عندما نتوقف قليلاً امام هذه العبارة، نجد أنها تتألف في الواقع من ستة عناصر: التطور، والتدرجية، والاستنواع (الانقسام إلى أنواع)، والسلف المشترك، والانتخاب الطبيعي، وآليات التغير التطوري غير الانتخابية.

فلنلخص ما يعنيه كل واحد من هذه الأجزاء.

الأول هو فكرة التطور نفسها. هذا يعني ببساطة أن نوعاً يخضع لتغيرات جينية عبر الزمن. مما يعني، انه خلال أجيال كثيرة يمكن لنوع أن يتطور إلى شيء مختلف تماماً. وهذه الاختلافات تقوم على التغيرات في الحمض النووي منزوع الأكسجين DNA، والتي تنشأ كطفرات. إن أنواع الحيوانات والنباتات التي تحيا اليوم لم تكن منتشرة هنا وهناك في الماضي، بل تَحَدَّرَت من تلك التي عاشت في زمن أقدم. فالإنسان_على سبيل المثال_تطور من كائن شبيه بالقرد العلوي، لكن ليس ذات القرود العليا المعاصرة.

رغم أن كل الأنواع تتطور، فهم لا يفعلون ذلك بنفس المعدل. فالبعض_كسراطين حدوة الحصان وأشجار الجنجكو الصينية_قد تطورت على نحو ضئيل خلال ملايين السنين. لا تتنبأ نظرية التطور بأن النواع ستكون متطورة باستمرار، أو بمدى سرعة تغيرهم حينما يفعلون. فهذا يعتمد على الضغوط التطورية التي يعانونها. مجموعتان كالحيتان والبشر قد تطورتا سريعاً، بينما آخرون_كـ Coelacanth والتي تعتبر أحفورة حية_ يبدون مماثلين تقريباً لأسلافهم الذين عاشوا منذ مئات ملايين السنوات.

الجزء الثاني من نظرية التطور هو فكرة التدرجية. يستغرق الأمر أجيالاً كثيرة لإنتاج تغير تطوري ضخم، كتطور الطيور من الزواحف. تطور صفات جديدة، كالأسنان والفكين المميزين للثدييات عن الزواحف، لا تحدث في جيل واحد أو أجيال قليلة فقط، بل عادة خلال مئات أو آلاف أو حتى ملايين الأجيال. صحيح، أن بعض التغيرات يمكنها الحدوث سريعاً جداً. فأفراد الميكروبات لها أجيال قصيرة جداً، بعضها وجيز لدرجة العشرين دقيقة. هذا يعني أن هذه الأنواع يمكن أن تخضع لقدر من التغير في وقت قصير. اعتباراً للنشوء السريع على نحو محزن لمقاومة العقاقير في البكتريا والڤيروسات مسببة الأمراض. وهناك أمثلة كثيرة للتطور المعروف حدوثه خلال عمر إنسان. لكن عندما نتحدث عن تغير كبير حقيقةً، فنحن عادة نشير إلى تغير يتطلب آلافاً كثيرة من الأعوام. لا تعني التدرجية_بأية حال_أن كل الأنواع تتطور بسرعة متساوية، حيث تتفاوت الأنواع المختلفة في مدى السرعة التي تتطور بها، لذا فإن النوع الواحد يتطور أسرع أو أبطأ حسب تزايد أو تضاؤل الضغوط التطورية.

عندما يكون الانتخاب الطبيعي قوياً، مثلما عندما يستعمر حيوان أو نبات بيئة جديدة، يمكن للتغير التطوري أن يكون سريعاً. حالما يصير نوعٌ متكيفاً جيداً مع موطن مستقر، غالباً ما تخف سرعة التطور.

أما الفكرتان التاليتان فهما الوجه الآخر لنفس العملة. إنها لحقيقة جديرة بالملاحظة أن بينما هناك أنواع حية كثيرة، فإن كلنا: أنت وأنا، والفيل، والقط، والصبار الموضوع في إصيص، نتشارك بعض الصفات الأساسية. من بينها السبل الكيميائية الحيوية التي نستخدمها لإنتاج الطاقة، وحروفنا الأربعة الأساسية للحمض النووي DNA، وكيفية قراءتها وترجمتها إلى بروتينات. هذا يخبرنا أن كل الأنواع تعود إلى سلف مشترك واحد، سلف كان لديه هذه الصفات المشتركة ومررها إلى المتحدرين منه. لكن لو كان التطور يفيد تغيراً جينياً تدرجياً خلال نوعٍ فقط، لكان لدينا نوع واحد فقط اليوم، نوع وحيد متطور على نحو عالٍ متحدر من النوع الأول. لكننا لدينا الكثير: أكثر من عشرة ملايين نوع يسكن كوكبنا اليوم، ونعرف أكثر من ربع مليون منهم كمتحجرات. الحياة متنوعة. كيف نشأ هذا التنوع من نموذج سلفي واحد. هذا يتطلب الفكرة الثالثة للتطور: عن الانقسام، أو على نحو أكثر دقة: الاستنواع.

انظر إلى الشكل التوضيحي رقم1، الذي يرينا مثالاً لشجرة تطورية والتي توضح العلاقات بين الزواحف والطيور. لقد رأيناها كلنا من قبل، لكن فلنتفحصها ملياً أكثر بقليل لنفهم ما تعنيه حقيقةً.



ما الذي حدث بالضبط عندما انقسم الملتقى X_مثلاً_إلى خط التحدر المؤدي إلى الزواحف المعاصرة كالسحالي والثعابين على جانب، وإلى خط التحدر الآخر المؤدي إلى الطيور المعاصرة وأقاربهم الديناصوريين على الجانب الآخر؟ يمثل الملتقى X نوعاً سلفياً واحداً، زاحفاً قديماً، انقسم إلى نوعين متحدرين. أحد خطي مضى في طريقه النشيط الخاص، وآخر الأمر انقسم عدة مرات وأدى إلى نشأة كل الديناصورات والطيور المعاصرة. أما خط التحدر الآخر ففعل نفس الأمر، لكنه أنتج معظم الزواحف المعاصرة. غالباً ما يدعى السلف المشترك X س بـ (الحلقة المفقودة) بين المجموعتين المتحدرتين. إنه الرابط النَسَبي بين الطيور والزواحف المعاصرة، نقطة التقاطع التي ستصل إليها في النهاية لو تتبعت خطوط تحدرهم رجوعاً. هناك (حلقة مفقودة) أكثر حداثة هنا أيضاً، الملتقى Y، وهو النوع الذي كان السلف المشترك للديناصورات السائرة على رجلين آكلة اللحوم مثل Tyrannosaurus rex (كلهم منقرض اليوم) والطيور الحديثة. لكن رغم أن الأسلاف المشتركين ليسوا أحياء بيننا بعد، ومن المستحيل تقريباً توثيق متحجراتهم (ومع ذلك، يُمَثَّلون بنوع واحد فقط من آلاف في السجل الأحفوري، ويمكننا أحياناً اكتشاف متحجرات وثيقة الصلة بهم، أنواع ذوات صفات ترينا السلفية المشتركة. في الفصل القادم_على سبيل المثال_سنتعلم عن (الديناصورات المجنحة) التي تدعم وجود الملتقى X.
ما الذي حدث عندما انفصل السلف X إلى نوعين منفصلين؟ حقيقةً، لا شيء أكثر. فكما سنرى لاحقاً، الاستنواع ببساطة هو تطور مجموعات مختلفة لا يمكنها التهجن، أي مجموعات لا يمكنها تبادل الجينات. ما كنا سنراه لو عشنا بالجوار لما بدأ هذا السلف المشترك بالانقسام هو ببساطة مجموعتي سكان لنوع زاحفي واحد، ربما تعيشان في أماكن مختلفة، تبدآن في تطوير اختلافات ضئيلة أحدهما عن الآخر. خلال زمن طويل، تزداد هذه الاختلافات تدريجياً. آخر الأمر تطور مجموعتا السكان اختلافاً جينياً كافياً لكي لا يستطيع أفراد المجموعتين المختلفتين التهجن. (هناك سبل كثيرة يمكن أن يحدث بها هذا: فقد لا يجد أفراد أنواع الحيوانات بعضهم الآخر جذابين جنسياً، أو لو قاموا بالتزاوج تكون الذرية عقيمة. يمكن لأنواع النباتات المختلفة استخدام ملقحين مختلفين أو زهور في مواسم مختلفة، مانعة بذلك التلقيح التهجيني.)

بعد ملايين السنوات لاحقاً، وبعد أحداث انفصالية أكثر، أحد الأنواع المتحدرة الديناصوريةً، الملتقى Y، ذاته انقسم إلى نوعين آخرين، أحدهما أنتج كل الديناصورات السائرة على رجلين اللاحمة، والآخر أنتج كل الطيور الحية. هذه المرحلة الحاسمة في التاريخ التطوري: ميلاد سلف كل الطيور، لم تبدُ فجاتئية هكذا خلال الزمن. نحن لن نرى الظهور المفاجئ لكائنات طائرة من الزواحف، بل مجموعتي سكان مختلفتين قليلاً فحسب من نفس الديناصور، ربما اختلافاً ليس أكثر من أفراد المجموعات السكانية البشرية المتنوعة اليوم. كل التغيرات الهامة حدثت بعد آلاف الأجيال من الانقسام، عندما عمل الانتخاب في خط تحدرٍ واحدٍ منهما على ترقية الطيران، وفي آخر صفات الديناصورات منتصبة القامة. إنه فقط بإعادة النظر إلى الخَلْف يمكننا التعرف على النوع Y على أنه السلف المشترك للديناصورات منتصبة القامة والطيور. هذه الأحداث التطورية كانت بطيئة، وتبدو خطيرة فقط عندما تُنظم في تسلسل كل متحدري هذين التيارين التطوريين المتباعدين.

لكن النوع لا يحتاج دوماً إلى الانقسام، فبعض الأنواع_كما سنرى في الفصل السابع_تقوم على الظروف السامحة بتطوير اختلافات كافية لتصير غير قادرة على التهجن من بعد. وإن الأغلبية العظمى من الأنواع_أكثر من 99% منهم_تنقرض دون ترك أي متحدرين. وآخرين_كأشجار الجنجكو الصينية_تحيا ملايين السنين دون إنتاج أنواع كثيرة جديدة. فالاستنواع لا يحدث أغلب الأحيان. لكن في كل وقت ينفصل فيه نوع إلى نوعين، فهذا يضاعف فرص الاستنواع المستقبلي، بحيث يمكن لعدد الأنواع أن يزداد أسياً. ورغم أن الاستنواع بطيء، فهو يحدث غالباً على نحو كافٍ، خلال تلك العهود المتطاولة من التاريخ، هذا يمكنه أن يفسر بسهولة التنوع المذهل للنباتات والحيوانات الحية على الأرض.

كان الاستنواع هاماً جداً لدارون بحيث جعله عنوان أشهر كتبه. وقدم ذلك الكتاب بعض الأدلة على الانقسام. إن الرسم التوضيحي الوحيد في كل كتاب (عن أصل الأنواع) هو شجرة تطورية تشابه الشكل رقم 1 في كتابنا. لكن من الواضح أن دارون لم يشرح في الحقيقة كيف ينشأ النوع الجديد، إذ_مفتقداً أية معرفة بالجينات_لم يفهم في الحقيقة قط أن شرح الاستنواع يعني شرح حواجز التبادل الجيني (التهجن). بدأ الفهم الحقيقي لكيفية حدوث الاستنواع في ثلاثينيات القرن العشرين. سيكون لدي المزيد لقوله عن هذه العملية، التي هي مجال دراستي الشخصي أساساً، في الفصل السابع.

إنه لمن الواضح للذهن أنه إن كان تاريخ الحياة يشكل شجرة، تنشأ كل الأنواع فيها من جذع واحد، فإن المرء من ثم يمكنه إيجاد أصل مشترك لكل زوج من الأغصان (الأنواع الحية) بتتبع كل غصن عودة خلال فروعه حتى يتقاطعوا عند الفرع المشترك بينهم. هذا الملتقى_كما قد رأينا_هو سلفهم المشترك. وإذا كانت الحياة بدأت بنوع واحد وانقسم إلى ملايين الأنواع المتحدرة من خلال عملية تفرع، ينجم عن ذلك أن كل زوج من الأنواع يتشاركان سلفاً مشتركاً في وقت ما من الماضي. الأنواع القريبة بشدة من بعضها، مثلها مثل البشر الأقارب، لهم سلف مشترك عاش في زمن أقرب على نحو واضح، بينما السلف المشترك لأنواع بعيدة الصلة ببعضها، مثلها مثل البشر بعيدي الصلة ببعضهم، عاش في زمن أقدم من الماضي. هكذا، فإن فكرة السلف المشترك، المبدأ الرابع للتطور، هي وجه آخر لمفهوم الاستنواع. هذا يعني ببساطة أننا يمكننا دائماً النظر رجوعاً في الزمن، مستخدمين سواء تسلسلات الحمض النووي أو المتحجرات، ونجد خطوط التحدر تلتحم عند أسلافهم المشتركين.

فلنتفحص إحدى الشجرات التطورية، وهي الخاصة بالفقاريات (الشكل التوضيحي2). في هذه الشجرة وضعت بعض الصفات التي يستخدمها علماء الأحياء لاستنتاج العلاقات التطورية.


الشكل التوضيحي2: تأريخ تحدري (شجرة تطورية) للفقاريات، تظهر كيف يُنتِج التطور مجموعة تسلسلية من الصفات، وبالتالي أنواع تحتوي هذه الصفات. تشير النقاط إلى نشوء كل صفة في الشجرة. الصفات على الترتيب هي العمود الفقري والفكان والأصابع والبيض السلوي والشعر والمشيمة والأصابع المتقابلة. أما الأنواع فهي قنديل البحر وسمك الجلكي وسمكة الحمار الوحشي والسمندل والثعابين والسحالي والتماسيح والطيور والكنجارو والفئران والشمبانزي والبشر.

بداية فإن الأسماك والبرمائيات والزواحف والطيور والثدييات كلهم لديهم عمود ظهري فقري، هم (فقاريات) لذا فلابد أنهم تحدروا من سلف مشترك قد كان لديه أيضاً عمود ظهري فقري. لكن من بين الفقاريات تتحد الزواحف والثدييات (وتمتاز عن الأسماك والبرمائيات) بأن لديها (بيض سَلَوِي) أي أن الجنين محاط بغشاء ممتلئ بالسائل يُدعى السلا. لذا فلابد أن الزواحف والثدييات كان لديها سلف مشترك أكثر حداثة. سلف مشترك امتلك هو نفسه بيضة كهذه. لكن هذه المجموعة أيضاً تحتوي مجموعتين أدنيين: أحدهما نوع لديه كله شعر وحار الدماء وينتج اللبن (أي الثدييات)، والآخر محرشف بارد الدماء وينتج بيضاً مانعاً للماء (أي الزواحف). ككل الأنواع، هذا يشكل تسلسلاً متداخلاً، تسلسلاً فيه يُعاد تقسيم مجموعة كبيرة من الأنواع يتشارك أفرادها القليل من الصفات إلى مجموعات أصغر من الأنواع المتشاركة صفات أكثر، وهكذا نزولاً إلى أنواع، كالدب الأسود والدب البني الأمركي، الذين يتشاركان تقريباً كل صفاتهم.
في الحقيقة، فإن الترتيب تداخلي الصفات لأشكال الحياة قد أُدرِك منذ زمن طويل قبل دارون. ابتدأ ذلك مع عالم النباتات السويدي Carl Linnaeus عام 1635، ثم شرع العلماء في تصنيف الحيوانات والنباتات، مكتشفين أنهم باتساق يلتزمون بما سُمِيَ تصنيفاً (طبييعياً). على نحو أخاذ، فإن علماء الأحياء المختلفين أتوا بتصنيفات متطابقة تقريباً. هذا يعني أن هذه التصنيفات ليست اصطناعية ذاتية من عمل إنسان يحتاج إلى التصنيف، بل هي تخبرنا شيئاً حقيقياً وأساسياً عن الطبيعة. لكن لا أحد عرف ما هو هذا الشيء حتى جاء دارون فيما بعد، وأظهر أن ذلك الترتيب تداخلي الصفات لأشكال الحياة هو بالضبط ما يتنبأ به التطور. فالكائنات المتشاركة أسلافاً مشتركة قريبة العهد تتشارك الكثير من الصفات، بينما الذين أسلافهم المشتركون أبعد زمناً يكونون أكثر اختلافاً. إن التصنيف (الطبيعي) هو نفسه دليل قوي على التطور.

لماذا؟ لأننا لا نرى مثل هذا الترتيب التداخلي لو حاولنا ترتيب أشياء لم تنشأ يعملية تطورية للانقسام والتحدر. خذ صناديق أعواد ثقاب كرتونية، مما اعتدت على جمعها. هم لا ينتظمون في تصنيف طبيعي على نفس طريقة الأنواع الحية. يمكنك_كمثال_أن تصنف صناديق الثقاب تسلسلياً مبتدئاً بالحجم، ثم البلد المَصدر مع الحجم، اللون مع البلد، وهكذا. أو يمكنك أن تبدأ مع الأصناف المعلن عنها مصنفاً إياها من ثم باللون ثم التاريخ. هناك طرق عديدة لترتيبها، وكل امرئ سيعمل ذلك على نحو مختلف. لا يوجد نظام تصنيف يتفق عليه كل هواة التجميع. هذا لأن بدلاً من التطور، بحيث يعطي كل صندوق ثقاب النشوء لآخر مختلف عنه قليلاً، فإن كل تصميم قد صُنِع من خربشة هوى إنسان.

تتشابه صناديق الثقاب مع أنواع المخلوقات المتوقعة تحت الشرح الخلقي الكتابي لنشوء الحياة. ففي حالة كتلك، لما كان للكائنات سلفية مشتركة، بل كانوا سيكونون ببساطة نتيجة خلق لحظي لأشكال مصمَّمَة لتتلاءم مع بيئاتها. وفقاً لهذه الحبكة (السيناريو) لما كنا لنتوقع أن نرى الأنواع تنتظم في تسلسل تداخلي من الأشكال مُدرَك من قِبَل كل علماء الأحياء. (2)

حتى منذ حوالي ثلاثين عاماً مضت، استعمل علماء الأحياء صفات مرئية، مثل التركيب التشريحي ونمط التكاثر لبناء السلسلة السلفية للأنواع الحية. هذا قام على الافتراض الصائب أن الكائنات ذوات الصفات المتشابهة لها أيضاً جينات متشابهة، وبذا فهي أوثق صلة. لكننا الآن صار لدينا طريقة جديدة قوية ومستقلة لإنشاء السلسلة السلفية: يمكننا النظر مباشرة إلى الجينات نفسها. عن طريق تسلسلات الحمض النووي لأنواع متعددة وقياس درجة تشابه هذه التسلسلات، يمكننا أن ننظم علاقاتهم التطورية. هذا قد تم بتنفيذ الفرضية الصائبة تماماً بأن الأنواع التي لها تشابه حمض أميني أكثر تكون أوثق صلة ببعضها، بما يعني أن أسلافهم المشتركين عاشوا في زمن أكثر قرباً. هذه الطرق الجزيئية لم تحدث كبير تغير في أشجار الحياة المعمولة في حقبة ما قبل اكتشاف الحمض النووي، كل من الصفات المرئية للكائنات الحية وتسلسلات أحماضهم النووية تعطي عادة نفس المعلومات عن العلاقات التطورية.

تؤدي فكرة السلف المشترك على نحو طبيعي إلى تنبؤات قوية وقابلة للاختبار عن التطور. فإن كنا نرى أن الزواحف والطيور مجموعة سوياً بناءً على صفاتهم وتسلسلات أحماضهم النووية، فيمكننا التنبؤ أننا يجب أن نجد أسلافاً مشتركين لبعض الزواحف والطيور في السجل الأحفوري. مثل هذه التنبؤات قد تحققت، معطية بعض أقوى الأدلة على التطور. سنرى بعض هؤلاء الأسلاف في الفصل القادم.

الجزء الخامس من النظرية التطورية هو ما رآه دارون بوضوح كأعظم إعجازه العلمي: فكرة الانتخاب الطبيعي. هذه الفكرة في الحقيقة لم ينفرد بها دارون، فإن معاصره عالم التاريخ الطبيعي ألفرد راسل والِس Alfred Russel Wallace توصل إليها في نفس الوقت تقريباً، مؤديين إلى واحد من أعظم الاكتشافات التاريخية المتزامنة في تاريخ العلم. إلا أن دارون كان له نصيب الأسد لأنه في كتاب (عن أصل الأنواع) طور فكرة الانتخاب الطبيعي بتفصيل عظيم، معطياً الأدلة عليه، ومستكشفاً نتائجه الكثيرة.

لكن الانتخاب الطبيعي كذلك كان الجزء من النظرية التطورية الذي اعتُبِر الأكثرَ ثوريةً في عصر دارون، ولا زال مزعجاً للكثيرين. الانتخاب الطبيعي فكرة علمية ثورية ومقلقة على السواء لنفس السبب: أنها تفسر التصميم الظاهر في الطبيعة بعملية مادية صرفة لا تتطلب خلقاً أو توجيهاً من قوى فوق طبيعية.

فكرة الانتخاب ليست عسيرة على الفهم. إذا تباين الأفراد في نوع جينياً أحدهم عن الآخر، وكان بعض هذه الاختلافات يؤثر على قدرة الفرد على البقاء والتكاثر في بيئته، من ثم فإنه في الجيل التالي سيكون للجينات المؤدية إلى بقاء وتكاثر أعلى نسخ أكثر مقارنة بالجينات التي ليست جيدة هكذا. وبمرور الزمن، ستصير المجموعة تدريجياً متلاءمة مع بيئاتها أكثر فأكثر بسبب نشوء طفرات وراثية مفيدة وانتشارها في المجموعة، بينما الطفرات الضارة تُستأصَل. وآخراً، تنتج هذه العملية كائنات متكيفة جيداً مع مواطنها وأساليب حيواتها.

هاكَ مثالاً بسيطاً: استوطن الماموث المكسو بالفرو الأجزاء الشمالية من أوراسيا وشمال أمركا، وكان متكيفاً للبرودة بإنتاج غطاء سميك من الشعر (عُثِر على عينات متجمدة كاملة منه مدفونة في التندرة، Tundra منطقة خالية من الأشجار تقع بين المنطقة المتجمدة وخط الأشجار في المنطقة المتجمدة الشمالية وأرضها دائمة التجمد)(3). ربما انحدر من أجداد للماموث كان لديها شعر قليل، كالفيلة المعاصرة. أدت الطفرات الوراثية في النوع السلفي إلى أن يكون بعض أفرد الماموث_كبعض البشر المعاصرين_أشعر من الآخرين. عندما صار المناخ بارداً، وعندما انتشر النوع في مناطق أكثر شماليةً، كان الأفراد القاسو الشعر أفضل قدرة على احتمال بيئاتهم القارصة البرودة وتركوا ذرية أكثر من نظرائهم الأكثر جرودة. هذا أغنى المجموعة بجينات كثرة الشعر. في الجيل التالي، سيكون الماموث المتوسط أشعر قليلاً من السابق. فلتستمر هذه العملية خلال بضعة آلاف الأجيال، ويُستبدَل الماموث الأجرد بآخر أشعث. ولتؤثرْ العديد من الصفات المختلفة على مقاومته للبرد (على سبيل المثال: حجم الجسد، كمية الشحم، وهكذا)، وهذه الصفات تتغير بتزامن.

العملية بسيطة على نحو ملاحظ. فهي تتطلب فقط أن يتباين أفراد النوع جينياً في قدرتهم على البقاء أحياء والتكاثر في بيئتهم. مسلِّمين بهذا، فإن الانتخاب الطبيعي والتطور حتميان. كما سنرى، فإن هذا المُتَطَلَّب نجده في كل نوعٍ قد فُحِصَ. وبما أن الكثير من الصفات يمكن أن تؤثر في تكيف الفرد مع بيئته (ملاءمته)، فإن الانتخاب الطبيعي يمكنه_عبر الدهور_نحت حيوان أو نبات إلى شيءٍ يبدو مُصَمَّماً.

إنه من الهام إدراك_مع ذلك_أن هناك اختلافاً حقيقياً فيما نتوقع أن نراه لو كانت الكائنات قد صُمِّمَتْ بإدراك، على العكس مما لو كانوا تطوروا بالانتخاب الطبيعي. فالانتخاب الطبيعي ليس مهندساً أعظم، بل سمكري. فهو لا يُنتِج الكمالَ المطلق الذي يمكن تحقيقه من قِبَلِ مُصَمِّمٍ يبدأ بالرسم أولاً، بل هو أفضل ما يمكن عمله فحسب مع ما لديه ليعمل عليه فعلياً. لا يمكن أن تحدث طفرات وراثية لتصميم كامل لأن الطفرات ببساطة نادرة جداً. وحيد القرن الإفريقي، بقرنيه المتعاقبين، ربما يكون أفضل تكيفاً لحماية نفسه والنزاع مع رفقائه من وحيد القرن الهندي، الذي له قرن واحد (حقيقةً، هي ليست قروناً حقيقية، بل شعر مدموج)، لكن ربما ببساطة لم تنشأ بين وحيدي القرون الهنديين طفرة تنتج قرنين. يظل مع ذلك قرن واحد أفضل من انعدام القرون. وحيد القرن الهندي أفضل من سلفه غير الأقرن، إلا أن أحداث التاريخ الجيني قد تؤدي إلى ما هو أقل من "التصميم" الكامل، و_بالتأكيد_كل شاهد من نبات أو حيوان تُطُفِلَ عليه أو مرض يمثل إخفاقاً في التكيف. وبطريقة مماثلة لكل أسباب الانقراض، والذين يمثلون بأكثر من 99% من الأنواع التي عاشت من قبل. (هذا_بذكر الشيء بالشيء_يطرح مشكلة شنيعة لنظريات التصميم الذكي اللاهوتية. فإنه لا يبدو ذكياً جداً تصميم ملايين الأنواع مقدر لها أن تنقرض، ثم استبدالهم بآخرين، أنواع مماثلة، معظمهم أيضاً سينقرض. مؤيدو التصميم الذكي لم يجتهدوا قط للتفكير في تلك المعضلة).

يجب أن يعمل الانتخاب الطبيعي على تصميم الكائن ككل، مما يعني حلاً وسطاً (تسوية) بين التكيفات. إن إناث السلاحف البحرية تحفر أعشاش بيضها على الشاطئ بزعنفتيها. وهي عملية شاقة بطيئة وخرقاء تعرِّض بيضها للمفترسين. كان امتلاك زعانف شبيهة بالمجارف سيساعدها على الأداء على نحو أفضل والعمل أسرع، لكن حينئذٍ لما استطاعوا السباحة بنفس الجودة. مصمِّم حي الضمير كان ليعطي السلاحف البحرية زوجاً إضافياً من الأطراف، ذا لاحقتين شبيهتين بالمجارف قابلة للانسحاب، لكن السلاحف البحرية_ككل الزواحف_ملتصقة بنموذج تنموي يحدد أطرافهم بأربعة.

الكائنات ليست فقط تحت رحمة حظ انجراف الطفرة (انتشار الطفرة المفيدة في سائر مجموعة النوع)، بل هم أيضاً مقيدون بتاريخهم النشوئي والتطوري. الطفرات الوراثية هي تغيرات في الصفات الموجودة فعلياً. الطفرات لا تخلق أبداً تقريباً صفات جديدة تماماً كالعلامة التجارية. هذا يعني أن التطور يجب أن يبني أنواعاً جديدة انطلاقاً من تصميم أسلافها. التطور هو كمعماري لا يمكنه تصميم بناية بالرسم، بل يجب أن يبني كل مُنشَأ جديد بالتكيف مع بناء أسبق وجوداً، مُبقياً المنشأ صالحاً للسكن طوال الوقت. هذا يؤدي إلى بعض الحلول الوسطى. فنحن البشر _كمثال_ سنكون أفضل حالاً لو تكونت خصانا مباشرة خارج الجسد، حيث درجة الحرارة الأخفض أفضل للحيوانات المنوية. (4) رغم ذلك، فإن الخصيتين تبدآن نشوءهما في البطن. عندما يكون عمر الجنين المتعضي ستة أو سبعة شهور، تهاجران نازليتين إلى كيس الصفن من خلال قناتين تُدعيان القناتين الأُرْبِيتين أو المغبنيتين، مبعداً إياهما عن حرارة باقي الجسد المدمرة. تترك هاتان القناتان نقاطاً ضعيفة في بنيان الجسد مما يجعل الرجال عرضة لحالات الفتق الأربي. حالات الفتق تلك سيئة: إذ يمكن أن تسد المعى، وفي بعض الأحيان تسبب الوفاة في سنوات ما قبل الجراحة. لا مصم ذكي كان ليعطينا هذه الرحلة المتعرجة للخصيتين، إننا ملتصقون بها لأننا ورثنا برنامجنا النشوئي من أسلاف شبيهة بالسمك، الذين تتطورت غددهم التناسلية، وظلت على نحو كامل في البطن. نحن بدأنا النشوء ذوي خصى باطنية لشبه سمك، ثم تطور متحدرونا لاحقاً إلى الخصى الخارجية، كإضافة خرقاء.

لذا فإن الانتخاب الطبيعي لا ينتج الكمال، بل فقط تطويرات على ما وُجدَ من قبل. إنه يُنتِج الأكثر ملاءمةً مما قبل، لا الأكثر ملاءمة على الإطلاق. ورغم أن الانتخاب الطبيعي يعطي مظهر التصميم، فهذا التصميم أغلبَ الأحيان غير متسم بالكمال. بشكل آخر، إنه بهذه العيوب سنجد دليلاً على التطور، كما سنرى في الفصل الثالث.

هذا يأتي بنا إلى آخر نقاط النظرية التطورية الستة: العمليات الأخرى غير الانتخاب الطبيعي التي تلعب دوراً في التغير التطوري. أهمها هو تغير عشوائي بسيط في نسب الجينات السبب فيه هو حقيقة كون الأسر المختلفة لها أعداد مختلفة من النسل. هذا يؤدي إلى تغير عشوائي لا يمكنه عمل شيء بصدد التكيف، لكونه عشوائياً. تأثير هذه العملية على التغير التطوري الهام_مع ذلك_على الأرجح ثانوي، لأنها ليس لديها قوة الانتخاب الطبيعي المُقولِبة. يظل الانتخاب الطبيعي هو العملية الوحيدة التي يمكنها إنتاج التكيف. ومع ذلك_كما سنرى في الفصل الخامس_ فإن الانجراف الجيني ربما لعب بعض الدور التطوري في المجموعات الصغيرة وربما أسباباً لبعض الصفات غير التكيفية للحمض النووي.

هذه_إذن_هي النقاط الست للنظرية التطورية.(5) بعض النقاط مترابطة على نحو أساسي. فلو كان الاستنواع صحيحاً_كمثال_فإن السلفية المشتركة لابد أن تكون صحيحة أيضاً. لكن بعض النقاط مستقلة عن بعضها. فقد يحدث التطور_كمثال_دون أن يحتاج إلى التدرج دوماً. اعتقد بعض (الطفريين) في أوائل القرن العشرين أنه يمكن لنوع فوراً إنتاج نوع آخر مختلف جذرياً بواسطة طفرة واحدة ضخمة. عالم الحيوان الشهير Richard Goldschmidt _على سبيل المثال_جادل ذات مرة بأن أول كائن قابل للتعريف كطائر ربما فقس من بيضة زاحف لا لبسَ فيه. مثل هذه الادعاآت يمكن اختبارها (تفنيدها). تتنبأ النظرية الطفرية بأن الأنواع الجديدة يجب أن تنشأ فورياً من أخرى أقدم، بلا حلقات انتقالية في السجل الأحفوري. لكن المتحجرات تخبرنا أن هذه ليست الطريقة التي يعمل بها التطور. ومع ذلك، تُظهر مثل هذه الاختبارات أن الأجزاء المختلفة من نظرية التطور يمكن اختبار كل منها على نحو مستقل.

بالأحرى، إن يكن التطور قد يكون صحيحاً ، فإن الانتخاب الطبيعي ليس كنفس الحالة. كثير من علماء الأحياء_كمثال_اعتقدوا أن التطور يحدث من قِبَل قوة غامضة أو غائية: قيل أن الكائنات لديها "قيادة داخلية" تجعل الأنواع تتغير في اتجاهات معينة مأمور بها. وقيل أن هذا النوع من القيادة دفع تطور الأسنان النابية الضخمة للنمر سيفي الأنياب، جاعلاً الأنياب تصير أكبر فأكبر، بغض النظر عن فائدتها، حتى لم يعد الحيوان يستطيع إغلاق فمه ومات نوعه جوعاً فانقرض. إلا اننا نعلم اليوم أنه لا دليل على هذه القوى الغائية. لم تمت النمور سيفية الأنياب في الحقيقة جوعاً، بل عاشت هانئة بأنيابها الكبيرة لملايين السنين، قبل أن تنقرض لأسباب أخرى. إلا أن حقيقة أن التطور قد يكون له أسباب مختلفة هو أحد أسباب قبول علماء الأحياء التطور لعقود عديدة قبل قبول الانتخاب الطبيعي. لكن هنا عبارة لازمة هامة ومسموعة بشكل عاميَ: "التطور مجرد نظرية، أليس كذلك؟"

متحدثاً إلى مجموعة إنجيلية في تكساس عام 1980، وصف المرشح الرئاسي رونالد ريجان التطور هكذا: "حسناً، إنها نظرية، إنها نظرية علمية فقط، وقد عورِضت في السنوات المعاصرة في عالم العلم ولم يُعتقَد بها حتى الآن في المجتمع العلمي كصحيحة كما اعتُقِد بها قديماً."

الكلمة الأساسية في هذا الاقتباس هي "فقط". نظرية فقط. التضمين أن هناك شيئاً ما ليس صحيحاً تماماً بصدد كلمة نظرية، أنه مجرد تخمين، وخاطئ جداً على الأرجح. في الحقيقة، فإن المفهوم اليومي العامي لكلمة (نظرية) هو (تخمين) أو افتراض، كما في جملة: (نظريتي أن Fred متيم بـSue )، لكن في العلم تعني كلمة (نظرية) شيئاً مختلفاً تماماً، موصلاً ثقةً أبعد من ذلك ودقة صارمة، أكثر من نزوة تخمين بسيط.

وفقاً لقاموس أُكسفورد للإنجليزية Oxford English Dictionary، النظرية العلمية هي: "جملة لما يعتبر قوانين عامة، أو مبادئ، او أسباب لشيء معروف أو مُلاحَظ." هكذا يمكننا الحديث عن (نظرية الجاذبية) كفرضية أن كل الأشياء ذوات الكتلة تجذب بعضها البعض وفقاً لعلاقة دقيقة تتضمن المسافة بينهم. أو نتحدث عن (نظرية النسبية) التي تضع مزاعم محددة عن سرعة الضوء وتقوس الفضاء والزمن.

هناك نقطتان أريد أن أشدِّد عليهما هنا. أولاً، في العلم، نظرية تعني أكثر من مجرد تخمين لما هي الأشياء عليه: إنها مجموعة مدروسة جيداً من الافتراضات تهدف إلى شرح الحقائق عن العالم الحقيقي. (النظرية الذرية) ليست فقط جملة أن (الذرات موجودة): فهي جملة عن كيفية تفاعل الذرات مع بعضها البعض، مكونةً مركبات، ومتصرفة كيميائياً). بالمثل، فإن نظرية التطور أكثر من مجرد جملة: (التطور قد حدث): إنها مجموعة من المبادئ المدعومة على نحو شامل بالتوثيقات، لقد شرحت الستة مبادئ الرئيسية، التي تشرح كيف ولما يحدث التطور.

هذا يأتي بنا إلى النقطة الثانية. لكي تُعتبر نظريةٌ علميةً، فلابد أن تكون قابلة للاختبار وتقوم بتنبؤات يمكن إثباتها. بما يعني، يجب أن نكون قادرين على عمل ملاحظات على العالم الحقيقي والتي إما تثبتها أو تدحضها. فقد كانت النظرية الذرية في البداية تأملية (على يد فلاسفة اليونان)، لكنها اكتسبت مصداقية أكثر فأكثر بسبب تراكم المعطيات من علم الكيمياء، داعمة وجود الذرات. ربما أننا لم نكن نستطيع رؤية الذرات حتى اختُرِع استعمال المجهر ذي المجس الماسح في عام 1981(وتحت المجهر تبدو فعلاً كشكل الكرات الصغيرة التي نتخيل)، كان العلماء مقتنعين تماماً منذ وقت طويل قبل أن تصير الذرات حقيقة. على نحو مماثل، فإن نظرية جيدة تقوم بتنبؤات عما سنجده لو نظرنا ملياً أكثر للطبيعة. فإن بدت هذه التوقعات للعيان، فهي تعطينا ثقة أكثر بصحة النظرية. اقتُرِحت نظرية أينشتاين العامة للنسبية في عام 1915، وتنبأت بأن الضوء ينحني حين يمر بجوار جسم سماوي كبير. (لنكون تقنيين، جاذبية جسم كهذا تحرف الفضاء-الزمن، مما يحرف سبيل الفوتونات المجاورة). على نحو مؤكد كفاية، أثبت Arthur Eddingtonهذا التنبؤ في عام 1919، برؤيته_خلال كسوف شمسي_أن الضياء القادة من النجوم البعيدة كانت تنحرف حين تمر بجوار الشمس، مغيرة المواضع المرئية للنجوم. فقط عندما أُثبِتَ هذا التنبؤ بدأت نظرية أينشتاين تُقبَل على نحو واسع.

لأن (نظرية) تُقبَل كـ (حقيقة) فقط عندما تُختبَر توكيداتها وتنبؤاتها مراراً وتكراراً، وتؤكَد على نحو متكرر، ليس هناك لحظة واحدة تتحول فيها نظرية علمية فجأة إلى حقيقة علمية. تصير نظريةٌ حقيقةً (أو صحيحة) عندما تتراكم أدلة كثيرة لصالحها، ولا يكون هناك دليل حاسم ضدها. إلى حد أن يقبلها كل الناس العقلانيين فعلياً. هذا لا يعني أن نظرية (حقيقية) لن تُدحَض أبداً. فكل الحقائق العلمية هي مؤقتة، خاضعة للتعديل في ضوء الأدلة الجديدة. ليس هناك جرس إنذار يصدر ضجيجاً ليخبر العلماء أنهم أخيراً قد توصلوا إلى الحقائق النهائية غير القابلة للتغيير عن الطبيعة. وكما سنرى، فإنه من الممكن رغم آلاف الملاحظات التي تدعم التطور، قد يُظهِر معطى جديد أن التطور خطأ. أعتقد أن هذا غير محتمل، لكن العلماء_على عكس المتعصبين_لا يقدرون أن يتحملوا أن يصيروا متكبرين بصدد ما يقبلونه كحقيقة.

في عملية الصيرورة إلى حقائق_أو وقائع_تُختَبَر النظريات العلمية عادة ضد النظريات البديلة. فمع ذلك، هناك عادة تفاسير عديدة لظاهرة مُسَلَّم بها. يحاول العلماء عمل ملاحظات أساسية، أو يقومون بتجارب حاسمة، تختبِر تفسيراً منافساً ضد الآخر. لسنوات كثيرة، اعتُقِد أن مواضع أجزاء الأرض هي نفسها خلال تاريخ الحياة. لكن في عام 1912، جاء عالم طبقات الأرض (الجيولوجي) الجرماني Alfred Wegener بنظرية (الانجراف القاري) المنافسة مقترحةً أن القارات قد تحركت. مبدئياً، أُلهِمَتْ نظريته بملاحظة أن أشكال القارات كأمركا الجنوبية وإفريقيا يمكن أن تُلاءَم مع بعضها كقطع أحزورة ترتيب أجزاء الصورة. ثم صارت نظرية الانجراف القاري أكثر يقيناً عندما تراكمت المتحجرات المكتشفة ووجد علماء المتحجرات أن توزع الأنواع القديمة يقترح أن القارات كنَّ واحدة متحدة. لاحقاً، اقتُرِح (الاضطراب البنيوي للصفائح) على أنه آلية التحرك القاري، تماماً مثلما اقتُرِح الانتخاب الطبيعي على أنه آلية التطور. تتصلب الصفائح البنيوية للأرض بشكل قشرة وتطفو على سطح مادة أكثر سيولة في لب الأرض. ورغم أن نظرية الاضطراب البنيوي للصفائح استُقبِلَت بتشكك الجيولوجيين، فقد خضعت لاختبارات صارمة في نواحٍ عديدة، مانحة الأدلة المقنعة على صحتها. اليوم، بفضل تقنية القمر الصناعي لتحديد المواقع، يمكننا حتى أن نرى القارات تتحرك مبتعدة عن بعضها، بسرعة 2 إلى 4 بوصات في السنة، حوالي نفس معدل نمو أظافر أصابعك. (هذا_على ذكر الشيء بالشيء_ متحد مع الأدلة ضد زعم الخلقيين "صغر عمر الأرض" حيث يزعمون أن عمرها ما بين ستة إلى عشرة آلاف سنة فقط. إن كانت هذه هي الحالة، لكنا بوسعنا أن نقف على الشاطئ الغربي لإسبانيا ونرى أفق مدينة نيويورك، لأن أوربا وأمركا كانت لتكونا قد تحركتا أقل من ميل واحد بعيداً عن بعضهما).

عندما كتب دارون (أصل الأنواع)، كان أغلب العلماء الغربيين_وتقريباً كل أحدٍ آخر_خلقيين. بينما قد لا يقبلون كل تفصيلة تظهر في سفر التكوين، فإن أغلبهم اعتقد أن الحياة قد خُلِقَت بشكلها الحالي تقريباً، مَصَمَّمَة من قِبَل خالق كلي القدرة، ولم تتغير منذ ذلك. في (أصل الأنواع) ، قدم دارون نظرية بديلة لنشوء وتنوع وتصميم الحياة. يقدم أغلب ذلك الكتاب أدلة ليس فقط التطور بل في نفس الوقت تدحض مذهب الخلقية. في عصر دارون، كانت الأدلة على نظرياته قد سيطرت لكن لم تُحسَم على نحو كامل. يمكننا أن نقول_من ثم_أن التطور كان نظرية (وإن كانت نظرية مدعومة بقوة) عندما اقتُرِحَت لأول مرة من قِبَل تشارلز دارون، ومنذ عام 1859 تقدمت إلى (مرحلة الحقيقة) إذ تراكمت أدلة داعمة أكثر فأكثر. لا يزال التطور يدعى (نظرية)، تماماً مثل نظرية الجاذبية، لكنها نظرية هي أيضاً حقيقة.

إذن، كيف نختبر النظرية التطورية ضد الرؤية العامية التي لا تزال بأن الحياة قد خُلِقَت وظلت بلا تغير من بَعدُ؟ هناك في الواقع نوعان من الأدلة: الأول يأتي من استعمال المبادئ الستة لنظرية التطور لعمل تنبؤات قابلة للاختبار. لا أعني بكلمة تنبؤات أن نظرية التطور يمكنها التنبؤ بكيف ستتطور الكائنات في المستقبل. بالأحرى، فهي تتنبأ بما سوف نجده في الأنواع الحية أو المنقرضة عندما ندرسهم. ها هنا بعض التنبؤات التطورية:

- بما أن هناك متحجرات بقيت من أشكال الحياة القديمة، فيجب أن نكون قادرين على العثور على بعض الأدلة على التغير التطوري في السجل الأحفوري. إن أعمق (وأقدم) طبقات الصخر ستحتوي على متحجرات لأنواع أكثر بدائية، وبعض المتحجرات يجب أن تصير أكثر تعقيداً كلما صارت طبقات الصخر أحدث، مع كائنات مشابهة للأنواع المعاصرة الموجودة في أكثر الطبقات حداثة. ويجب أن نرى بعض الأنواع تتغير عبر الزمن، مشَكِّلة خط تحدر يرينا "سلالة مع التعديل" أو بمعنى آخر تكيف.

- يجب أن نكون قادرين على العثور على بعض حالات الاستنواع في السجل الأحفوري، مع خط تحدر واحد ينقسم إلى اثنين أو أكثر. ويجب أن نكون قادرين على العثور على أنواع جديدة تتكون في الطبيعة.

- يجب أن نجد أمثلة على أنواع تربط المجموعات الرئيسية التي يُظَن أنها لها سلف مشترك ببعضها البعض، كالطيور مع الزواحف، والأسماك مع البرمائيات. علاوة على ذلك، فإن هذه "الحلقات المفقودة" أو بمصطلح أكثر ملاءمة تدعى "الأشكال الانتقالية" يجب أن تظهر في طبقات الصخر التي تؤَرَّخ بالزمن الذي يُفترَض أن المجموعتين انفصلتا فيه.

- نتوقع أن تُظهِر الأنواع تبايناً جينياً في الصفات العديدة (وإلا لما كانت هناك إمكانية لحدوث التطور).

- العيوب هي علامة التطور، لا التصميم المُدرِك. يجب إذن أن نكون قادرين على إيجاد حالات تكيف معيبة، لم يكن التطور فيها قادراً على أن ينجز نفس درجة المثالية كما كان ليفعل خالقٌ.

- يجب أن نرى الانتخاب الطبيعي يعمل في الطبيعة.

بالإضافة إلى هذه التنبؤات، يمكن أن يُدعَم التطور أيضاً بما أسميه (التنبؤات الارتجاعية): أي الحقائق والمعطيات التي ليست بالضرورة يُتَنَبَّأ بها بنظرية التطور، لكن يصير لها منطق فقط في ضوء نظرية التطور. التنبؤات الارتجاعية أسلوب صحيح لعمل العلم، فعلى سبيل المثال، بعض الأدلة التي تدعم (الاضطراب البنيوي لصفائح الأرض) أتت فقط بعدما عرف العلماء كيف يقرؤون التغيرات القديمة في اتجاه المجال المغناطيسي للأرض من عينات صخور على قاع البحر. تتضمن بعض التنبؤات الارتجاعية التي تدعم التطور (كنقيض للخلق الخاص) نماذج من توزع الأنواع على سطح الأرض، وسمات كيفية تطور الكائنات من الأجنة، ووجود سمات أثرية ليس لها فائدة واضحة. هذه هي مواضيع الفصلين الثالث والرابع.

إذن، تتنبأ النظرية التطورية بتنبؤات ظاهرة وواضحة. قضى دارون حوالي عشرين عاماً يجمع الأدلة على نظريته قبل أن ينشر (أصل الأنواع). ذلك كان منذ أكثر من 150 عاماً مضت. كثير من المعارف العلمية قد تراكمت منذ ذلك! كثير من المتحجرات قد وُجِدَت، كثير من الأنواع جُمِعت ورُسِمت توزيعاتها على خريطة العالم، كثير من الأعمال أكثر في كشف اللثام عن العلاقات التطورية بين الأنواع المختلفة. ونشأت كل فروع العلوم التي لم يحلم بها دارون، بما في ذلك علم الأحياء الجزيئي وتصنيف الكائنات (دراسة العلاقات التطورية بين الكائنات المتعضية).

كما سوف نرى، فكل الأدلة_القديمة والحديثة على السواء_تقود على نحو لا يمكن تجنبه إلى الاستنتاج بأن التطور حقيقة.
















الفصل الثاني
مكتوب في الصخور

‘‘قشرة الأرض هي متحف ضخم، بل المجموعات الطبيعية قد عُمِلَتْ فقط خلال مدد من الدهر بعيدة على نحو هائل.’’

تشارلز دارون، في كتاب (عن أصل الأنواع)

قصة الحياة على الأرض مكتوبة في الصخور، صحيح أنه كتاب تاريخ مُزِّقَ ولُوِيَ، مع بقايا صفحات مبعثرة هنا وهناك، لكنه هناك، وأجزاء هامة منه لا تزال واضحة. لقد عمل علماء المتحجرات بلا كلل لتجميع الأدلة المادية التاريخية على التطور: السجل الأحفوري.

عندما نعجب بمتحجرات تأخذ الأنفاس كهياكل الديناصورات الضخمة التي تُشرِّف متاحفنا للتاريخ الطبيعي، من السهل نسيان كم من الجهود بُذِلت لاكتشاف واستخراج وتحضير ووصف إياهم. أعمارٌ انقضت، وبعثات مكلفة ومغامِرة إلى أجزاء العالم البعيدة والقاسية غير المرحبة، كثيراً ما اشتملها الأمر. فزميلي في جامعة شيكاجو Paul Sereno_كمثال_يدرس الديناصورات الإفريقية، وأغلب المتحجرات الهامة يوجد في وسط الصحراء الكبرى تماماً. واجه هو وزملاؤه المشاكل السياسية واللصوص والمرض، وبالتأكيد شدائد الصحراء نفسها لاكتشاف أنواع جديدة وجديرة بالملاحظة مثل Afrovenator abakensis & Jobaria tiguidensis، وهما عينتان ساعدتا على إعادة كتابة قصة تطور الديناصورات.

مثل هذه الاكتشافات تستلزم تكرساً حقيقياً للعلم، وسنوات كثيرة من العمل المجتهد والمثابرة والشجاعة، بالإضافة إلى جرعة وافرة من الحظ. لكن كثيراً من علماء المتحجرات يغامرون بحيواتهم لأجل لُقى كهذه. بالنسبة لعالم أحياء، فالحفريات قيِّمة كتُبْر الذهب. فبدونهم، لكان لدينا مختصر تخطيطي ناقص فقط للتطور. وكل ما كنا سنستطيع حينئذ فعله هو دراسة الكائنات الحية ومحاولة تخمين العلاقات التطورية من خلال التشابهات في الشكل والتنمي الجنيني وتتابعات الحمض النووي. كنا سنعرف_على سبيل المثال_أن الثدييات أوثق قرابة إلى الزواحف من البرمائيات. لكننا لم نكن سنعرف كيف كان يبدو شكل أسلافهم المشتركين. لم نكن ستكون لدينا أدنى معرفة عن الديناصورات العملاقة، التي بعضها بكبر الشاحنات الحاوية، أو عن أسلافنا الأوسترالوبيثيكيين (القردة الجنوب إفريقية) الصغار الأدمغة، لكنهم مشوا منتصبي القامة. كثير مما كنا سنريد معرفته عن التطور كان سيظل غامضاً. لحسن الحظ، فإن التقدم في علوم الفيزياء وطبقات الأرض والكيمياء الحيوية، بالإضافة إلى شجاعة ومثابرة علماء في كل مكان في العالم، قد قدَّمت هذه البصائر الثمينة للماضي.

عمل السجل الأحفوري

عرف البشر المتحجرات منذ الأزمان القديمة: فقد وصفهم أرسطوطاليس، وربما تكون متحجرات الديناصور المنقاري Protoceratops قد أنشأت فكرة حيوان الغرِفين griffin الأسطوري عند اليونان القدماء. إلا أن المغزى الحقيقي للمتحجرات لم يُدْرَك حتى وقتٍ لاحق أكثر. وحتى في القرن الثامن، فُسِّروا ببساطة وتبرير كمنتجات قوى فوق طبيعية، لكائنات دُفِنَت في طوفان نوح، أو بقايا كائنات لا زالت حية مستوطنة في أجزاء الكرة الأرضية القصية والمجهولة.

لكن ضمن هذه البقايا المتحجرة يوجد تاريخ الحياة. كيف يمكننا أن نكتشف ذلك التاريخ؟ بدايةً_بالتأكيد_نحتاج المتحجرات، أعداد وافرة منهم. ثم نحتاج إلى وضعهم في الترتيب الصحيح، من الأقدم إلى الأحدث. ثم يجب أن نكشف متى كُوِّنت بالضبط. كلٌ من هذه المتطلبات يأتي بمجموعته الخاصة من التحديات.

إن عملية تشكل المتحجرات ذات خط مستقيم، لكنها تتطلب مجموعة دقيقة جداً من الشروط. فأولاً، يجب أن تجد بقايا الحيوان أو النبات سبيلها إلى الماء، راسبة إلى القاع، وتصير مغطاة بسرعة بالرواسب لكي لا تُبْلَى أو تبعثرها الحيوانات القمَّامة. نادراً جداً فحسب أن تصل نباتات أو كائنات برية ميتة إلى قاع بحيرة أو محيط. وهذا هو سبب كون معظم متحجراتنا التي لدينا هي لكائنات بحرية، والتي عاشت على أو في قاع المحيط، أو على نحو طبيعي يرسبون عند موتهم إلى القاع.

عندما تُدفَن بأمان في الرواسب، ترتشح الأجزاء الصلبة من المتحجرات أو تُستبدَل بالمعادن المذابة. ما يتبقى هو قالب لكائن حي أصبح مضغوطاً في صخرة بضغط الرواسب المتراكمة في الأعلى.

عندما تتكون متحجرة، فهي تحتاج إلى النجاة من التغير اللانهائي: فيضانات وحرارة وسحق قشرة الأرض، عمليات تطمس على نحو كامل أغلب المتحجرات. ثم يجب أن تُكتَشَف. مدفونة عميقاً تحت سطح الأرض، فإن معظمهم متعذر علينا الوصول إليهم. فقط عندما تبرز وتنكشف الرواسب بتعرية الرياح أو الأمطار يمكن أن تهجم عليهم مطرقة عالم المتحجرات. وهناك فقط نافذة قصيرة من الوقت قبل أن تُمحَى هذه المتحجرات النصف مكشوفة ذاتها بفعل الرياح والماء والطقس.

آخذين في الحسبان كل هذه المتطلبات، فمن الواضح أن السجل الأحفوري يجب أن يكون غير كامل. كيف غير كامل؟ إن المجموع الكلي للأنواع التي عاشت على الأرض في أيما وقت مضى قد قدر بما بين 17 مليوناً (وربما هذا إبخاس مغالٍ بما أن 10 ملايين نوع تحيا اليوم) وأربعة مليارات. وبما أننا اكتشفنا حوالي 250 ألف نوعاً متحجراً مختلفاً، يمكننا أن نقدر أننا لدينا أدلة متحجرة على ما بين 0.1% إلى 1% من كل الأنواع. بالكاد عينة جيدة لتاريخ الحياة! لابد أن كثيراً من الكائنات المدهشة التي قد وجدت، قد ضاعت منا إلى الأبد. وبالرغم من ذلك، فلدينا متحجرات كافية لإعطائنا فكرة جيدة عن كيفية تقدم التطور، وإدراك كيفية انفصال المجموعات الرئيسية أحدها من الآخر.

وعلى نحو ساخر، بُدِأ في ترتيب السجل الأحفوري في الأصل ليس من قِبَل علماء التطور، بل من قبل علماء طبقات الأرض الذين كانوا أيضاً خلقيين، والذين قبلوا قصة الحياة المقدمة في سفر التكوين. رتب هؤلاء الجيولوجيون ببساطة طبقات الصخور المختلفة التي وجدوها مستخدمين مبادئ تقوم على الحس المشترك (في المعظم من حفر القنوات الذي رافق التصنيع في بريطانيا). ولأن المتحجرات تظهر في الصخور الرسوبية التي بدأت كطمي في المحيطات والأنهار أو البحيرات (أو على نحو أكثر ندرة ككثبان رملية أو رواسب ثلجية)، إن الطبقات الأعمق لابد أن تكون وُضِعَت قبل الطبقات الأكثر سطحية. الصخور الحديثة توجد فوق القديمة. لكن ليس كل الطبقات توجد في أي مكان واحد. ففي بعض الأحيان لا يتشكلون أو يتآكلون مزالين.

لتأسيس ترتيب كامل لكل طبقات الصخر_من ثم_يجب أن تقارن وتربط ما بين الطبقات من مواقع مختلفة حول العالم. إن كانت طبقة من نفس نوع الصخر تحتوي على نفس نوع المتحجرات، تظهر في مكانين مختلفين، فإن من المنطقي افتراض أن الطبقة من نفس العصر في كلا المكانين. لذا _كمثال_إن وجدت أربع طبقات من الصخر في موقع واحد (ولنسمهم من الأسطح إلى الأعمق كـ أ ب د هـ)، ثم تجد اثنين فقط من هذه الطبقات في مكان آخر، مضافاً إليهما طبقة أخرى علاوة على ذلك (ب ج د)، يمكنك أن تستنتج أن السجل يحتوي على خمس طبقات على الأقل، في الترتيب من الأحدث إلى الأقدم: أ ب ج د هـ. إن مبدأ تراكب الطبقات هذا اكتُشِف أول مرة في القرن السابع عشر على يد الدنماركي متعدد جوانب الثقافة Nicolaus Steno، والذي صار لاحقاً مطراناً (رئيس أساقفة)، وقد رسمه البابا Pius الحادي عشر قديساً عام 1988. (بالتأكيد الحالة الوحيدة لقيام قديس بمأثرة علمية هامة). باستخدام مبدأ Steno، رُتِبَ السجل الجيولوجي بجهد مضنٍ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من طبقة الكامبري القديم
04-23-2012, 06:01 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
للتحميل: لماذا النشوء والتطور حقيقة - بواسطة راهب العلم - 04-23-2012, 06:01 PM

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  حقيقة وعد بلفور فارس اللواء 17 1,995 04-19-2014, 09:16 AM
آخر رد: عاشق الكلمه
  مشكلة الابداع والتطور في العالم العربي mr.H 21 5,653 04-23-2012, 09:46 PM
آخر رد: طريف سردست
  حقيقة وراء قناة الجزيرة‏ ... observer 11 3,253 10-28-2011, 04:39 PM
آخر رد: نيو فريند
  دراسة ( العرب والتطور الحضارى ) - الواقع والازمة بقلم الكاتب // طارق فايز العجاوى طارق فايز العجاوى 0 794 10-25-2011, 11:41 AM
آخر رد: طارق فايز العجاوى
  جمهورية اليهود ...حقيقة تاريخية والحل بيد الليدي ميشيل نسمه عطرة 1 1,993 01-10-2011, 10:43 PM
آخر رد: أسامة مطر

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS