هيكل يواصل حوار «اللحظات الفاصلة»:
الذين لايفهمون دروس التاريخ يعيدون السنة!

...............................................
المصدر: الأهرام اليومى بقلم: محمد عبدالهادى علام أنور عبداللطيف غادة الشرقاوى احمد عامر جمال الكشكى ابراهيم السخاوى
سمير الشحات شريف طه عبدالجواد توفيق

فى الجزء الثانى من حواره مع «الأهرام»، يصحبنا الأستاذ محمد حسنين هيكل اليوم لزيارة محطات الواقع السياسى المصرى، كما يراها فى هذه اللحظة المفصلية الفارقة، يأخذنا إلى محطة أزمة الدستور، وكيف أن الدستور ليس مجرد نصوص، بل هو علاقات حساسة جدا بين أبناء الوطن الواحد، ومن ثم لا تصح كتابة الدساتير فى شهر واحد أو شهرين.
ويتناول الأستاذ هيكل الملفات الشائكة التى سيواجهها الرئيس المقبل لمصر ـ أيا كان اسمه ـ كالاقتصاد والأمن والتعليم والعشوائيات والعلاقات العربية والدولية، وبهذه المناسبة يشدد على أنه لا يتصور أن يكون موقف مصر تجاه سوريا منساقا وراء مواقف الآخرين، فالعلاقة بين مصر وسوريا كانت وستظل خاصة جدا.
ثم يغوص معنا فى الحديث الشائك الدائر حاليا عن «دينية» الدولة فى مصر، وهنا فإنه يحذر من أن قيام أى دولة دينية على شاطىء المتوسط سيثير مشكلات لا حدود لها، ويؤكد أن المسيحيين فى الشرق وفى مصر ليسوا مهاجرين، بل هم عنصر أصيل لا يصح تجاهله فى الدستور.
ويتعرض الأستاذ هيكل بعد ذلك للعلاقة بين شباب الثورة الذين كانوا المحرك لها، والمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى هو حامى حركة تلك الثورة، وهنا يصرح الأستاذ بأن هتاف «يسقط حكم العسكر» هتاف لا يليق، فمصر ليس بها حكم للعسكر ولن يكون، كما أن مصطلح «العسكر» هو أصلا تعبير قبيح لا يليق بالدور المركزى لقواتنا المسلحة فى كيان الدولة.
ويتساءل الأستاذ أخيرا: هل سيلزمنا جميعا أن نصلى لطلب المعجزة، كما يصلون صلاة الاستسقاء عندما يحل الجفاف؟
- إذن فقد وصلنا مع الأستاذ محمد حسنين هيكل إلى الجزء الثانى من حواره الكاشف مع «الأهرام». وكالعادة، فإن الإبحار مع الأستاذ، بقدر ماهو مرهق إذ التحليل عميق ورصين، بقدر ماهو ممتع ومشوق، إذ فيض المعلومات آسر وجديد وأخاذ.
أخذ الأستاذ هيكل بأيدينا إلى أعماق المشهد، فكان الحديث عن الدستور، وأزمته، ومايصح ومالايصح عندما نبدأ فى كتابته، ثم انتقل إلى الملفات الشائكة التى تنتظر الرئيس المقبل لمصر. وينتظرها هو.
وأبحر بنا إلى القضية المثارة حاليا على كل لسان: هل ستكون فى مصر دولة دينية؟ وهل يقبل العالم ذلك؟ ألا يمثل قيام دولة دينية على شاطئ المتوسط خطرا كبيرا وعظيما؟
وبعد ذلك، سنجد تحليلا مستفيضا للعلاقة بين شباب الثورة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة. وهل كان من الضرورى ترديد هتافات من «قبيل» يسقط حكم العسكر؟ هل هذا يليق؟ وهل أبناء قواتنا المسلحة هم «عسكر» أم أن هذا مصطلح «قبيح» لاينطبق علينا هنا فى مصر،
ويتساءل الأستاذ فى نهاية الرحلة - والحوار - هل سيكون علينا أن نصلى طلبا للمعجزة كما يصلون للمطر صلاة استسقاء عند حدوث الجفاف؟
ويأبى الأستاذ هيكل أن يتركنا قبل أن يعيد ترديد بعض من أبيات شوقى التى بدأ بها الحوار منها:
وقى الأرض شر مقاديره
لطيف السماء ورحمانها
.....................................................
ونواصل الحوار:
- عفوا يا أستاذ. أى نوع من المعجزات نحتاجها لاختيار الرئيس؟!
الأستاذ: ما هو قادم معقد - وبعضه شائك. لذلك قلت إن الرئيس القادم يحتاج فعلا إلى سند من معجزة.
إنكم تسألوننى عن شكل المعجزة التى أشير إليها، وأعلق النجاح بشرط وجودها.
المعجزات تحدث أحيانا عندما تجيء المفاجآت برجل تتفتح مواهبه ومزاياه واستعداده تحت ضغط التجربة، وذلك حدث فعلا لـ«ديجول» عند سقوط «فرنسا»، فقد استيقظ الرجل فجأة، وإذا هو المسئول عن بقاء «فرنسا» حرة ومقاتلة، وكان بقدر المسئولية.
مثال آخر هو «هارى ترومان» الرئيس الأمريكى بعد «روزفلت»، جاء إلى السلطة مفاجأة بعد وفاة «روزفلت»، والكل يائس منه، لكن الرجل استيقظت فيه قدرات ومواهب لم يتوقعها أحد.
وسؤال المعجزة هو: هل يستطيع واحد من مرشحى الرئاسة أن يفاجئنا ويتحول إلى «ترومان» آخر - لا أعرف!
هناك أحوال أخرى تحدث فيها المعجزة حين يفهم رجل طبيعة مسئوليته، وظروف بلده، ذلك رأيته بعيني، وسمعته بأذنى من زعيم الهند الكبير «جواهر لال نهرو»، فقد سألت «نهرو» يوما عن: كيف تقوم الهند من أحوالها التى كنا نعرفها إلى المستقبل الذى يحلم به شعبها؟! - وكان رده:
أمامنا خيار واحد.
الهند أربعمائة مليون إنسان (تضاعفوا الآن 3 مرات) - يستطرد «نهرو»: وفى هذه الكتلة الكبيرة 10% من القادرين على المستقبل، أى 40 مليونا من المواطنين، ومن الضرورى أن تتحول هذه الأقلية على المستقبل إلى رافعة تحمل الكتلة الكبيرة غير الجاهزة (90%) إلى أعلى. ويعود «نهرو» ويكرر لي: مصير الهند معلق بالمعجزة، إما أن تستطيع القلة أن تكون رافعة للكتلة، وإما أن تهوى الكتلة على رأس القلة وتسحقها، وتكون مأساة الهند!
فى مصر شيء مماثل، هناك طلائع على مستوى العصر والمسئولية، تستطيع أن تكون رافعة للكتلة، فهل يستطيع رئيس مصرى جديد أن يوظَّف الطلائع لخدمة الكتلة، دون تمييز مسبق، ودون استبعاد متعسف - معجزة إذا استطاع مرشح رئاسة!
المشكلة هنا أن ظروف مصر وفى غياب أحزاب قادرة على التجدد مثلما كان حزب «المؤتمر» يقدر على قيادة الجماهير بالثقة فيه، فإن القادرين أنفسهم مهمَّشون.
- هل يستطيع الرئيس «مرسي» أن يفاجئنا بأن تياره الإسلامى قريب من فكر الشيخ «محمد عبده»، ومختلف عن فكر الأستاذ «سيد قطب»؟!
- هل يستطيع الرئيس «أبوالفتوح» أن يستعيد دور «ديجول»، وأن يقود مصر الحرة، إلى مكانتها فى العالم والعصر، وهو قريب شبه منه بطول القامة، ووقار المظهر؟!
- هل يستطيع الرئيس «حمدين صباحي» أن يستلهم دور «نهرو»، وخصوصا أن «حمدين» رجل ينتمى إلى تيار يعرف «نهرو» وكان صديقا له؟! - هل يستطيع الرئيس «محمد سليم العوا» أن يتجلى لنا مزيجا من الفيلسوف السلطان ويلهم ويشير؟!
لا أعرف جوابا لهذه التساؤلات كلها، ومع ذلك فإنى أدعو الله أن تتحقق من حيث لا نتوقع أو نحتسب معجزة، هذا مع معرفتى بشكل عام أن زمن المعجزات انتهى، ببساطة لأن نطاق المعرفة اتسع على نحو لا يتصوره خيال، ومع ذلك من يعرف، ومن يستطيع أن يجزم فى شأن المستقبل بيقين!
لكنى سوف أكون أسعد الناس لو نزلت علينا فجأة من السماء معجزة!
- غاب اليقين أيضا فى أسباب كوارث عديدة وقعت خلال الـ13 شهرا الماضية. وظل الفاعل أو الطرف الثالث مجهولا طوال الوقت. هل بانت له بعض الملامح فى نظركم الآن؟
الأستاذ: لقد شهدت الساحة أسبابا كثيرة للخلط - أخذت السياسة إلى العنف، وإلى العناد، وإلى الشك، وإلى التوتر.
وربما أن هذا الخلط كان هو الطرف الثالث الذى ظهر فى أحداث دامية مثل أحداث مسرح «البالون»، ومحيط التليفزيون فى شارع «ماسبيرو»، وشارع «محمد محمود» وسط مجمع الوزارات، وأولها وزارة الداخلية، والذى وصل إلى حرق المجمع العلمي، ثم انتهى أخيرا إلى ما جرى أمام وزارة الدفاع، وعلى الطرقات إليها.
وبالطبع فإن وجود الأيدى الخفية واقع، فالمؤامرة كما قلت دائما حاضرة فى التاريخ، ولكن التاريخ ليس مؤامرة، ويوم تظهر الحقائق فسوف يتكشف على سبيل المثال حجم الأموال التى دخلت مصر للتأثير على مجرى الحوادث من 25 يناير إلى هذه اللحظة، بمليارات الدولارات - مليارين وربما أكثر - فالسعى إلى تحديد وتوصيف وصياغة مستقبل مصر السياسى والإستراتيچى - مسألة تساوى أن يُدفع فيها أى ثمن، وكل ثمن، حتى لتعطيل الدور المصرى فى المنطقة، بحيث لا يصبح له تأثير فى اللحظة الراهنة التى تعيد فيها القوى تشكيل مستقبل المنطقة، وكذلك تعيد رسم خرائطها.
- لكن الأطراف فى موقعة «العباسية» كانت ظاهرة للجميع؟
الأستاذ: ما جرى فى محيط وزارة الدفاع شطط وتجاوز لم يكن يصح له أن يقترب من وزارة الدفاع، وهى معقل المؤسسة المكلفة بأمانة بقاء شرعية الدولة.
ربما أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أساء إلى مهمته ببعض ما تصرف به، أو بعض ما عجز عن التصرف به، واعتقادى أن شيئا من ذلك وقع فعلا.
وفى هذا الأمر مفارقة غريبة لمحتها بنفسي، فقد حدث أننى قابلت بعضا من أعضاء هذا المجلس الأعلى للقوات المسلحة، واعترف أننى وجدت لديهم تفهما صادقا للأحوال العامة فى البلد، بما فيها طبيعة مهمتهم.
لكن المفارقة أن الأداء الجماعى لهذا المجلس الأعلى للقوات المسلحة جاء فى مرات كثيرة على مستوى أقل من المرغوب فيه والمطلوب.
هذا المجلس سمح بخلط الأولويات، لتبدأ بالانتخابات، ولم تبدأ بالدستور.
وأصدر إعلانا دستوريا طُرح للاستفتاء، وتحول إلى قيد على الثورة، وعلى الدستور، وعلى الدولة، ولم نستطع الخروج من أسره حتى الآن.
ولم يحاول فى أى لحظة بسبب شكوك كثيرة أن يتحرك، ومشينا جميعا على عكس القاعدة التى تقول إن السفينة التى لا تستطيع تعديل مسارها وسط البحر، محكوم عليها أن تصطدم بالصخور، أو أن تجرفها الرياح إلى حيث تصطدم مع جبال الجليد، أو تجنح بها إلى مستنقعات الطين!
- مرة أخرى يا أستاذنا تؤكد ضرورة وجود الربان. هل تتحقق المعجزة ويظهر من بين المرشحين من يملك خارطة طريق. ويستحق صوتك؟
الأستاذ: سوف أقول شيئا قد لا يصح أن يُقال علنا، قد أقول إننى حتى هذه اللحظة مازلت مترددا فى المشاركة فى عملية التصويت، لا أعرف لمن أعطى صوتي.
والسبب عندى أننى طرحت بمقدار ما فهمت تصورا لخريطة طريق لفترة انتقالية كافية يديرها مجلس أمناء فكرة ومشروع دولة ودستور - وفترة حوار غير محموم بطلب السلطة فورا - وتوفير أحوال تسمح لقوى الشباب الجديدة أن تجد نفسها، وتلاقى زمانها، وتدخل إلى نطاق المسئولية، ثم إن ذلك يمكن أن يجرى والقوات المسلحة قريبة من عملية الانتقال بمسئوليتها فى الدفاع عن السلم الأهلي، وعن الأمن القومي.
ولأسباب مختلفة فإن هذا الاقتراح لم يُؤخذ به، وذلك مقبول ومشروع، فليس هناك ما يجعل كل رأى قابل للتنفيذ، وكل اجتهاد موضع اتفاق.
لكن المشكلة أننى لم أجد اقتراحا بديلا مقنعا، وإنما حلت محل الإقناع تصرفات مقلقة تسبب فيها وقوع الشك بين الأطراف، ولم يصدر من هؤلاء الأطراف ما يظهر أن خرائط الطرق التى يعرضونها قادرة على الوصول وتحقيق هدف محدد، وهذا أيضا مقبول ومعقول، فليس من الضرورى أن يقتنع كل فرد، والقاعدة العامة والشائعة فى مثل هذه الأمور أن يشارك الكل، وأن يختار كل واحد ما يراه الأقرب إلى اقتناعه، لكن المأزق يتأتى من أن يشعر أحد - خطأ أو صوابا - أن خريطة الطريق. كل الخرائط لا تؤدى إلى المأمول، أو حتى إلى المأمون، وهنا فإن عليه أن يوازى بين ما يقول به الضمير، وما تقول به واجبات ممارسة المسئولية السياسية العامة، وكذلك أجدنى فى حيرة، لم أخلص فيها حتى الآن إلى رأى أستقر عليه.
أريد أن أشارك بدعوى ممارسة الحق والواجب، وفى نفس الوقت لا أرانى مستريحا إلى المشاركة.
ففى الممارسة الديمقراطية لا يصح لفرد أن يعاند، لكنه أيضا وبحق الضمير لا يصح لفرد أن ينساق، خصوصا فى قضايا مصير!
- أولى هذه القضايا «قضية الدستور»، عندما نتكلم عن الدستور فلابد أن يكون واضحا أننا نتحدث عن إرادة عامة طوعية لشعب متعدد القوى، اجتماعية، وطبقية، وعرقية، وهذه القوى تريد أن تعيش على أرض وطن واحد، ومستقبلها لا يتم ويتأكد إلا بتوافق وطنى لا إكراه فيه بينها جميعا، بما يجعلها بلا استثناء راضية بالعيش المشترك وشرطه، ملتزمة بما يصدر عن الشرط المشترك من قوانين للسلوك فى الحقوق والواجبات، ثم إن شرط العيش المشترك لابد أن يكون معبرا ليس فقط عن رِضا أطرافه طوعيا، وإنما لابد له أيضا أن يكون ممثلا لطموحات مستقبلهم فى العصر الذى يعيشون فيه، وفى مستقبل هذا العصر بوسائله وقواه.
لا أحد يستطيع أن يقول لى إن الدساتير مجرد نصوص، يمكن أن تُكتب فى أسبوعين أو ثلاثة، أو فى شهر أو شهرين، فذلك كلام لا يجوز، لا يجوز إذا كان الدستور «رضا طوعى لقوى شعب»، وإذا كان الدستور سندا لقانون فيه الحقوق والواجبات، وإذا كان الدستور نظاما ليس للحقوق والواجبات فقط، وإنما لتأسيس علاقات جديدة، مع أفكار فى الدنيا، ومع عصور مستجدة تطرح على الناس ما لم يكونوا يتصورونه فى الماضي، ثم إنه يوائم بين قدراتهم وبين آمالهم وطموحاتهم.
فى أزمنة قريبة كنا نتحدث عن الدساتير على نحو مبسط، كنا نقول والقول حق، أن الأوطان والشعوب فى حالة الطبيعة الأولى - حالة وحشية يحكمها الأقوياء، ويحصل فيها من يريد على ما يريد إذا كان قادرا عليه، ويأخذ من يشاء ما يتمنى أن يأخذه، ما تستطيع يده أن تصل إليه، وهنا نشأت الحاجة إلى الدولة - إلى الدستور - إلى إرادة عامة حاكمة.
وكان يكفى لذلك أن يتكفل بعض أساتذة القانون بصياغة أو نقل نصوص عن وثائق إنسانية كبرى مثل إعلان حقوق الإنسان، أو الدستور الأمريكي، أو الدستور البلچيكى الذى كان إلهاما لدستور سنة 1923.
الآن ذلك لم يعد يكفى - العصور تغيرت - نحن تغيرنا.
دستور 23 فى وقته كان من أفضل الدساتير فى زمانه، ومع ذلك سقط.
الدستور المقترح سنة 1955 وضعته لجنة من أفضل عقول مصر، لكن ذلك لم ير النور.
دستور سنة 1971 لم يتحمل ما بعد سنة 1973، لأن تجربة الحرب بصرف النظر عن نتائجها - غيرت المجتمع المصري، وقد وقع سقوطه كاملا على أى حال، بثورة 25 يناير 2011.
وذلك كله يطرح قضية أن وضع الدساتير ليس صياغة نصوص، وإنما علاقات وطنية واجتماعية وطبقية وثقافية حساسة لابد من مراعاتها فى طلب الرِضا العام - وحقوق لابد من توفيرها إزاء تحديات قوى موجودة فى حياتنا، لها تأثير فى الفكر وفى الفعل، وكله يطرح قضايا جديدة لم تخطر ببال أحد من قبل، وهى الآن تهدد بأخطار.
مثل أنه لم تعد هناك الآن سيادة مطلقة لدولة فى شأن حقوق الإنسان على أرضها.
ولم تعد هناك أيضا سيادة لدولة فى شأن حرية العقائد.
وأمامنا فإن مجتمع الدول بالفعل اتخذ حماية المدنيين ذريعة تستوجب التدخل الخارجي، ويمكن فى هذا الصدد مراجعة وثائق حلف الأطلنطى فى مسألة تدخله فى ربيع «ليبيا»، كما تسميه وثائق ذلك الحلف.
وحقوق الإنسان حتى بالدعاوى - مع أنها فى «ليبيا» لم تكن بالدعاوى - لأن الدعاوى كانت تسندها حقائق، لكن الحقائق جرى توظيفها حجة أو ذريعة لغزو وطن.
هذه قضية لم تكن موجودة فى الماضي.
الدساتير تعبر وتعكس أوضاعا حية وقابلة للتغيير، ولابد أن ينفتح باب التغيير، وأمامكم نموذج هنا فى محاضرة عن وضع المبادئ العامة لدستور سنة 1923.
مثلا جزء كبير من المناقشات يدور حول ضرورة منع العمال والفلاحين من دخول مجلس النواب، لأنهم لا يمثلون فى مصالح البلد قوة حقيقية، وبمنطق أن المصالح موصولة بالملكية، ومن لا يملك شيئا لا مصلحة له ولا شأن بالتشريع، ولا يحق تمثيله فى البرلمان.
تتذكر أنه بعد أقل من خمسين سنة جاء دستور جديد فى مصر يضمن للعمال والفلاحين نصف المقاعد فى كل مجلس منتخب، وأولها البرلمان، صيغة بالكامل تنتقل بتمثيل المصالح من ملكية الثروة إلى قوة العمل والإنتاج.
وربما أن علينا مع مناقشات وضع دستور جديد أن نفعل ما فعله واضعو الدستور الأمريكي، احتفظوا لنصوصه الأصلية بحق البقاء، وفتحوا الباب لما يمكن اعتباره إضافات وتعديلات Amendments، تضيف إلى مواد الدستور كلما طرأت حاجة أو تغيرت أحوال!
بهذه الأهمية القصوى للوثيقة المؤسسة للوفاق الوطنى وهو رابطها المبدئى كيف يمكن أن يقول لى أحد إن هناك برلمانا له حق تشريع التصرفات إذا كنا لم نتفق على المبادئ الحاكمة لأسس العيش المشترك؟!
سمعت بنفسى أحد «السادة» يقول بالفُم المليان: مصر بلد للمسلمين، ومن لا يعجبه ذلك، عليه أن يجد لنفسه مكانا آخر.
ولو كنت أعرف عنوانه لكتبت إليه أرجوه أن يهدأ قليلا، فهو يتكلم بغير مسئولية، فى عصر لا يعرف عنه ما فيه الكفاية.
ذلك أننا فى عصر لابد أن تتسع كل أرض فيه لكل مواطنيها، وعلى قدم المساواة، وبغير تمييز، وخلاف ذلك ليس جريمة فى حق المواطنة بمقتضى العقد فحسب، وإنما لعب بالنار فى هذا الزمن، يعطى ذخيرة حية للراغبين فى تقسيم الأوطان، وتفصيل الأقاليم.
ضمن تركيب لجنة وضع مبادئ دستور سنة 1923 ورد اسم «حمد الباسل» (باشا) (ممثلا لقبائل البدو)، أى لجنة وضع مبادئ الدستور روعى فى تشكيلها ليس فقط الأقاليم - ريفا وحضرا - والأديان والطوائف، بل وكذلك القبائل. لا يقدِّر بعضنا أن وضع الدستور هو انتقال بالمجتمعات بحرية كل من على أرضها من حالة الطبيعة إلى حالة السياسة، وفى هذه الحالة فليست هناك أغلبية أو أقلية - أو أحزاب أو مذاهب، كل ذلك مجاله حالة السياسة عندما يتم الانتقال إليها، وبعدها وليس قبلها يجيء دور الأغلبية والأقلية، والحزب أو المذهب لأن المجال لا يصبح مجال الرِضا بالعيش المشترك، ولكن يصبح تنظيم إجراءات الحياة بمقتضى عقده، أى أن دور القانون يجيء بعد دور الدستور، أى عندما يتصرف المواطنون فيما بينهم، وكل منهم فى حدود عهد المواطنة!
- هناك مسألة أخرى، وهى مسألة دولة دينية فى مصر، وتلك قضية شائكة فى هذا العصر، ووجودها على شاطئ البحر الأبيض يستدعى مشاكل لا حدود لها، وفارق بين بلد له ثقافة دينية، فذلك شأن بلدان مسلمة ومسيحية بلا عدد، وهو أمر طبيعي، فكل الناس يعتزون بأديانهم، خصوصا إذا كانت أديانهم رسالات سماوية، على أن الأديان فى النهاية تربية وثقافة، ولا يمكن اعتبارها تبشيرا وقتالا، حتى وإن أسميناه جهادا!
ما أريد أن أقوله أن النصوص الخاصة بالدين فى الدساتير فى هذا العصر تقتضى إشهار ثقافة معتقد، قادرة على أن تتفهم وتحترم كل المعتقدات، فى زمان يسمح بحرية الاعتقاد، لكنه لا يسمح لأحد باحتكار الفردوس.
- هناك قضية ثالثة تتصل بهذه النقطة مباشرة، وهى قضية مسيحيى الشرق، وأعرف من كل ما سمعت ورأيت أن هذه قضية تشغل الفاتيكان الآن، وقد لاحظ الفاتيكان ولاحظ كثيرون فى أوروبا أن مسيحيى الشرق يهاجرون من أوطانهم بنسب تثير الفزع.
مسيحيى العراق تعرضوا لمآس - مسيحيو الشام فى سوريا ولبنان وفلسطين ساورهم قلق - أقباط مصر لديهم وساوس، وبصراحة فإن بعض هذه الوساوس لها ما يبررها، لأن مجمل الظواهر فى صعود الإسلام السياسى فى السنوات الأخيرة تواجههم بما يصعب احتماله، وهذه قضية لا تخص مصر وحدها.
يُضاف إلى ذلك أن مسيحيى الشرق مصدر غنى وتميز لهذا الإقليم، ومنذ سنوات أثرت هذا الموضوع وطرحته، إحساسا بأهميته فى التكوين الإنسانى العام للمنطقة وثرائها الفكري، كما لمست من بعيد قضية حرية المعتقدات، خصوصا أننا نلمح بعض آثارها فى المسلمين المهاجرين إلى الغرب.
فمسيحيو الشرق ليسوا مهاجرين إليه، وإنما هم عنصر أصيل من عناصره، وهذه قضية لا يصح أن نتجاهلها فى الدستور، لا من ناحية الاهتمام بعناصر وجودها وغِناها، ولا من ناحية استدعاء أو استعداء قوى فى العالم ترى فى حرية العقائد سببا للتدخل بالقوة، حتى وإن كان ذلك من قبيل الذرائع لمطالب السيطرة والهيمنة.
هناك قضايا لم يعد ممكنا لميثاق الإرادة العامة الطوعية أن تتجاهلها، مثلها مثل حرية العلم - وحرية الفكر - وقضايا المرأة، وغيرها.
وكل تلك ليست مسائل صياغات أو نصوصا تُكتب أو تُستعار.
لكننا آثرنا العجلة والارتجال، وتُهْنا على الطرقات!
- هل تتوقعون أن يؤدى الغرق فى الصياغات الى مزيد من ضياع الوقت فى الحسابات خلال المرحلة الانتقالية؟
-الأستاذ: أريد أن أذكِّر الجميع بأن الثورة الفرنسية، وقد كنا نتكلم عنها قبل قليل - جلست عدة سنوات تحاول وضع دستور بعد الثورة، ولم تصل إلى نتيجة، مناقشات. مناقشات. وانقلابات بعد انقلابات، وزعماء محل زعماء، وكل شئ معطل فى شأن الدستور، حتى تغيرت الصورة كاملة، وجاء «نابليون» ووضع دستور فرنسا وقوانينها، فيما هو مشهور باسمه «نابليون» Code Napoleon.
والقصد أن وضع الدساتير، خصوصا بعد الثورات الكبيرة، وفى التعبير عن متغيراتها وطموحها مسألة صعبة، ثم إن التقدم فى العمل بدون الاتفاق عليها وكتابتها مسألة مستحيلة، إذا لم تتفق قوى المجتمع على ميثاق عيشها المشترك.
كان على «فرنسا» أن تنتظر حتى يجيء «نابليون»، وأملى ألا تضطر مصر إلى الانتظار حتى يظهر «نابليون»، فمصر لا تحتاج إلى إمبراطور، كما أن الواقع المصرى الراهن لن يعطى مصر رجلا من طراز «نابليون».
مُضافا إلى ذلك أن مصر لا تحتاج إلى «نابليون»، وإنما تحتاج بالدرجة الأولى إلى قراءة حقائقها، وحقائق زمانها!
- وإذا تأخرت المعجزة. ألا نحتاج للخروج من النفق الى عملية سريعة لوضع دستور؟
الأستاذ: هل آثرنا العجلة فى كل شيء؟! - سؤال فى محله، والجواب عنه أننا آثرنا العجلة بما دفعنا إلى الارتجال:
الارتجال أدى إلى الوقوع فى الأخطاء نتيجة لاختلاف التصورات، وحلول الشك محل الثقة بين الأطراف، ورغبة الأطراف فى تبرئة نفسها، ودرء الشبهات أو خشية الأطراف بالريبة والتوجس من بعضها.
مثلا:
- لقد وقعت إزاحة «مبارك»، لكن نظام «مبارك» نفسه ظل منه بقايا وذيول، وكان يجب أن نفرق بين الدولة والنظام، وأن هناك كثيرين كانوا فى خدمة الدولة وليسوا فى خدمة النظام، لكن ذلك جاء فى ظرف استولى فيه النظام على الدولة نفسها، وأصبح فساد النظام شبه دولة فساد، وليس فساد دولة.
لكن ذلك الالتباس دفع إلى نوع من محاكم التفتيش، أضرت أكثر مما نفعت.
ومثلا:
- المجلس الأعلى للقوات المسلحة لم يستوعب أن الثورة وقعت ضد نظام بكل مجموعات قيمه، وإنما وقعت لمنع مهانة التوريث، وهكذا جاء تصرفه بعد حدث الثورة قاصرا، يحصر نفسه فى تعديل المواد التى أدخلت على الدستور بقصد تسهيل وتمرير التوريث.
ولم تكن تلك هى القضية.
لكن ذلك هو ما حدث لسوء الحظ، وكان ذلك أكبر أسباب سوء الفهم الظاهر بين شباب الثورة، والمجلس الأعلى للقوات المسلحة.
فلا المجلس استوعب فكرة أنها الثورة الشاملة على النظام كله.
ولا الشباب أرضاهم أن يقتصر هدف الثورة على منع التوريث وهو الحق بعينه.
- ومثلا:
فإن التعديلات الدستورية التى جرى الاستفتاء عليها لم تكن ذنب المستشار «طارق البشري» الذى كُلِّفَ بها، فالرجل تلقى التكليف بالتعديل الدستورى وتصرف بمقتضاه.
لكن الاستفتاء تحوَّل إلى قيد حديدى على حركة الثورة، بدلا من أن يكون وسيلة تنظيم لاستكمال مهامها.
- ومثلا:
فإنه بسبب هذا العنصر من عناصر سوء الفهم، فإن الخلاف دب بين جموع الشباب وبين قيادة القوات المسلحة، وهو خلاف كارثى بين طرفين، أحدهما محرك الثورة، والثانى حامى حركتها، وضاعف من الخلاف أن طرفا من أطرافه وهو الشباب تكلم وعبر عن غضبه كل يوم، كل ساعة، كل ومضة إلكترونية - وفى المقابل؟! - فإن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لم يكن له على الإطلاق خطاب، وإنما بيانات جافة لا تقول شيئا، وتنسى أن السياسة فى هذا العصر فى سياقها خطاب، فماذا إذا انفلت عيار الخطاب عند طرف، واستحكم قفل الخطاب عند الطرف الآخر، المحصلة حتى وإن لم يقصد أحد - صراع!
وإذا جرى الصراع على أوضاع اجتماعية قلقة، إذن فإن هذا الصراع محفوف بالخطر.
- ومثلا:
فإنه من نتيجة ذلك المباشرة - وربما بحساسية مفرطة وصل الأمر إلى درجة يصعب على أى وطن قبولها: فليس مستساغا ولا مقبولا أن يتردد فى مصر نداء بسقوط حكم العسكر، فليس هناك ولن يكون هناك «حكم عسكر» حتى وإن ظهرت فى مصر فى بعض الظروف قيادة سياسية من خلفية عسكرية، كما حدث فى تجربة «محمد علي»، وتجربة «أحمد عرابي»، وتجربة «جمال عبدالناصر»، وربما أن التاريخ فى مصر لم يعرف فقط تجربة شاركت فيها أوسع الجماهير فى مصر وفى العالم العربى كله أكثر من تجربة «عبدالناصر»، خصوصا من سنة 1956 إلى سنة 1967، هذا مع الأخذ فى الاعتبار دوما أن القوات المسلحة لها مكان محفوظ فى وجود وحياة الأوطان، وإن اختلفت الأدوار مع درجة التطور السياسي، فضلا عن أن كلمة «العسكر» بإيماءاتها وإيحاءاتها تعبير قبيح لا يليق مع دور مركزى تقوم به القوات المسلحة فى كيان الدولة، كل دولة فى العالم، وليس مصر وحدها.
ثم كانت لذلك تداعيات، منها أن هؤلاء الذى اتهموا بطلب الحكم راحوا يدافعون عن أنفسهم بالاستعداد للتخلى فى الموعد المقرر، ومبكرا، واليوم، والآن - والأمس، لو أنهم استطاعوا استرجاع الزمن.
وذلك إفراط فى الحساسية لا داعى له، فضلا عن أنه طريق للارتجال لا تتحمله طبائع المرحلة ولا ظروفها!
فالارتجال أدى إلى برلمان بغير دستور بالأمس - وغدا إلى رئيس بغير دستور!
باختصار فإنه منذ يناير سنة 2011 إلى اليوم - على أبواب يونيو 2012، عام ونصف العام ، تبددت طاقات كثيرة فى قرارات وتصرفات غير صائبة وغير نافعة.
وهنا تنشأ الحاجة إلى طلب المعجزة والدعاء من أجل وقوعها.
وإذا تأخرت المعجزة أو لم تتحقق، فإن ردى أننا سنعود إلى البدايات الأولى فى ظروف أصعب، وبتكلفة أفدح، وتلك طبائع الأمور.
فالذين لا يفهمون الدرس يعيدون السنة.
والذين لم يستجيبوا لنداء التاريخ، عليهم أن يستعيدوا الظروف لإعادة التقاط ما فات عليهم.
وتكاليف ذلك فادحة، لكنها لسوء الحظ العقوبة العادلة للارتجال أو العناد مع الحقائق.
ولذلك فقد يلزمنا أن نصلى جميعا فى طلب المعجزة يوم الانتخابات، كما يصلون للمطر - صلاة الاستسقاء عندما يحل الجفاف!
- على ذكر صلاة الاستسقاء وحتى لا يحل التصحر. أمام الرئيس الجديد أطنان من الملفات لابد من فتحها ،كلها ذات أولوية. كيف ترتب أهم هذه الملفات ؟
الأستاذ: الرئيس الجديد أيا كان اسمه أمامه أنواع من ملفات لا يعينه عليها غير رب القدرة كما يقولون:
نوع من الملفات الاجتماعية مثلا:
1- أمامه ملف أمنى لا يحتاج إلى الأوامر فحسب، ولا إلى شرعية القوة فقط، ولكنه يحتاج بالدرجة الأولى إلى إشاعة ثقة تعطى المواطنين أملا فى غد، تحكمه قوانين تكفل حقوقا مستحقة وتضمن تطلعات مشروعة.
2- هناك ملف اقتصادى يثير القلق، وقد جلست فى شأنه ثلاث ساعات أستمع إلى سيد العارفين فيه وهو «فاروق العقدة» (محافظ البنك المركزي)، وذلك رجل يشعر الآن بسيف الوقت، وإن كان ثابت الأعصاب، وهو فيما رأيت يضع عينيه على حركة الاحتياطى النقدى لدى البنك المركزي، لكنه يضع اهتمامه الأول على دوران العجلة الاقتصادية، وهذه مرهونة بالأمن فى معناه الشامل.
3- ملف إدارى لأن كل مرافق الدولة فى حاجة إلى عملية صيانة كبرى، فجهاز الدولة مرهق، ثم إن الظروف استنزفت كفاءاته، فلم يعد فيها غير قليل، ونحن فى مصر بلد مركزى يحتاج إلى «الحكومة» بأكثر مما يحتاجها بلد آخر!
4- الرئيس الجديد أمامه ملف التعليم المصرى - والعلم من أبواب لا قيد عليها غير المعرفة.
5- الرئيس الجديد لديه ملف العشوائيات، وهى حقول ألغام فى قلب المدن وعلى أطرافها، كما أنها دليل ظلم اجتماعى بلغ مداه.
6- الرئيس الجديد أمامه مشكلة تشغيل، تتصل بقضية تنمية، تتصل بفيض موارد، تتصل بعناصر وعوامل كثيرة.
7- الرئيس الجديد لديه نوع من الملفات المعنوية تتصل بالإعلام وبالثقافة وبالهوية.
8- الرئيس الجديد أمامه نوع من الملفات الخارجية، فيها العلاقات مع الولايات المتحدة وهى قضية كبرى - أكبر لسوء الحظ مما يتصور أحد - والعلاقات مع إسرائيل، وهى قضية شائكة (أشواكها منقوعة فى السم).
9- أمامه أيضا نوع من الملفات العربية متصلة مباشرة بالهوية وبالقوة وبالأمن وبالاقتصاد.
ولا أريد أن أطيل فى هذه الملفات العربية الآن، وإن كان بعضها لا يحتمل الانتظار مثل ملف «سوريا» مثلا.
- على ذكر الملف السورى، هل أنت راض عن الموقف المصرى فى التعامل مع أزمة النظام فى دمشق؟
الأستاذ: الحقيقة أننى لا أتصور أن يكون موقف مصر تجاه «سوريا» منساقا وراء مواقف آخرين، فالعلاقة بين «مصر» و«سوريا» لها خصوصية من نوع ما على طول التاريخ.
ولا أتصور أن مصر يمكن لها أن تقطع اتصالاتها أو علاقاتها السياسية أو التجارية والثقافية مع سوريا مهما كان أو يكن، لأن «سوريا» هى «سوريا»، بصرف النظر عن طبائع النظام الحاكم فى «دمشق».
وأعرف طبيعة النظام الحاكم فى «سوريا» الآن، ولست يقينا من المعجبين به والمتحمسين لبقائه، لأنى أعرف أنه نظام ظالم مستبد ومحكوم عليه تاريخيا.
لكن هناك أغلبية واسعة فى الداخل السورى لها تصوراتها ولها رؤاها ولها مطالبها، وأول المطالب أنها لا تريد أن يحدث فى «سوريا» مثلما حدث فى «ليبيا»، ثم إنها لا تريد ربيعا من صنع حلف الأطلسي، وفى الوقت نفسه وببساطة أعرف ما يكفى عن معارضين فى الخارج وصلاتهم، وعن حملة محمومة تُشَنْ بالمبالغة، وبالتأكيد فإن لها أصلا، لكن عملية المبالغة والتهويل أكبر من الحقائق، وذلك يمكن أن يدفع هذا البلد إلى ورطة حقيقية، بصرف النظر عن شرور النظام.
وأنا واحد من الذين يخشون حدوث فراغ إستراتيچى كامل فى المشرق، يمتد من شرق «العراق» إلى شاطئ المتوسط.
كذلك فأنا واحد من الذين يلمحون تأثير وجود تنظيم القاعدة فى «سوريا»، ولست أعرف منطق الذين سهلوا للقاعدة أن تنفذ إلى «سوريا» لكى تنسف وتقتل!
أعرف أيضا أن شركة «بلاك ووتر» - الشهيرة بتاريخها الخفى والدامى - لبيع خدمات السلاح موجودة - وإن باسم جديد - حول «سوريا» وفى داخلها أيضا، وأن هناك قرابة ستة آلاف فرد يتبعون لها يوجدون على الساحة فى الداخل والخارج.
أعرف أيضا أن بعض الأطراف حتى فى حلف الأطلسى بما فيه «تركيا» التى تضم بين مواطنيها أكثر من خمسة عشر مليون علوي، ومثلهم من الأكراد، أصبح لها موقف مختلف ولو جزئيا عن موقف أطراف عربية، والغريب أن أطرافا فى حلف الأطلنطى ذاته فى دهشة أن بعض نظما عربية محافظة تحولت فجأة إلى قيادات ثورية تقدمية تدعو إلى الثورة المسلحة، ثم إن الحملة على «سوريا» مُضافا إليها الحملة على «إيران» توشك أن تحول الصراع الرئيسى فى الشرق الأوسط من صراع عربى إسرائيلي، إلى صراع سنى شيعى - فتنة أخرى فى دار الإسلام نفسه وفى قلبه - وتلك خطيئة كبرى!
وأسمع مرات وزير خارجية السعودية يتكلم وأغمض عيناي، فيخيل إلىَّ أن الصوت ليس لـ«سيدٍ محافظ» من السعودية، ولكنه لرمز الثورة العالمية «أرنستو چيفارا»!
والحقيقة أنه فى شأن «سوريا» أو غيرها من البلدان العربية، فإن العرب جميعا، وقبل اتخاذ أى موقف، عليهم أن يسألوا أنفسهم عدة أسئلة: ماذا يجرى بدقة؟! - أى مصالح شعب هذا البلد وأمانه فى ظروف الواقع؟! - ما هى القوى المتصارعة فيه وأصحابها؟! - ما هى المصلحة للدولة المعنية على المدى البعيد؟! - ثم يكون لمن يشاء أن يقرر.
وفيما يتعلق بـ«سوريا» ولست أريد أن أطيل فيه، فلعلى أضيف أن صوتا من الماضى لايزال فى سمعي، وهو صوت «جمال عبدالناصر» يوم الانفصال سبتمبر 1961، وهو يواجه انقلابا فى «دمشق» على الجمهورية العربية المتحدة، التى كانت تضم «سوريا» و«مصر»، وصوت «جمال عبدالناصر» يقول بنزاهة وأمانة وتجرد:
«ليس مهما أن تبقى سوريا فى الجمهورية العربية المتحدة، ولكن المهم أن تبقى سوريا».
والآن هناك من يتدخل فى الشأن السوري، بما يهدد بقاء «سوريا»، وهذا جزء من ملف خطير - بالغ الخطورة.
- بعد «سوريا» هناك «اليمن» الذى أصبح بين نارين:
نار أن عناصر من القاعدة يتدفقون عليه، ونار أن هذا البلد أصبح هدف تصويب وتدريب لصواريخ «درون» (الطائرة بلا طيار الأمريكية)، تقتل هناك كل يوم بلا حساب.
- هناك أيضا ملف «إيران» والعلاقات معها، وهذا ملف لحقته أغراض وأهواء، وطاله قصور يمس الأمن القومى المصرى على حزامه الشمالي، وذلك ملف لا أريد الخوض فى تفاصيله الآن، وإن كانت كل التفاصيل عبثية!
ملفات. ملفات. ملفات كثيرة وخطيرة أمام الرئيس الجديد، كان الله فى عونه.
- على أننا الآن جميعا لابد أن نلتزم الصمت، طبقا لما هو مطلوب منا بقواعد انتخابات الرئاسة، وإذن فلنتوقف الآن عن الحديث، وربما أن إحدى قنوات الإذاعة أو التليفزيون تتفضل مساء هذا اليوم أو غدا، وقبل انتخابات الرئاسة على أى حال - بإعادة إذاعة تسجيل قصيدة «شوقي» التى غنتها «أم كلثوم»، والتى أشرت إليها فى بداية هذا الحديث:
وَقَّى الأرضَ شرَّ مقاديرِه
لطيفُ السماءِ ورحمانُها.