عزيزي أحمد إبراهيم،

لا يمكن ممارسة الديمقراطية بدون ديمقراطيين، ولا يمكن ممارسة الاشتراكية دون اشتراكيين، ولا يمكن ممارسة الإسلام السياسي دون إسلاميين، هذه أبجديات معروفة.

لكن حين تريد إيجاد هؤلاء في الشارع، فليس من المطلوب تعليم وتثقيف كل فرد، هناك مفاتيح فكرية لأي نهج سياسي، وهذه تتمكن من الناس بحسب قدرتها على حل مشاكلها وتحقيق مصالحهم، الأفكار أعني لا الرشاوى.

إيجاد أي فكرة في الواقع العام لا يعني فتح مدارس وتعليم الناس، بل الحياة مع الناس والمعاناة كما يعانون ثم إيجاد حلول لهم مبنية على الفكرة التي يراد لها أن تسود بينهم، هكذا صنع من قبلنا من الشرق والغرب، وحتى نحن أيام زمان.

أما ما تصنعون أنتم وإسلاميي مصر، فهو يشبه قوما في سوق، بدل أن ينصرف كل إلى تحسين بضاعته وتجويدها ودعوة الناس إليها، قمتم بلعن بعضكم البعض، والتنبيه على عوار البضاعة عند الغير، سواء أكان ذلك العوار حقيقيا أم دعائيا.

أما أنني لست بمصري، فأنا إنسان، والمصريون أناس، وبيننا مشترك كثير من هذه الزاوية، وكل ما بعد ذلك فهو فضول على الأصل لا يقدم ولا يؤخر كثيرا، فالنهضة تخص الإنسان من حيث هو إنسان، ولا تخص الإنسان من حيث هو مصري أو فرنسي أو غيره.

نرجع لما حدث في مصر،

مصر تم مصادرتها من قبل العسكر منذ عهد بعيد، وحتى يضمن العسكري بقاء السيطرة، كان لا بد من وجود بعبع مستمر يتم حشد الناس الخائفة تحت العسكري ليحميهم، قد يكون البعبع هذا حقيقي خطر، حقيقي لكنه مبالغ بحجمه، أو حتى متخيل ومفترض. المهم النتيجة وهي مصادرة الحياة السياسية وجمع الناس تحت المظلة الآمنة للسلطة العسكرية.

ما يحدث اليوم، هو أن العسكر بعد سقوط مظلتهم في الثاني عشر من فبراير من السنة الماضية، قاموا بإدخال الناس في نفق مظلم طويل نهايته تقع عند مظلة عسكرية جديدة، واستثمروا الوقت في السنة الماضية والسنة في تجييش الخوف وصناعته وهو ما يجيدون على مدى ستين سنة. فكانت النتيجة ما ترى.

طبيعي العسكر لن يصلوا إلى ما وصلوا إليه لقوة فيهم، بل لضعف في الناس عامة، وفي السياسيين خاصة.
يأتي مع العسكر السياسيون الدهاقنة من الوسط السياسي القديم، وهؤلاء كان من المفروض على الثورة تحييدهم مدة طويلة حتى لا يشكلوا خطرا على المجتمع. وهؤلاء خطورتهم أصلية.
ثم يأتي معهم في الخطورة أصحاب رؤوس الأموال، الذين إن رضوا عنك أرضوا عنك العامة، وإن سخطوا أسخطوهم.
ثم يأتي بعد ذلك جهاز الدولة نفسه، بما في ذلك من إعلام وتعليم مسخر لخدمة العسكر.
ثم يأتي بعد ذلك ضعف الجماعات السياسية القائمة والمناوئة للعسكر، وأضعف ما فيها أنها منقسمة على نفسها، ولو أن انقسامها طبيعي لكن ليس هذا وقته.

الإخوان كجماعة سياسية هم جماعة فاشلة، قد يكونون ناجحين في الشؤون الخيرية والتربوية، لكن السياسة أمر آخر، وأول ما يطلب منهم كجماعة سياسية هو تقديم تصور واضح ويمكن الحكم عليه للدولة، ما هي الدولة وكيف يريدون بناءها، ثم كيف يرون موضوع الحكم في الدولة وكيف يوصل إليه. أثق تماما وعن تجربة أنك لو سألت عشرة من الإخوان المسلمين عن هذا لحصلت على إحدى عشرة إجابة على الأقل.
السبب ليس لانعدام الكوادر السياسية عندهم، بل لأن الجماعة كجماعة ليست جماعة سياسية، فليس لهم هدف سياسي واضح المعالم، ولا طريقة متميزة للوصول إلى هذا الهدف، فكان أنهم يتخبطون خبط عشواء، يصيبون تارة ويخطئون عشرا.
حين يتصور امرئ أن الحكم هو الدولة، وأن الوصول إلى الحكم يعني بالضرورة تحقيق الدولة المنشودة، فهذا غباء منقطع النظير في السياسة، وهو أن يحكم المرء في دولة غيره، فلن يكون إلا حراثا يحرث لصالح غيره، وزيادة ببلاش.
والإخوان لأنهم رفضوا قديما وحديثا أن يوضحوا مفهومهم عن الدولة، صار أمر الدولة عندهم مائعا ضبابيا مختلطا بغيره، ولن يغير هذا شيئا لو وصلوا إلى الحكم بشكل صوري، بل سيكونون قفاز العسكر لو كان العسكر بالذكاء الكافي أن يستغلهم كقفاز.

سائر الجماعات السياسية ليست بذي أهمية حتى نعطيها من وقتنا هنا، فهي بين منقرض، وآيل للانقراض، أو جماعات سياسية انتهازية لا قيمة لها في التغيير والنهضة.

الموضوع لم يفت أوانه بعد، من يريد النهضة عليه أن يعمل لها لا أن يعمل في غيرها، والعمل لها ليس بالإكثار من الجدل مع الخصوم فهذا أمر منفر للعامة ولا طائل تحته فلكل حجته كما تعرف، و90% من أهل مصر وغير مصر لن يهتموا كثيرا هل أفحم العالمانيون الإسلاميين في هذه المناظرة أو العكس في تلك، قد يهتمون بها من باب تشجيع كرة القدم لا غير، لكن ليس اهتماما حقيقيا. ما يهم الناس حقيقة بعامتهم وخاصتهم هو أن تملك حلولا لما يتجدد لهم من مشاكل، أو طرقا مبتكرة لتحقيق مصالحهم اليومية، كمجموع ثم كأفراد. من يستطيع أن يقود الناس في هذا الباب سيقودهم إلى حيث يريد حتى لو كان الجحيم نفسه. ولن يملك حتى العسكر ردعه عن هذا.

هي فرصة، ينشغل فيها كل بنفسه، فمن يريد النهضة فليستغل هذه الفسحة من الوقت التي قد لا تتكرر، والارتقاء الفكري السياسي لأي جماعة سيقود غالبا إلى ارتقاء غيرها من منافسيها، فيصير الصراع السياسي الفكري مفيدا ومنتجا وبعيدا عن صراع الديكة.