{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 1 صوت - 5 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
غسان تويني - في ذمة الله !
العلماني غير متصل
خدني على الأرض اللي ربّتني ...
*****

المشاركات: 4,079
الانضمام: Nov 2001
مشاركة: #8
الرد على: غسان تويني - في ذمة الله !
غسان تويني حكيم لبنان الأخير
محمد أبي سمرا

من رحيق التراب والشمس والحرية صنع "النهار" ليكتب الجرح ويخفي جروحه
كيف لمَن عقد عهداً وميثاقاً مع الحرية والكرم – والكرم هو الحرية وفقاً للإمام الغزالي – وشرّع حياته كلها للأمل والرجاء، للقلق والحضور، لإقلاق الواقع بفيض حيويته وحضوره وأدواره وكلماته، أن يبلغه سأم العيش وقنوطه، وأن يعيش بعد وطنه وأولاده وزمنه وحياته المليئة بالصخب والأحلام التي لم يسأم من "نقش (ها) على حجارة الواقع مثل نحات لا تحضر له رؤيا إلا يريد تجسيدها فوراً" هنا والآن؟! على ما يشهد كثيرون من رفاق مسيرته في حقب مختلفة من تراجيديا حياته.

أحدهم يلخّص هذه التراجيديا متسائلا: أي قدر هذا الذي شاء "للحرّ الكريم"، واهب الآخرين نفسه ووقته وكل ما ملكت يده، أن يحيا بعد أحلامه وبلده الذي أراد، وبعد أبنائه الثلاثة، حتى بعد نفسه؟! من دون أن يتسنى له – على ما اعترف في ختام "سر المهنة... وأسرار أخرى" – التفرغ لليل، كي يكتب النصف الآخر لألوف مقالات كتبها في "نهاره". فـ"الصحافة سرقت مني الشيء الآخر الذي كنت أحب أن أعمله لو أعطيتُ خمسين عاماً كتابة. أقعُدُ أحياناً في الليل وأحلم كم كنت قادراً على كتابة روايات، مثلا (…) ناهيك بطموحي الدائم الذي فات زمانه الى كتاب يجمع عصارة تأملات فكرية لا علاقة لها بالسياسة ولا بالوطن ولا بالصحافة، فقط بالانسان في الانسان".
لكن "الخفر" الذي قال إنه "مفروض" عليه "بالطبيعة"، هو الذي جعله يأنف من "التعرية الذاتية (…) على ثمانية أعمدة في كل صفحة يومياً". والخفر صنوه أو توأمه السري العطاء الحقيقي، في الخفاء، ومن دون منّة ولا حساب.

***
لا، ليس في توق غسان تويني القديم الى تأمل فكري، حنين الى الفتوة والشباب، فتوته وشبابه الفلسفيين قبل أن ينتزعه رحيل والده المفاجئ من جامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأميركية، ويعيده العام 1947 الى بيروت، وهو في الـ21 من عمره. فانصرافه مكرهاً عن الفلسفة، يقول إنه ترك في نفسه عزاء، لأن والده توفى قبل أن يقرأ آخر رسالة بعثها اليه إبنه المشغوف بالفلسفة والراغب في الانصراف اليها تأليفاً وتدريساً، متأثراً بأستاذه شارل مالك في الجامعة الأميركية في بيروت. أما في هارفرد فكان يحضّر أطروحته للدكتوراه عن عمانوئيل كانط ونظرته الى الحرية في فلسفة السياسة والأخلاق، مدفوعاً بإيمانه الذي جعله يسترشد بعبارة القديس يوحنا الدمشقي: "إحلال القلب في العقل". لكنه أضاف الى هذه العبارة شيئاً من حكمة شبابه المبكر: الخروج على "الكسل والجبن" اللذين نفر منهما طوال حياته، لأن شخصيته وطبعه مفطوران على الكرم والإقدام، من دون أي انقياد الى تضخيم ذاته المسكونة بالخفر حتى شجاعة السخرية من النفس. فالسخرية عنده "حماية من السخف ومظاهره، وأداة أساسية في ممارسة الديموقراطية والحرية"، لا أن نعبدهما كـ"تمثال" في الخطب الكلامية، إذ لا ممارسة للحرية من دون "حرية ارتكاب الخطأ" الذي لا ينفك منه الإقدام على الفعل ونقد الفعل والواقع الحي، بعيداً من "قهقهة الشيطان". فهذه ينبذها غسان تويني ويخافها كخوفه من فلسفة نيتشه ومن ضحكة "مفيستو" الشيطانية في "فاوست" غوته. الكريم الصاخب في علاقته بالبشر والواقع، "ثمة صخب" في علاقته الايمانية بالله. فالايمان الأصلي أو الأصيل والدائم، "يجب أن يكون (فيه) كفر يومي. فإذا لم تكفر أحياناً بالنعمة وبالله، فلا يكون لإيمانك قيمة". فجأةً يقول في تأملاته المتأخرة: "أؤمن بأمر... هو حضور، بل شيء من حياة الأموات معنا. أشعر بنفسي مكالماً (بفتح حرف الميم وكسره) لأناس فقدتهم. أحس أنهم معي... أكاد أقول يحرسونني". مفقودو غسان تويني أقرب اليه من حبل الوريد: أبناؤه الثلاثة، زوجته الشاعرة ناديا التي "لو كانت تقرأ الآن لقلت لها إن كتابي بالفرنسية "حرب من أجل الآخرين" الذي وضعته بعد وفاتها عام 1984، (متضمناً) عصارة آرائي ومواقفي واختباراتي في الحرب، إنما هو الترجمة النثرية لديوانها الأخير "محفوظات عاطفية لحرب في لبنان". ما من كاتب حقيقي إلا يكتب تحت أنظار آخرين غائبين، يستلهمهم، يحاورهم، يستنطقهم، يستنطقونه، ربما من فجوة خارج الزمن الذي لا يشعر صاحب "قرن من أجل لا شيء"، "بضيق حقيقي" حياله، برغم يقينه أن الزمن "أبدي"، وهو "زائل". في تأملاته المتأخرة مستوحداً، مسكوناً بقوة الحضور والغياب، أخذت "تنشأ صداقة" بينه وبين "الطبيعة: طريق جميلة أسلكها، أو جدار حجر أحبّه، أو شجرة غرستها وأتفقدها باستمرار، أو زهرة زرعتها وفرحت بها، أو حزنت لما يصيبها إن ذبلت". لكن أيّ ألم ذاك الذي كتمه غسان تويني في كيانه وتعالى عليه في سنوات عمره الأخيرة، بعدما وقف في مكاتب "النهار" قائلاً: "جبران تويني لم يمت والنهار مستمرة"؟ قال عبارته هذه ومضى الى عراكه المستمر مع قدره، كأنه لا يزال في بداية الطريق. وماذا تراه فكّر وأحسّ حين مروره في تلك الطريق الجهنمية التي نصب فيها شياطين الحقد والعتمة والقتل متفجراتهم ليتطاير جسم جبران تويني أشلاء في صبيحة 12 كانون الأول 2005؟
جبران قال في سيرته الافتراضية الناقصة "لم أشعر بشيء في تلك اللحظة (الصباحية...) التي صرت فجأةً بعدها، روحاً في اللامكان واللازمان. (…) الآن، كلما حاولت استعادة تلك اللحظة الحاسمة، الفاصلة بين الوجود واللاشيء، لا أتذكر سوى تلك الغابة الملوّنة من البشر في ساحة الأمل والحرية (…) غابة من الوجوه والأحلام، وأتذكرني بين الجموع، أقف أو أحثّ الخطى، أنظر، أبتسم، أضحك... ثم أبصرني فجأة في المنام أمشي وحيداً في خلاء الساحة، فألمح طيفاً لسمير قصير في خلائها، كأن كل واحد منا يبصر الآخر في منامه".
أما غسان تويني فمثل سيزيف جدّد قدره، فوقف في خريف عمره قرب تابوت ابنه الأخير في الكنيسة، قائلاً من أعماق إيمانه وآلامه: "قلّ أن أعطي لإنسان أن يقف في المكان ذاته على مدى ستين سنة يودع والده ثم ولده. أذكر عندما عاد جبران تويني من المنفى، من السفارة حيث سقط شهيداً في 11 تشرين الثاني عام 1947 وهو يلقي خطبة في الدفاع عن وحدة فلسطين وعروبتها وانتساب لبنان الى القضية العربية، كأنه يحمّلني تلك الرسالة (… التي) نشّأتُ ولدي جبران (عليها)، وهو ردّد صداها بالقسم الذي صار شعاراً لجيل من الشباب". ثم قال مخاطباً صديقه المطران جورج خضر، ومردداً قوله في عظته الجنائزية: "موتنا قيامة. المسيح قام من بين الأموات، (وجبران) ذهب يهيئ لنا مكاناً في وليمة العرس، فهل ألاقيه؟". ومَن هذه حاله ماذا يمكن أن يقول أيضاَ؟: "أدعو اليوم (…) لا الى إنتقام ولا الى حقد ولا الى دم. أدعو الى أن ندفن مع جبران الأحقاد كلها والكلام الخلافي كله، وأن ننادي بصوت واحد ذلك القسم الذي أطلقه في ساحة الشهداء، يوم انتفاضة 2005 التي ذهب ضحيتها".
لكن ألم غسان تويني "الداخلي لا يوصف، وهو ملكه وحده"، بحسب من كلّفه كتابة سيرته (فارس ساسين) في أواسط التسعينات من القرن العشرين، ثم عزف عنها "متطيراً"، منصرفاً الى ممارسة الكرم – الحرية في سخاء جبه به "مصائب" الدهر، "فكان بذلك قدراً في وجه القدر، أو إنساناً نداً للدهر، يتماسك ويصفح ويجود"، خفراً في عطائه ووجوده، لأنه لا يطلب من زمانه سوى الحرية، لا لنفسه فحسب، بل للإنسان والبشر أجمعين، حتى الأعداء القتلة منهم.
و"الناظر متأملا بعمق في حياة غسان تويني وتراث أهل بيته" – على ما كتب فيكتور الكك في كتاب تكريمي له أصدرته "دار سعاد الصباح" – يجده محشوراً في مضيق يكتنفه بحران: "القدر ممثلاً بجبرية المأساة اليونانية، والعقلانية الصارمة الرافضة الانصياع لعبثه"، أي عبث الأقدار. وكيف لمن اجتمعت في شخصه الجبرية والعقلانية، ألا يتمثل "بالسيد المسيح، غافراً للذين رفعوه فوق الجلجة"؟

***

في مقدمته لكتابة الشهادة الوثائقية الموسوعية "سر المهنة... وأسرار أخرى" الذي أهداه الى حفيدته نايلة تويني، ممثلة "الجيل الرابع" من ملحمة "نهاره"، تحدث عن "ثقافة الحرف المكتوب" معتقداً أن "خطأ الصحافة الحديثة" هو أنها "سرقت من القارئ النزعة الجمالية" في الكتابة. وهي نزعة "عُرف بها كتاب صحافيون كبار" عندما كانت "الكتابة محراباً يطرح فيه المؤلف عصارة عقله وكل ذاته، بكل حرية". ومن أعطى لبنان وصحافته و"نهاره" عصارة حياته طوال أكثر من ستين سنة، يحار أيّ شعور ينتابه حين يتأمل أفعاله وحضوره. "ليس هو الندم لأنني صحافي – يقول – بل القهر لأنني لم أصبح إلا صحافياً". فهل حقق "في النهاية طموحه"، فكتب "كتاباً فرح به وأحسه عظيماً"؟ كتاباً أراحه من قهر الصحافي الذي فيه، وخلّصه مما قال إنه "عداء أساسي بين الكتابة للأجيال الآتية، والكتابة الصحافية" الأكولة الملتهمة. الأرجح أن طموح صاحب "حرب من أجل الاخرين" و"قرن من أجل لا شيء" و"سر المهنة..."، وصانع أجيال من الكتّاب والصحافيين، هو الأكول الذي لا يهدأ، وأبقى صاحبه تواقاً الى كتابة... "مسرحية" مثلاً، من دون ان يدري اذا كان لم يفعل "عن ضيق وقت ام ضيق صدر ام ضيق شجاعة". وحده التواضع على الارجح، ما دفعه الى اضافة الشجاعة الى تلك الاسباب القاهرة. اذ كيف لأحد مهندسي مسرح الحياة السياسية والثقافية في لبنان المعاصر، ولمن "يضع يده يوميا في عجين الاحداث" (علي أومليل)، أن يضيق عن كتابة مسرحية؟! ربما لأنه امضى حياته مستعجلاً الى ادواره على المسرح الذي، حين غادره كي يتفرغ للتأمل والتفكير في الحياة والكتابة والوجود، استدعاه قدره السيزيفي الى أدوار جديدة، فكتب: "التاريخ ان يختار المؤرخ زمناً لكتابته، كما يختار الزمن الذي يكتب فيه"، ونسب كتابه الموسوعي، عوداً على بدء كرمه المتواضع، الى اسرة "النهار" التي "في وسعها ان تعرف لك، بل عنك، كل (ما) عرفته "النهار" واختزنته منذ كانت".
والحق ان موسوعة "سر المهنة..." ليست اقل من عمل مسرحي كبير، يجمع فصولاً من تاريخ الصحافة اللبنانية والعربية وصناعتها، لتكون "النهار" قطب صناعة بيروت مسرحاً رحباً للحريات السياسية والثقافية في دنيا العرب. والمسرح، كما الحرية، يرفض "سكون المتكلم الوحيد". لذا "فضل غسان تويني ان يفضي بأسرار صحافته، واحيانا بعض شخصيته (...) مكملاً بذلك تقليده في الحوار والجدلية، رافضاً (...) كل نسق احادي جامد، من الروتين في الحياة اليومية الى الديكتاتورية في الحكم". ذلك ان "كل شيء (عنده) بداية جديدة. حتى النهاية. (...) لا موت ولا صمت، بل حياة تتفجر من كل شيء، ومرافعة مستمرة استمرار يقظة العقل (...) وفوقها وقبلها دويّ الحرية. حرية نرجسية عنيدة تكاد لا تهاب غير جمالها (...) وبعد نصف قرن من لبنان والعرب والعالم، لا يبقى من آلهة الزمان غيرها معبوداً، إن لم يكن بحدّة الشباب ذاتها، فبيأس النضج الأقوى من الامل. شخصية اغريقية بفكر اوروبي وبراغماتية اميركية ولغة عربية يضيق بها، فلا يني يوسّعها. شخصية عاقل يشبه منطقة الجنون وقد بات العقل شذوذاً. شخصية حكيم يسحره العقل حتى في الحب. (إنه) الضاحك المبطّن بالفواجع، (...والذي) صنع جريدة لتكون نهارا اكثر من النهار، ليجمع فيها ما لا يجتمع، هارباً بها وعبرها من ضجر النوع الواحد، وخالقاً فيها ومعها نهراً من التنوع والاختلاف، هو نهر الحياة"، على ما كتب أنسي الحاج مؤكداً ان "شاهد الكلمة يعلم" أن "الكلمة ليست دوماً هي الاقوى" في بلد صار "القتل (فيه) اسهل من تحية". لذا كتب صاحب مقولة "حروب الآخرين" افتتاحيته النهارية في 8 شباط 1990، تحت عنوان جنائزي: "خواطر من جمهورية المقابر"، متسائلاً: "اذا كنت تكتب وانت في وسط حريق، يرقص حوله المجانين، ففيم تفكر؟ لا، لا... تفكر وسط الحريق! ولا يمكنك ان تجد للذين اشعلوه عذراً"، يجيب. العنوان الجنائزي او المقابري هذا، استلّه تويني من افتتاحية قديمة له كتبها في بدايات الحريق والقتل الأسهل من تحية في لبنان، ساخراً سخرية سوداء من انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ففي 14 نيسان 1976 كتب: "... ولأنه كان لا بد لهذه المأساة من نهاية مفرحة، ضاحكة، فقد انتخب المجانين رئيسا وسلّموه مفاتيح القبور وشرائع القتل". وعلى طريقة قدامى الحواريين والحكماء في الفلسفة اليونانية، تساءل: "رئيس الاموات؟ جمهورية أم مقبرة؟"، فأتى جوابه كأنه نشيد النائحات في التراجيديا الاغريقية: "الاموات لا يحتلون الاموات. ارضنا باتت لها الآن حرمة الموت". ولأن عقل صاحب "قرن من اجل لا شيء" ومخيلته التاريخية والتعبيرية، يجوبان الازمنة والعصور، نراه ينتقل في جملة واحدة من ازمنة التراجيديا والملاحم الى الزمن الحديث، زمن التاريخ، فيكتب: "خطيئتنا التاريخية اننا ظننا انه يمكننا الدفاع عن الارض بالنار التي تحرقها. هكذا دمرنا "الوطن" ظانين اننا ندافع عنه وعن السيادة بطرحها في اسواق الحمايات الوهمية والضمانات الواهية!".

***

تبدأ مسيرة غسان تويني الصحافية من منعطف ألمَّ بحياته وحمله على تنكّب إرث والده الذي توفى فجأة في الأرجنتين، حيث كان سفيراً للبنان، بعد سنين كثيرة من بدئه حياته المهنية في الصحافة من الصفر في بيروت مطالع القرن العشرين. لكن ذلك الإرث لم يكن أكثر من خميرة مشروع جديد باشره غسان تويني الشاب، وأطلقه رائداً في خروجه على الموروث، وغير مسبوق في الصحافة اللبنانية والعربية في الخمسينات من القرن نفسه. قبل سنتين اثنتين من ولادة نجله البكر غسان في 5 كانون الثاني 1926، أسس جبران أندراوس تويني (1890-1947) صحيفة "الأحرار" عام 1924. كان تأسيسها حصيلة جهد وكفاح بدأه جبران تويني في العام 1901، بائع صحف الى جانب كونه تلميذاً مجانياً في مدرسة "الثلاثة أقمار" الأرثوذكسية في الاشرفية. كان يبيع الصحف في ساحة البرج قبل أن تسمّى ساحة الشهداء الذين أعدمهم جمال باشا العام 1914، وكان معظمهم من الكتّاب والصحافيين المناهضين للحكم العثماني منذ ما قبل الحرب العالمية الاولى.
مسيرة جبران تويني العصامية مع الصحف والصحافة منذ مطلع القرن العشرين، تشكل مرآة لمسيرة رعيل من عصاميي هذه المهنة المبتدئين بجهدهم وكفاحهم، بداية شخصية، فردية، وغير مسبوقة في هذا المضمار. رعيل نشأ وانطلق من الصفر وسط حراك وتحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية غيّرت القيم والأدوار والمفاهيم والنظرة الى النفس والعالم في المجتمع المحلي القديم المحافظ، ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر. حدث ذلك التغير بقوة في بيروت التي أصبحت ولاية عثمانية وبدأت تخرج من أسوارها وتوسع نشاط مرفئها، وشق منها طريق وصلها بدمشق، وتوسعت علاقاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالمدن الفلسطينية، وبجبل لبنان الذي أصبح متصرفية تتمتع بحكم ذاتي. كان التحرر الاجتماعي والإقبال على التعليم ونشوء حيز أو فضاء عام جديد للتعارف والتداول، من أبرز علامات ذلك التغيير وملامحه في بيروت التي اتصلت إتصالاً وثيقاً بجبل لبنان. هكذا بدأت تنشأ مهنة الصحافة المرتبطة عضوياً بالطباعة والتعليم والكتابة. حال جبران أندراوس تويني، نموذجية في هذا المضمار الذي اختطّه رعيله. فالتلميذ المجاني وبائع الصحف الجوّال في فتوته، ترك المدرسة في العام 1907، كي يتعلم على نفسه ويعمل "صفّيف أحرف" في "المطبعة السورية".
بين العام 1908 والعام 1911، هاجر من لبنان الى باريس، حيث عمل في مهنته إياها، ومصحح "بروفات" في جريدة "نهضة العرب" الصادرة في عاصمة النور التي غادرها الى مصر ليعمل محرراً صحافياً في جريدة "البصير" بالاسكندرية، ثم خطّاطاً ومحرّراً في جريدة "الدلتا"، قبل أن يصير مراسلاً لـ"الأهرام" القاهرية من المنصورة، ليعود الى بيروت غداة ولادة دولة لبنان الكبير العام 1920. جريدة "الأحرار" التي أسسها العام 1924، كانت أول صحيفة تعتمد صيغة الشركة المساهمة في تاريخ الصحافة اللبنانية. كان لها مراسلون دائمون في القدس وحيفا ودمشق (نجيب الريس)، وحلب (سعيد فريحة)، اضافة الى بغداد والقاهرة. في العام 1933 أسس جريدة جديدة هي "النهار"، فحققت نجاحات مهنية كبيرة، وأصبحت من أبرز الصحف اللبنانية في موقفها ضد الفاشية والنازية والتوتاليتارية، وفي معارضتها عهد الرئيس بشارة الخوري، وخصوصاً بعد تزويره نتائج انتخابات 1947 النيابية. وبعد أربعة أشهر من توليه منصبه سفيراً للبنان في الأرجنتين، توفى جبران تويني هناك بنزف في الدماغ أثناء إلقائه محاضرة دفاعاً عن لبنان المستقل، وعن النضال العربي ضد قيام دولة إسرائيل.
هذه المسيرة العصامية الحافلة وغير المكتملة، تشكّل مرآة لرعيل لبناني ارتسمت ملامحه وأدواره الجديدة في نهايات الحكم العثماني وفي حقبة الانتداب الفرنسي السابقة على استقلال لبنان وفي خضم تكوّن دولته الحديثة.
أما مسيرة غسان جبران تويني البادئة بوفاة والده، والممتدة على مساحة أكثر من ستة عقود، فإن تشعبها وتشابكها من "نهاره" الى النشاط السياسي النيابي والحكومي والديبلوماسي، جعلها فريدة في كونها مرآة بانورامية لتاريخ لبنان الاستقلالي، وفي مساهمتها البارزة في صناعة أحداثه وصورته، وشاهدة عليه، على نجاحاته وعثراته، قبل أن تصير الصوت الصارخ ضد غرق لبنان في الحروب القاتلة والمدمرة، "حروب الآخرين" فيه وعليه وبأهله، أي "استحرابهم" كما يحب غسان تويني أن يقول، قبل صرخته في الأمم المتحدة "دعوا شعبي يعيش"، و"شعبي ليس للإيجار أو البيع". إنها مسيرة الفعل اليومي والصوت الصارخ لإرساء الديموقراطية والحياة الدستورية والحريات السياسية في بلد قلق صعب، قبل أن تعصف به الحروب، ولإخراجه من حروبه مجتمعاً ناهضاً ودولة مستقلة.
في الحالتين هاتين، كانت مسيرة غسان تويني الشخص وفي "نهاره"، قلقة ومقلقة دائماً، قدر ما هي صنيعة التجربة اللبنانية المعاصرة في حلوها ومرّها، هي ايضاً مساهمة أساسية في صناعة الوجه الحيوي والناجح لهذه التجربة، من دون أن تتورط للحظة واحدة في مساوئها. مسيرة لم يغادرها مرةً، القلق والخوف على لبنان ومصيره، كأنها من معدن الحلم اللبناني ومن مثاله وأسطورته، ضد واقعه وواقع أهله ومحيطه الإقليمي، في ضعف مقدرتهم على إنجاز مجتمعات حرة ودول ديموقراطية حديثة ومستقلة. لذا ظلت مسيرة غسان تويني و"نهاره" على قلق وخوف دائمين، فلم تعرفا الطمأنينة في بلد لا يهدأ قلقه، مشرّع على الاحتمالات، تصنعه ويصنعها، كأن عليه أن يبتكر مصيره في كل يوم ومرحلة وسط المطبات والمفاجآت العاصفة.

***

قلق الفتوة في مرحلة تعليمه الثانوي، نهايات ثلاثينات القرن العشرين، حمل غسان تويني على الانتماء العابر الى "حزب الكتائب اللبنانية". لكنه في الجامعة الاميركية في بيروت، انتمى الى "الحزب السوري القومي الاجتماعي"، مفتوناً بشخصية أنطون سعاده، معاكساً بذلك ميول والده العربي الهوى، أيام كانت الجامعة الاميركية مختبراً طالبياً لتجارب ولتيارات سياسية وايديولوجية كثيرة متباينة ومتصارعة في سبيل "النهضة" الثقافية، وحيث نشأت صداقة بين تويني الشاب ويوسف الخال. آنذاك أودع غسان تويني عبارات الشباب وأحلامه ورؤاه قصائد، أعاد نشرها بعد نصف قرن على كتابتها. في "الحزب السوري القومي" صار منفّذاً عاماً للطلبة، ووكيلاً لعميد الإذاعة والثقافة، قبل سفره للدراسة الجامعية العليا في الولايات المتحدة الاميركية.
هذه المرحلة من حياته انتهت بعودته الى لبنان في العام 1947، وبدئه بتطوير "النهار" وتسلمه رئاسة تحريرها، ودخوله القدس مع الجيش الأردني مراسلاً حربياً ميدانياً، محققاً ميله الى صحافة الميدان والريبورتاج الحي، التي جعلها أدباً خاصاً، مؤثراً مباشرة في سياق الأحداث في لبنان والبلدان العربية، الى جانب كتابته الافتتاحيات غير المقيّدة بزمان ومساحة. افتتاحيات تمزج بين أساليب كتابية متنوعة، بين الفكر والتأمل والتداعي الذهني وحوادث الواقع السياسي والثقافي والتأريخ. كأنما غزارة الافكار المعجونة بالتجربة الحية وخلاصاتها وبسعة المعلومات، تتدفق متسارعة الى قلمه، فيصوغها بلغة متوترة، حوارية، تفاجئ القارئ، تخاطبه، تدعوه الى التفكير، تحرّضه على تعميق فهمه الوقائع والحوادث وتوسيع آفاق إدراكها، وعلى عدم الإنغلاق والتعصب الأعمى الذي يفقر المعاني وملكة العقل.
مَن هذه حاله في الكتابة منذ بداياته، يصعب أن يستكين لعقيدة وحزب ودور وفكرة عن العالم والمجتمع والسياسة والثقافة. وإذا كان قلق الفتوة والشباب، وإرادة اختبار النفس والعالم والافكار خارج الدوائر التقليدية، قد دفعاه الى الانضواء في حزب وعقيدة، فإنه فعل ذلك عندما كان الحزب والعقيدة هذان، إطاراً جامعياً معاً لتواصل فئات واسعة من أبناء جيله من النخب الجديدة، وتخالطهم وتثاقفهم، تحت إلحاح غنائية الشباب المتمردة، الحالمة بالثورة والتغيير في أربعينات القرن العشرين. لكن تجربة إدارة فريق عمل صحافي من أهواء ومشارب متنازعة، والنظر الى الوقائع والحوادث والعالم بعينين تجوبان الآفاق، وذهن متّقد متفتح اختبر الأفكار الفلسفية وتعدّد الأدوار وتشابكها الملازمين لحرية الكائن البشري، قد تكون هي ما حمل غسان تويني الشاب على اعتبار فصله وخروجه من بوتقة الحزب الذي انتمى اليه، تحرراً من المحازبة. وذلك ليستمر "عدّاء مسافات طويلة" جديدة، حسبما وصف أحدهم سابقَهُ "فيلسوف الفريكة"، أمين الريحاني، باعتباره خارجاً على تجربة مجايليه من الكتّاب النهضويين من أصحاب "الانشاء اللفظي" الخالي من المعنى والتجربة، الى رحاب ابتكار نهج غير مسبوق في الكتابة الصحافية الميدانية الحية. غسان تويني "العدّاء" الذي لا يتعب، وجوّاب الآفاق بين الافكار المتباينة، المتشابكة، المتناضحة، المفتوحة على أمواج التاريخ والحاضر وتناقضاته، لم "يرُح للثمر (بل) هام بالشجر" (محمد مهدي الجواهري)، بتشابك أغصانه وجذوره، بنسغ حياته المصنوع من رحيق التراب والشمس والحرية، في "نهاره" وفي النيابة والوزارة والعمل الديبلوماسي وسواها من المحافل والمنتديات الثقافية والسياسية المحلية والدولية.
لا النيابة سجنته ولا الوزارة ولا الديبلوماسية، ولا مكتبه في "النهار"، حيث كان كثيراً ما يصنع النواب والوزراء ورؤساء الجمهورية. لكن جرأته في الخبر الصحافي الحر، قادته مرات الى السجن. افتتاحيته – الصرخة "بدنا ناكل جوعانين" ساهمت في إسقاط العهد الثاني للرئيس بشارة الخوري عام 1951، بعد "مؤتمر دير القمر" الذي شارك فيه نائباً الى جانب كميل شمعون وكمال جنبلاط وعادل عسيران وعلي بزي وبيار إده وأنور الخطيب وإميل بستاني... في ما سمّي "الجبهة الاشتراكية الوطنية". نفوره من اختصار الحرية والسياسة واجتزائهما، ومن تدخل جهاز المخابرات العسكرية في الحياة السياسية في العهد الشهابي، لم يمنعه من تقدير المحاولة الاصلاحية الشهابية، ومن التصدي لعجزها وقصورها في آن واحد. صلاته الواسعة بقادة المقاومة الفلسطينية، وتأييده الدائم لقضية الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، لم يحملاه مرةً على عدم الجهر بقلقه الدائم من ظاهرة المقاومة على لبنان وتركيبه السياسي ونظامه الديموقراطي. لكنه ظل على اقتناع عميق بإمكان خروج لبنان من مأزقه المتناسل والكبير، إذا أمكن إخراجه من الصراعات والتجاذبات الاقليمية والدولية. لذا ظل "يسأل نفسه ومحاوريه: ماذا تريد سوريا من لبنان؟"، قبل اتفاق الطائف وبعده. قبل سنين عشر من بدء "حروب الآخرين"، غلب عليه الوعي القائل بأن "ضرورات المرحلة، اكبر من قدرات رجال السياسة والعمل السياسي" في لبنان، على ما يلاحظ الرئيس فؤاد السنيورة. لكن هذا القصور في الطبقة السياسية ظل واحداً من همومه الدائمة ومقولاته المتكررة. طوال سنوات ما بعد الحرب طغت على كتاباته وتأملاته الفكرية هموم بناء المواطنية واعادة بناء الدولة ومؤسساتها، ومسألة العلاقة بالدولة السورية.

***

طوال حياته لم يكن غسان تويني شخصاً واحداً يمكن حصر ادواره. انه شخص الادوار الكثيرة الصعبة على الحصر والاحصاء. فهو ابتكر تقليداً لـ"تنوع المواقف والآراء والاساليب الكتابية في الجريدة الواحدة"، ولم يتوقف عن "الاحتفاء بوجهات النظر المتباينة" (باتريك سيل). نادرا ما احب عبارة "الحرية المسؤولة"، ففضّل عليها كلمة "الحرية" من دون اضافة، وبقي "خصماً عنيدا للاستبداد" (علي أومليل)، الاستبداد الذي مرضت به معظم البلدان العربية طوال عهده في "النهار"، فدفعت ثمن حريتها دماً. في احلك الظروف والاوقات ظل "المايسترو الابرع في قيادة فريق صحافي من مواهب ونزاعات وافكار مختلفة" (رياض نجيب الريس). فـ"المتوتر الخلاق (ظل) على عكس النخبة المذعورة من اي تحول، والمقبل الدائم على كل مغاير" (غسان سلامة)، سالكاً دروب المغامرة من دون ان يكفّ عن "رصد الواقع بغضب رعد، وطمأنينة وردة" (ادونيس). وجوهه، خبراته، ادواره وتجاربه، جعلته "مزيجاً رائعا من المكوّنات المحلية والعربية والتطلعات الكونية. اصعب الجراح الشخصية والوطنية"، ضاعفت تعاليه على الجراح ومبادراته بحثاً عن "حلول للأزمات والمآزق" (عمرو موسى). اما حين "يتسنى وضع تاريخ (حقيقي) حديث للبنان"، فسيكون "بين قليلين" يمكن القول انهم "صنعوا بلدا" (عباس بيضون). في سنواته الاخيرة صار "حكيم لبنان الاخير في مواجهة العواصف" (الياس خوري). ومن اجتمعت في شخصيته "كل ما نريده للبطل من مزايا، يصرُّ على خلق البطل في سواه. بمثله يطلع النهار ويبقى" (سعاد الصباح). لكن كيف للذي قال عنه المطران جورج خضر إنه "بيزنطي – سوري ذو ارث عربي وولاء لبناني"، الاّ يرى فيه طارق متري "رجل الهويات المتصالحة في زمن يتهدده اختزال الناس في هوية واحدة، ولا يخشى على السياسة من الانحدار الى لهو الخناقة الخطير؟". وها هو أمين معلوف، صاحب "الهويات القاتلة" يبصر "هموم لبنان" ومآسيه، مصبّرة على كتفي غسان تويني الذي "كتب من جرح، ولو انه كثيراً ما اخفى جراحه ليكتب" الامل والرجاء ضد اليأس والخواء.

mohamad.abisamra@annahar.com.lb
06-09-2012, 01:13 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
غسان تويني - في ذمة الله ! - بواسطة العلماني - 06-09-2012, 01:06 AM,
الرد على: غسان تويني - في ذمة الله ! - بواسطة العلماني - 06-09-2012, 01:13 AM
RE: غسان تويني - في ذمة الله ! - بواسطة vodka - 06-09-2012, 04:54 PM,
RE: غسان تويني - في ذمة الله ! - بواسطة Narina - 06-26-2012, 10:29 PM,

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  غسان بن جدو هل يستأهل كل هذا الضجيج ...اعتبره مذيع وصحافي أقل من عادي بسام الخوري 4 1,425 05-25-2011, 08:04 AM
آخر رد: نوار الربيع
  صار عنا علي نور الله , وحجي نور الله وناقصنا عيسى نور الله بسام الخوري 2 1,705 12-02-2010, 12:14 AM
آخر رد: Free Man
Heart نايلة تويني christ ومالك مكتبي mouslem يتزوّجان «مدنياً» في قبرص بسام الخوري 3 3,715 07-29-2009, 02:49 AM
آخر رد: بسام الخوري
  غسان بن جدو - ضد التيار ...youtube بسام الخوري 4 1,047 03-22-2008, 06:36 PM
آخر رد: بسام الخوري
  ذكرياتي مع غسان تويني سيناتور 1 758 03-05-2008, 01:58 AM
آخر رد: سيناتور

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS