{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 1 صوت - 5 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
غسان تويني - في ذمة الله !
العلماني غير متصل
خدني على الأرض اللي ربّتني ...
*****

المشاركات: 4,079
الانضمام: Nov 2001
مشاركة: #11
الرد على: غسان تويني - في ذمة الله !
تستشهدُنا من بعدك كلّ نهار
يا ابني، يا حبيبي!
غسان تويني

أمضي، في الفراغ الذي تركتَ من بعدك في دنيا الحياة، أسألك: لماذا، لماذا؟
أسأل طيفك الذي يحوم حولي ويُثقل الفراغ بصوتك الذي لا يهدأ، مروراً بقَسَمك حاملاً صداه هدير جماهير "ساحة الشهداء" إياها، وكأنها امتدّت وتمتدّ بنا وبالسابقين واللاحقين من قرن إلى قرن: لماذا لم تخف من الموت؟ لماذا كسرت التنبيه وهرولت الى الشهادة وكأنك على موعد مع القتلة الذين كنا وكنتَ تعرف أنهم ينتظرونك؟ لماذا ذلك الزهد بالذات وبالحياة؟...
أحمل على شفتيّ وهج القبلة التي لم أجد جبينك لأطبعها عليه قبل أن يلفّك التراب، ولا تركوني ألمس وجهك الضاحك لأغسل عنه بدموعي آثار البارود الذي أحرقَك وأحرقَ قلبي وقلوب محبيك والمتعبّدين للوطن والحرية كلهم...

***
التراب الذي لم يبرد ولم يتحجّر من ثلاث سنوات ليس حاجزاً بيننا وبين الموت الذي تسكن! الموت صار هو حياتنا، فأعرف أنك تسمعني وأنك استمررت تنظر إلى كل ما صرنا إليه من بعدك...
لا عزاء لنا بعد... لكن العزاء آتٍ، لأن ليس في التاريخ – ولا القدر – منطق أو ناموس يسمح بأن تذهب الشهادة سدى... فاصبر وانتظر في كنف الحب المؤمن الذي يُدفئ غربتك، أعرف...
لن تنتظر إلى الأبد، لأن الأبدية صارت خلفنا ووراءك.

***
إفتح عينيك يا ابني، يا حبيبي.
ساعة اليقظة لا بدّ آتية، ويأتي لقاؤك مع المؤمنين بقَسَمك، فتراهم كيف يتجاوبون.
***

الشهداء لا يشعرون بيأس لأنهم يدركون بحماسة الشهادة أنهم يستمرون يستشهدوننا معهم بفرحٍ إلى ساعة القيامة الآتية في تاريخٍ، إذا أردناه، هكذا ما كان منظوراً، فهو هو، لا سواه، المنتصر على الموت. ليس القتلة الذين ينتصرون ولو اغتالوا الشهداء ببربرية تحرق الأجساد...
ولو غرّروا بعقول الذين يصدقونهم.
فالروح الباقية أبداً أقوى من البارود ومن نار الجحيم الذي فتحوا أبوابه ليُطلقوا ناره... ستحرقهم هذه النار إياها لأنها سترتد عليهم... فلنؤمن معاً!
عهد علينا يا ابني كل نهار: لن نستسلم للنار مهما اشتعلت! ولن نخاف الموت الزائل أمام دفع الحياة.
الشهادة الدائمة الحياة تشترينا وتقيمنا حتى من الموت وتُحيينا.
فلنؤمن ولا نتردد!
12/12/2008
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناديا تويني

التقيت ناديا في العام 1954، إذ كنت في حينه نائباً عن بيروت ونائباً لرئيس المجلس. وقد عادَني يوماً في منزلي نسيبٌ لي إذ كنت مصاباً بالإنفلونزا، كما أراد أن يلقي عليّ التحيّة قبل أن يغادر مسافراً إلى أثينا. وهو كان على معرفة وثيقة بسفير لبنان في اليونان لسبَبٍ بسيط هو أنّ المستشار الأوّل في السفارة كان، من باب الصدف، ابن حميّه وصهره ميشال فرح الذي ترك شقّته وسيّارته في أثينا بتصرّفه أثناء غيابه. وقد عرض عليّ قريبي استغلال هذه الفرصة معه، فكيف يمكن رفض هذه الدعوة اللطيفة؟ استفسرت من أطّبائي لأعرف إن كانوا لا يمانعون هذه الرحلة، فأجمعوا على أنّ لا شيء يمنعني من القيام بهذه الرحلة الخاطفة. ومن الطبيعيّ أنني كنت آخر من يمكن أن يتبادر إلى ذهنه أنّ للسفير، محمّد علي حماده، وهو من الطائفة الدرزيّة، ابنةً فاتنة في التاسعة عشرة من عمرها، تدعى ناديا، تتابع دروسها في كلّية الحقوق الفرنسيّة.
هي إن كانت تعود بأصلها إلى الجبل اللبناني، إلى بلدة بعقلين في منطقة الشوف، تلك التي وصفتها في ديوانها الشعريّ لبنان: عشرون قصيدة من أجل حبّ، فوالدتها فرنسيّة، من منطقة الأوفرن Auvergne، ومتخصّصة في قواعد اللغة الفرنسية.
وتعرّفت بناديا حماده بعد أسبوعين من وصولي إلى أثينا في مناسبة مأدبة عشاء أقامها والدها في السفارة على شرف مجموعة من السيّاح اللبنانيين. ومن حسن حظّي أنهم أجلسوني إلى يمينها وهو ما سمح لي بأن أصارحها، طوال فترة العشاء، ليس فقط بأنها جميلة وذكيّة بل متكلّمة مفوّهة أيضاً. ففي الواقع أنّها كانت مثقّفة جدّاً وآسرة للغاية. تجاذبنا أطراف الحديث طوال السهرة، لا بل أكثر من ذلك، إنه فعلاً الحبّ من النظرة الأولى أصابنا نحن الاثنين. وفيما بعد استمرّت لقاءاتنا يوميّاً ولا نقوى على الافتراق عن بعضنا ولو للحظة واحدة، فنترافق إلى المسرح والحفلات الغنائيّة والعشوات. نبقى معاً في كلّ حين. وفي تلك الفترة لم تكن تكتب الشعر بعد، أقلّه بحسب ما أعرف، لكن فيما بعد بعثت إليّ برسائل حبّ مؤثّرة بلغة فرنسيّة رائعة وهو ما تسبّب لي في حينه بالكثير من عقد النقص وما يزال. كما أنّها أتقنت اللغتين اليونانيّة والعربيّة. أمّا أنا فلم أكن أعرف إلا اللغة اليونانيّة القديمة بعد أن تعلمناها في هارفرد حيث كان علينا التمكّن من الاستشهاد في نصوصنا بالفلاسفة اليونانيين القدامى. وإذ تسلّحت بذلك رحت أتباهى أمامها وأحاول منافستها. وفي أحد الأيام، وفي محاولةٍ منّي لإثارة إعجابها، طلبت من نادل في أحد المقاهي ماءً، «هيدرا» Hydra باليونانيّة القديمة، فإذا به يحضر لي خارطة لجزيرة «هيدرا» وليس كوب الماء الذي طلبته! فضحكت وصحّحت لي خطأي: «إينا بوتيري نيرو»
Ena potiri nero وهي كلمات ثلاث ليست بالتحديد يونانيّة الأصل! وشاركنا صاحب المكان الحديث، وعندما علم أنّني أورثوذوكسيّ وأنّ الصبيّة التي أرافقها هي ابنة سفير لبنان لم يعد يتزحزح عن طاولتنا. فأن تكون أورثوذوكسيّاً يشكّل بالطبع ورقة قوّة في اليونان، تلك التي تفتح في وجهك كلّ الأبواب. وسألني إن كانت ناديا أورثوذوكسيّة هي أيضاً فأجبته: «ليس بعد»، إذ لم يكن من الممكن أن أكشف أنّها درزيّة وما يعنيه ذلك. فالدروز يشكّلون طائفة في اطارالإسلام الشيعي، وليست مختلفة جدّاً عن الطائفة العلويّة التي تحكم سوريا حاليّاً، وهم يؤمنون بالتقمّص، أو أقلّه بخلود النفس، لكن من دون أن يفضي ذلك إلى مواقف واضحة الصياغة. ومعتقداتهم هي مزيج من عناصر مقتبسَة من التيّارات الصوفيّة الاسلاميّة والتقاليد القرآنية كما من العالّم الفارسيّ القديم ومن الهند وحتّى من تيّارات فلسفيّة مثل الأفلاطونيّة الحديثة والغنّوصيّة، إلخ. وهذا لا يشجّع اتّخاذها الآراء «الأورثوذوكسيّة» جدّاً في شتّى المواضيع، وهو ما جعل هذه الطائفة في الكثير من وجوهها، تتبع التقيّة.إلا أنّ المقهى لم يكن المكان المناسب، ولا هذه المواعيد الغراميّة كانت هي الوقت الملائم لأتعمّق في قراءة علمية في المذهب الاسماعيلي، وفضّلنا العودة إلى مواضيع أكثر حياديّة. ويبقى أنّه لم يكد يمضي ثلاثة أشهر على نشوء حبّنا الصاعق حتّى تزوّجنا، أنا وناديا، وهي على كلٍّ مهلة لم تكن كافية لتقدير عدد المعوّقات التي سيكون علينا التغلّب عليها (...)
جاءتني يوماً، بعد وفاة نايلة بفترة وجيزة، تطلعني على مفكّرة، من النوع الذي تعدّه الشركات في نهاية العام وتوزّعه على موظّفيها. وسألتها عمّا فيها، وعمّا إذا كانت تدوّن شيئاً من نوع اليوميّات، فاجابتني بالنفي. فتحت المفكّرة ذات التلبيسة الجلديّة وقرأت فيها شعراً. دهشت للأمر وصارحتها بدهشتي، فهي لم يسبق لها قطّ أن أظهرت أيّ ميلٍ إلى كتابة الشعر لدرجة أنّني، وقد كتبت بعض الشعر في سنوات صباي، لم أفكّر قطّ في أنّ هذا الموضوع قد يشكّل مادّة نقاشٍ بيننا. لقد فاتني ذلك، وها هي تعرض عليّ مجموعة من النّصوص التي لا شكّ في أنّها عملت عليها بعناية، وتشجّعني، في حال أعجبتني، على نشرها مزيّنة برسوم تضعها بنفسها. ومن أجلها هي، قبل أيّ شيء آخر، أسّست دار النهار للنشر التي تستمرّ حتى اليوم في نشر الكتب وقد حظيَتْ بشهرة لا بأس بها وخصوصاً بعد نشرها الأعمال الكاملة لمؤلفات جورج شحادة(1). وهكذا تمّ نشر كتاب ناديا تويني الأوّل.
وبعد تلك المناسبة، أصبح الشعر بصورة من الصور العمود الفقري في حياتها، وهو شعر يتجه بأكمله ناحية شمس الموت السوداء. كتبت ناديا بالفرنسيّة، وجرّبت بعدها أن تترجم شعرها إلى العربيّة بمساعدة الشاعر أدونيس أحياناً. ولاحقت صدور دواوينها. وسرعان ما اخترنا دور نشر فرنسيّة مشهورة بسعة منشوراتها الشعريّة وبنوعيّتها. وكان النجاح من نصيبها، ففي غضون سنوات أصبحت الشاعرة اللبنانية الفرنكفونية المقروءة أكثر من غيرها في لبنان. لكن بعض أصحاب النوايا السيّئة سارعوا إلى القول أنّني «فبركت»، بمساعدة دار النشر التي أسّستها وجريدتي، الشاعرة ناديا تويني، وهذا ما لم يخطر في بالي قطّ، إذ أعتقد أنّ شعرها أرقى بكثير من كلّ ما فعلته لكي أشجّعها. لقد ساعدت ناديا تلبية لحاجة في نفسي، ودوماً كان كلانا مبعث إلهام للآخر، ودليلي على ذلك أنك إذا قرأت قصيدة لناديا ونصّا لي في معالجة الموضوع نفسه، سوف تجد فيهما نقاط تشابه مدهشة في الفكر والرؤية مع أن صياغتهما مختلفة (...)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مَكْرَم الشاعر

قبلت بتولّي منصب سفير لبنان في الأمم المتّحدة لأنّه سمح لي بالابتعاد عن السياسة الداخليّة. وكنّا نعيش في أوج الحرب "الأهليّة"، أو بعبارة أخرى في خضمّ الصراعات العربيّة-العربيّة والاسرائيلية-العربية التي نُقِلت إلى الساحة اللبنانيّة. وحتى الآن لم يتغيّر شيء فعلاً من وجهة النظر هذه. كما أردت الانسحاب لأسباب صحّية، فقد صرت أعاني كثيراً في حياتي، وكما ذكرت سابقاً كانت حالتي الصحّية دقيقة، لكنّ ذلك لم يعوّقني قطّ عن أداء واجبي.
لقد استفدت من هذه المشاكل الصحّية في العام 1949 إثر دخولي السجن للمرّة الأولى، وذلك لكي أتملّص من الإقامة المختلطة في زنزانة أتشاطرها مع حوالى ستين موقوفاً، وبذلك حصلت على حقّ التمدّد على سرير التمريض، وأمكنني إتمام مدة توقيفي البالغة ثلاثة أشهر في المستشفى. قد تعود هذه الحالة الصحّية الخبيثة ببعض الفائدة على صاحبها في بعض الأحيان. في تلك الفترة كنت أشعر، ومنذ سنوات، بأنّني لم أعد متحكّماً بوضعي، وهو ما توحي به تماماً العبارة الانكليزيّة a lease of life، أي "الحياة بالإعارة". كنت كمن يعيش خارج جلده بسبب حالتي الهشّة والمنزعجة قليلاً في النهاية. خضعت لأوّل جراحة في القلب في باريس على يد الطبيب الجرّاح شارل دوبوست
Charles Dubost، فتحسّنت حالتي فعلاً لدرجة أنّني كرّرت العمليّة مذّاك عدّة مرّات، حتى بتّ أحسّ أحياناً أنني وقّعت عقداً مع الشيطان.
وهذه الأسباب الصحّية نفسها، إضافة إلى بعض الإرهاق، هي التي كانت وراء القرار الذي اتّخذته في العام 1984 بأن أنأى بنفسي عن الحياة السياسيّة الداخليّة. كنت قد فقدت ناديا ودوافع استمراري في ما شرعت فيه حتّى ذلك التاريخ. ولا يمكنني أن أحكم في ما إذا كنت قد "نجحت" في السياسة. كنت على الأرجح قد بلغت أقصى ما يمكنني بلوغه في مسيرتي كواحد من أبناء طائفة الروم الأورثوذوكس، على أساس أن حقوقي في التمثيل كانت محدودة بموجب النظام، إذ إنّ أعلى منصب يمكن أن يبلغه شخص من طائفة الروم الأورثوذوكس هو نائب رئيس مجلس النواب أو نائب رئيس مجلس الوزراء، وقد شغلْتُ كلا المنصبين في مرحلة مبكّرة من مسيرتي السياسيّة. وهذا يعني بشكلٍ ما انسداد أفق الطموحات أمامي، ممّا سهّل علاقتي طبعاً بالسلطة. فعندما كنت أتفاوض مع أيّ من رجالات الدولة كان يعلم أنّه لا يستطيع أن يقدّم لي ما لم يسبق لي أن حصلت عليه، ويدرك أنّني لا أتصرّف انطلاقاً من خلفيّات معيّنة ولا من طموحات لا يبيحها لي الدستور. وهذا من جهة أخرى ما يبرّر انكفائي وشبه التقاعد الذي أعيشه اليوم.
انسحبت، كما في أغلب المرّات، إلى باريس مع ابني مكرم الذي كان يتابع تحصيل بعض الدروس استعداداً لدخول جامعة هارفرد. كنت من ناحيتي قد استقلت من منصبي كسفير في الأمم المتّحدة إذ إنّ مدّة ولاية السفراء من خارج الملاك تنتهي مع انتهاء عهد الرئيس الذي عيّنهم، وهو ما انطبق عليّ. فبما أنّ عهد الرئيس الياس سركيس قد شارف على نهايته، ولم أكن راغباً أبداً في العمل مع بشير الجميّل، قائد الميليشيات المسيحيّة الذي كان يستعد ليُنتخب رئيساً جديداً للجمهوريّة، قمت باستباق الأمور، فقدّمت استقالتي طالباً من الرئيس سركيس أن يتكرّم ويقبلها قبل موعد انتهاء عهده في أيلول من العام 1982. قَبِل سركيس الاستقالة ولم أكد أعود إلى بيروت حتى اغتيل الرئيس الجديد، ولم تمضِ على اغتياله أربع وعشرون ساعة حتّى انتخب لرئاسة الجمهوريّة شقيقه أمين الجميّل الذي اقترح عليّ، إذ وجدني مهيّئاً، أن أعود مجدّداً إلى العمل كمستشار له نوعاً ما. طرحت شروطي ورفضت الالتزام رسميّاً، أي أنّني رفضت دخول الملاك وبالتالي أن أتقاضى راتباً وألتزم التواجد الدائم في البلاد. وقد قبل أمين الجميّل بشروطي. كان في أمسّ الحاجة إليّ إذ لم يكن له أي مؤيّد داخل الإدارة كونه لا ينتمي إلى الطبقة السياسية Establishment ولم يكن مهيّئاً للمنصب الذي رُمِي على عاتقه بين ليلة وضحاها. وقد بدأ تعاوننا على أساس التفاهم والاحترام المتبادل، لكن سرعان ما انتابني السأم. فقد أحسست أنّني أصبحت إلى حدٍّ ما مثل مدبِّرة يقتصر عملها على تحضير سفراته الرسميّة. كما أنّ موقعي هذا كان يزعج الجميع، إذ كان هناك على الدوام مشكلة بروتوكول. فأين يجب إجلاسي في خلال السفرات الرسميّة؟ قدّام وزير الخارجيّة أم وراءه؟ في باريس وواشنطن كانوا يجلسونني قدّامه، أمّا في ألمانيا ففي مكان بعيد وراءه.
عملت مستشاراً للرئيس، إنما بشكل شبه رسميّ، لا بل من خلف الستارة، وهو ما أكسبني حريّة في تحرّكاتي. كنت قد قرّرت الاستقرار في باريس منصرفاً إلى تأليف كتاب نشر لاحقاً بالفرنسية في باريس تحت عنوان حرب من أجل الآخرين(1). وكانت جريدة النهار تخرج من مرحلة توتّر مع سوريا التي أغظتها عدّة مرّات في مقالاتي الافتتاحيّة. فما بيني وبين النظام السوري لم يكن الودّ صافياً، وكانت التهديدات توجَّه إليّ باستمرار، وكذلك إلى الجريدة. وأحسست أنّه آن الأوان لكي أصدر في باريس مجلّة رديفة لجريدة النهار يمكن أن تحلّ مكانها في حال مُنِع توزيعها، أو حتّى، باختصار، في حال "حُظِّرت" كما حدث في العام 1977 حين منعت من الصدور لمدّة خمسة عشر يوماً وللمرة الأولى في تاريخها إثر دخول الجيش السوري لبنان... ومباني جريدتنا. وكانت الصحافة العربية في الخارج في أوج ازدهارها، ونحن، عبر جريدة النهار لم نكن نتوجّه إلى اللبنانيّين وحسب، بل إلى مجمل الدول العربيّة في ما يشبه بشكلٍ ما نموذج الفضائيّات التلفزيونيّة التي ستنتشر لاحقاً. ومن جهتي، فقد آن لي أن أقوم بوقفة، لكلّ هذه الأسباب، وقرّرت أن يكون ذلك في باريس، إذ لم أكن أنا من يسعى وراء الرئيس، بل أنّ الرئيس أمين الجميّل هو الذي سعى إليّ. وكثيراً ما كان يزور باريس حيث نمضي بعض الوقت في دراسة الملفّات، ثمّ ننتقل لتناول طعام الغداء في مطعم "بيتي هوغو" الواقع على بعد خطوات من منزلي والذي كان يحبّه. وبمعزل عن هذه الاجتماعات رحت أعمل على كتابي مع أمين معلوف الذي بدأ مسيرته المهنيّة في جريدة النهار وقد اتّخذته مساعداً لي. لكن لم تكن مهمّته تقضي بأن يساعدني في الصياغة، بل بمراجعة النصّ والتدقيق في لغتي الفرنسيّة، وهو ما برع في إنجازه.
وفي خلال إقامتي هذه في باريس، حيث قمت على خدمة الرئيس جزئيّاً، كلّفت أيضاً، وبصفة رسميّة هذه المرّة، مهمة تنسيق المفاوضات بين إسرائيل ولبنان وسوريا. وقد اشترطت ألا أجتمع بالاسرائيليّين. وصرت، في نظر الوفد الاسرائيليّ، العدو الخفيّ، الذي يصدر الأوامر إلى المفاوضين اللبنانيّين والذي يعطّل، بعد المداولات، كلّ ما تمّ الاتّفاق عليه بين الطرفين. وقد أخذوا على الناطقين باسم وفدنا أنّهم لا يوافقون على أي أمرٍ قبل المراجعة، ملمّحين بذلك إلى أنّهم مضطرّون إلى مراجعتي قبل اتّخاذ أي قرار. أصبحت إذن ذاك الذي يقول دائماً: "لا"، وذاك الذي، في نظر الأميركيين والاسرائيليّين، يعرقل سير الأمور الطبيعي. (...) وفي باريس وقعت في نوعٍ من الحيرة. رحت أكتب وأعمل على ملء وقتي الذي بات يتخلّله الكثير من الفراغ، وظللت طبعاً أتابع عن كثب ما يجري في لبنان، وما يقوم به رفاقي ممّن احتفظوا بمناصبهم. كنت أتباحث مع أمين، وأرسل مقالاتي إلى جريدة النهار التي وضعْتُ لها خطّة فعليّة لكي تستمرّ من دوني. وكنت ألتقي ابني مكرم من وقت إلى آخر. وفي العام 1987 وتحديداً في 13 كانون الثاني، أي عشيّة عيد رأس السنة بحسب التقويم الروسيّ الأورثوذوكسيّ، مرّ مكرم، الذي كان قد دخل جامعة هارفرد، بباريس. وأتى ليراني. كنت مدعواً إلى العشاء عند بعض الأصدقاء. وقد ألحّ في طلب السيّارة لكي يذهب ويمضي السهرة مع بعض أصحابه. كان الثلج يغطّي باريس ولذلك لم أشعر بالاطمئنان. فعارضت أن يقود بنفسه لكنّه، وبكلّ لباقة، طلب منّي أن أبلغ السائق. وكان الليل قد تقدّم حين عاد السائق فجأة. سألته عن مكان تواجد ابني، فأجابني بأنّه تركه مع أصحابه في نادي لودميلا الليلي، وأنهم سيتدبّرون أمرهم لباقي السهرة على أساس أنّ شبّاناً آخرين انضمّوا إليهم بسيّاراتهم الخاصّة. وعاد القلق يساورني.
وبعودتي إلى المنزل تلقّيت اتّصالاً هاتفيّاً من مستشفى "بيتييه سالبيتريار" يبلغني فيه أنّ ابني تعرّض لحادث سيّارة، وأنّه غاب عن الوعي وعليّ الحضور فوراً. وعند وصولي إلى المستشفى عرفت المزيد عن تفاصيل الحادث. كان مكرم جالساً في المقعد الأماميّ وقد تولّى القيادة أحد أصدقائه. وفي محاذاة حديقة مونسو العامّة، قامت إحدى الشاحنات بحركة مفاجئة قاطعة الطريق على السيّارة المنطلقة بسرعة، فانزلقت ومرّت من تحت الشاحنة، وللحال غاب ابني مكرم عن الوعي بفعل الصدمة. ودخل في غيبوبة لمدّة أسبوع، كنت في خلالها أزوره لكن من دون أن أعرف إن كان يستمع إليّ أو يراني. وإذا ما سمعني يبقى عاجزاً عن الكلام، ومع ذلك تهيّأ لي أنّ رموش عينيه كانت ترتجف عندما أقول له شيئاً ما، لكن المسألة كانت بكلّ بساطة من تخيّلاتي... وعندما راح الأهل والأصدقاء ممّن لازمونا في محنتنا هذه يلومونني لأنّني أعلّل النفس بالأوهام، كنت أطلب منهم أن يدعوني بسلام مع هذه الأوهام. أما جبران، الذي كان في العشرين من عمره، فقد عاش قمّة المعاناة لأنّه كان طبعاً يحبّ أخاه كثيراً. وما علمته لاحقاً هو أنّه شكّل في منزله في بيروت هيئة استشاريّة طبّية دائمة شارك فيها كلّ الأخصّائيّين الذين دعوا إلى تحليل آخر النتائج الطبّية الواردة من باريس. وفي لحظات من هذا النوع يجد المرء نفسه ملتفتاً إلى الله يسأله: "ما الذي جنيته لكي أستحقّ ذلك؟".
وفي خلال هذه الأيّام التي أمضيناها على أمل إنقاذ مكرم، في تلك الأيّام السوداء، اكتشفنا أمراً جديداً. كان مروان، شقيق ناديا، مع بعض الأطبّاء في شقّة جبران الملاصقة لشقّتي، يتباحثون في الوضع وفي ما يناسب فعله أو لا يناسب. وعند منتصف الليل حضر مروان، مع من بقي من الأطبّاء، لرؤيتي، وهم ينوون إبلاغي بأمر ما. خشيت لوهلة أن يكون مكرم قد توفّي. لا، هو لم يمت، لكن اكتُشِفت بعض دفاتر الشعر بين أغراضه. بدا من البديهيّ أنها أشعاره فعلاً لأنّنا تعرّفنا إلى خطّه بشكله الذي يشبه خطّ ناديا، إضافة إلى أنّ شِعره لا يقل جمالاً عن شِعرها. والحقيقة أنّ آخر ما كان يمكن أن يتبادر إلى ذهننا هو أن يكون شاعراً، لأنّه كان مشغوفاً بالأحرى بالهندسة المعماريّة التي شرع في دراستها، كما ذكَر أنه سيدرس التجارة في الولايات المتّحدة، لكنّه لم يلمّح بتاتاً إلى الشعر، لا شعر أمّه ولا شعره. كانت طبيعة مكرم توحي بأنّه من الشباب المتعددي الاهتمامات، ذو نضوج مبكّر، مقدام وحازم. وقد علمت يوماً من صديق لي من المصرفيّين اللبنانيّين أنّ مكرم عرض عليه أن يشتري جزيرة في بحر نيويورك. فكيف لِمَنْ يبيع الجزر في بحر نيويورك أن يظهر شاعراً بهذا الإرهاف؟
وعندما تناولت دفاتر شعره وقرأت ما فيها، ظننت فعلاً لوهلة أنّها من نصوص والدته. وبالتأكيد اشتملت هذه الدفاتر على أمور صبيانيّة من المستحيل أن نتصوّر ناديا تقبل بتوقيعها، إلا أن أشعار الطفولة هذه كانت جنباً إلى جنبٍ مع قصائد أخرى أكثر بلوغاً ونضجاً. كانت والدته قد توفّيت قبل أربع سنوات، من مضاعفات مرض السرطان وبالتالي لم تعلم قطّ بأنّ ابنها يكتب الشعر. ولو علمت لاختلجت مشاعرها على الأرجح. لقد خصّت هذا الولد بحبّ جارف، وكانت تدافع عنه في كل الأمور وأياً كانت الأفعال. إذن هو ورث جزئيّا من موهبة أمّه، وربما قليلاً من موهبتي إذا سُمِحَ لي أن أؤكّد، ومن دون تهكّم ذاتي، أنّني نشرت ايضاً مجموعة أشعار تعود لأيام الولدنة والمراهقة(1). وقد أوضحت في المقدّمة أنّ معظم هذه الأشعار تعود إلى العام 1943 سنة نيل لبنان استقلاله. ومع ذلك ليس فيها ولو سطرٌ واحد يذكر هذا الحدث المثير. كنت أستلهم موضوعات أكثر جدارة بأن تأخذ بشغاف شاب يانع وبمخيّلته. وفي حينه كان الشاعر الفرنسي بودلير معبودي. لقد أهدانا مكرم أشعاره، لكن القدر سلبنا مكرم لتكون الكارثة الثالثة في حياتي.
من كتاب غسان تويني
"فلندفن الحقد والثأر" – دار النهار
06-09-2012, 01:19 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
غسان تويني - في ذمة الله ! - بواسطة العلماني - 06-09-2012, 01:06 AM,
الرد على: غسان تويني - في ذمة الله ! - بواسطة العلماني - 06-09-2012, 01:19 AM
RE: غسان تويني - في ذمة الله ! - بواسطة vodka - 06-09-2012, 04:54 PM,
RE: غسان تويني - في ذمة الله ! - بواسطة Narina - 06-26-2012, 10:29 PM,

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  غسان بن جدو هل يستأهل كل هذا الضجيج ...اعتبره مذيع وصحافي أقل من عادي بسام الخوري 4 1,321 05-25-2011, 08:04 AM
آخر رد: نوار الربيع
  صار عنا علي نور الله , وحجي نور الله وناقصنا عيسى نور الله بسام الخوري 2 1,594 12-02-2010, 12:14 AM
آخر رد: Free Man
Heart نايلة تويني christ ومالك مكتبي mouslem يتزوّجان «مدنياً» في قبرص بسام الخوري 3 3,503 07-29-2009, 02:49 AM
آخر رد: بسام الخوري
  غسان بن جدو - ضد التيار ...youtube بسام الخوري 4 952 03-22-2008, 06:36 PM
آخر رد: بسام الخوري
  ذكرياتي مع غسان تويني سيناتور 1 679 03-05-2008, 01:58 AM
آخر رد: سيناتور

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS