عزيزي الحوت الأبيض،

العمل المدني هو الذي سينتج، أي شكل من أشكال النهضة، أما الإستقواء بالعسكر فلن ينتج إلا زيادة الإنفصال بين الدولة والمجتمع.

المفترض أن العالمانيين في مصر، سواء من كان منهم ليبراليا أو إقصائيا، أن يستفيدوا من عمل خصومهم الذين رغم المنع والملاحقة من قبل أمن الدولة وما يشبهها من أجهزة قمعية إبان أوج دولة المماليك، لكنهم مع ذلك استطاعوا أن يبنوا قاعدة شعبية تشكل ربع ناخبي شعب مصر، وهم من انتخب مرسي في الجولة الأولى.
هذا الربع لم ينتخب مرسي لأن الإخوان قد قاموا باللطم والدعاء بالويل والثبور وعظائم الأمور حين كانوا يساقون إلى المعتقلات في العهود البائدة، بل لأنه كان هناك من يعمل بصبر وصمت حتى أنتج عمله هذه النتيجة.

سبب انتخاب هذا الربع للإخوان ليس أيدولوجيا بالضرورة، لأن نسبة المتأدلجين في أي مجتمع لا تكون عالية عادة، سبب هذا الإنتخاب هو ظن هذا الربع أن هؤلاء الناس بمقدورهم حل مشاكل الحياة المتجددة يوميا، وهو الرهان حين الحديث مع سواد الناس. الرهان يكون هل تستطيع أن تحل مشاكل الناس وتصرف عنهم ما يكرهون؟ حل مشاكل الناس لا يكون فقط بتأمين رغيف الخبز والكساء، أيضا من يحكم الناس وطريقة تداول السلطة هو مما يعني الناس، رغما عن أنف دولة المماليك وغيرها من الدول الإنكشارية التي سادت المنطقة العربية مؤخرا.

الإخوان لا يلبون الطموح لإنتاج نهضة لأسباب ذاتية فيهم، لكنهم يفترض أن يكونوا قد نجحوا في دق جرس العمل عند غيرهم، حتى يتوقفوا عن اللطم ودعاء الجاهلية، ويشمروا عن ساق وساعد، ويبدؤوا بالعمل خارج القوات المسلحة، ليبدؤوا بالعمل داخل المجتمع ومعه، لتقديم نموذج يرونه صحيحا للنهضة حتى تتبناه الناس وتعمل به وتسعى به إلى السلطة، فإن أيام مرسي في السلطة لن تطول بظني ولن يستكمل مدته.
هذا العمل يتطلب تغييرا فكريا في أعماق المجتمع المصري، وهذا التغيير لا يلاحظ بين يوم وليلة، بل لا بد من سهر الليالي عليه، ونحن نعلم أن المجتمع المصري كغيره من المجتمعات القائمة في المنطقة العربية، هو مجتمع ركام، تجد فيه كل شيء من مرطبان العسل إلى قفة التراب.
سهر الليالي والعمل الدؤوب المتصل لإيجاد قاعدة معينة عند الناس يروها هي الأساس لجلب المصالح ودرء المفاسد سينتج خلال فترة عقد تزيد أو تنقص إن تم ضمان الحريات العامة، سينتج شيئا في المجتمع صالح أن يوجد دولة حقيقية تخص المجتمع وتعبر عنه وتحكم باسمه.

الإخوان المسلمون لا يستطيعون ضمن الهيئة الحالية لجماعتهم أن يقدموا نموذج نهضة، لسبب بسيط جدا هو أن كل فرد منهم هو حالة خاصة بذاتها، والعمل للنهضة لا يكون فرديا بحال. لا يوجد مشروع عند الجماعة لتحقيق نهضة بالمجتمع، هناك برامج دعوية وتربوية لا علاقة لها بالمجتمع ولا الدولة ولا العلاقات بينها. برامج تخص الشؤون الشخصية للأفراد ويعبر عنها كل بما يريد.
نجاحهم المرحلي في الوصول إلى الحكم لا يعني أنهم يبنون دولة، بل يعني أنهم يستطيعون الحديث مع الناس وتحريكها لما يريدون، وبالحري أن يستطيع غيرهم هذا إن كان لديه برنامج واضح وسهل للعامة أن تتقبله وتفهمه، على أن الفرد لن يوجد تغييرا.

هل يكون هذا النشاط على أساس عالماني أم إسلامي؟ لا فرق.. المهم وجود النشاط الجماعي المنسق والمبلور والواضح المعالم، والبسيط الذي لا يحتاج العامة لفهمه أن يذهبوا إلى جامعات متخصصة، لأن عمل النهضة ليس عمل الجامعة، وكما أن الثورة الأمريكية لم تكن كلها جيفرسون، كذلك النهضة المصرية لا ينبغي أن يكون كل الساعين فيها ممن شابت شعورهم بين الكتب وفي قاعات المحاضرات.

لا أجد الآن أي نشاط إسلامي جماعي مفيد للنهضة، ولا أجد أيضا أي نشاط عالماني جماعي مفيد للنهضة، كل ذلك غائب بسبب سني القمع الممنهج ضد المفكرين في المنطقة العربية، واستئصال الأحزاب الحقيقية العاملة بين الناس. ولا بد اليوم بدلا من التلهي بطعن بعضنا البعض، أن يجد من له في مصر حاجة، ويستغل فرصة الجمعة المشمشمية القائمة وسهولة العمل السياسي النسبي في غياب الأجهزة القمعية مثل أمن الدولة وما شابه، ويبدأ بالتحدث مع من يرى رأيه من الناس، للتنسيق لعمل ما.

من الصحي أن يوجد في مصر وغير مصر جماعات متنافسة تسعى إلى النهضة، لأن كل جماعة ستنشط خصومها للعمل، هذا إن تمّ العمل على طريقة البحث عمّا ينفع الناس، أما العمل بأسلوب الجدل، وطريقة لو قالوا كذا لقلنا لهم كذا، ولو ردّوا علينا بكذا لرددنا بكذا، فلن تنتج شيئا، وستحمل العامّة على النفور ممن يتبعها، ورميه بالتعالي والتنظير، وتضيع طاقته ويفنى وقته وهو يتعثر بأذيال ثوبه وأشياء أخر يعف المقام عن ذكرها.

سوف لن أستطيع الردّ على كثير من الزملاء هنا ممن داخل ويداخل، ويردّ ويصدّ، باختصار لأنهم يتحدثون فيما ما لا يعنيني أو ما لا يعنيهم، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. ولا يعنيني بحال أسلوب قالوا وقلنا، وردّوا ورددنا...

نتمنى لمصر خروجا هادئا وصحيا من بيت الطاعة العسكريّ إلى ما يليق بها كمصر العظيمة قطب الشرق وأمّ الدنيا.