أما أن الاستفتاء مطبوخ أو غير مطبوخ فهو كلام مرسل يمكن تنزيله على أصل الدستور، فهو دستور كتب ابتداء في وقت كان فيه الإخوان وغيرهم في السجون، واستفاد منه غير الإخوان وغير الإسلاميين ولا شك جراء ظروف فرضت على الجميع، وكون انفتاح السلدات أفاد الإخوان (نسبيا) مقارنة بضييق ناصر، فهذا لا يعني أن الوفديين أو الشيوعيين لم يستفيدوا منه أيضا!
مشكلة خصوم الإسلاميين ممن يهلل للديمقراطية ليل نهار ويطنطن بها، أنه يريدها ديمقراطية على المقاس الليبرالي أو العلماني لا أكثر!!
ومن هنا فهم يتضايقون من دخول الإسلاميين إلى الميدان على قدم المساواة معهم، فيعوقونهم بمبررات لا صلة لها بالدمقرطة، فهم ساعة ضد الأحزاب الدينية!! وتارة ضد استغلال الدين بالسياسة، وتارة ضد التطرف والأصولية، ولأن الإخوان وغيرهم أعلنوا بوضوح انحيازهم للخيار المدني الديمقراطي، فهم ما يكفون عن النبش في التاريخ والجغرافيا والفلسفة وعلم النفس والاجتماع للحيلولة بين الإسلاميين وممارسة حقهم الديمقراطي!

وسؤالي:
- هل خص السادات الإخوان أو الإسلاميين عموما بمزايا لم ينلها الوفديون والشيوعيون والناصريون وغيرهم؟
- هل سمح السادات بحزب للإخوان كما سمح بشكل مباشر بحق الوفديين والشيوعيين والناصريين بوجود أحزاب رسمية تحت رعاية وسمع وبصر الدولة؟
- هل سمح السادات للإخوان بجريدة أو مجلة رسمية تطبع داخل البلاد ما خلا مجلة الاعتصام التي كانت تستفيد من تصريح قديم ثم اضطرت للطبع خارج مصر حين استنفذت عوائق ذلك التصريح الذي لا يزال يمنع الإخوان من منبر رسمي إعلامي لهم؟!
- ألا يدل تقدم الإخوان –والإسلاميين عموما- في فترة رفع عنهم بعض الحصار والتضييق على أن لهم قبول ما لدى الأوساط الشعبية مقارنة بالأحزاب التي لا تزال تعيش في فسح ومنابر إعلامية دون حراك أو تأثير مجتمعي ولا أعتقد أن تواجد الإخوان في البرلمان المصري وحجمهم في المعارضة إلا دليل على أن الأمر أكبر مما يحاول البعض تصويره وكأنه (صفقة ساداتية إخوانية)!!

أما بخصوص الدستور المصري فإن المادة الثانية تنص على أن مبادىء الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، ومع أن الزميل بهجت يوحي بوجود صفقة ما، ومع أنني أعتقد جازما -كما علمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم- بأن البينة على المدعي، فإن المصادر القانونية المصرية تقول أن التعديل تم نتيجة الاستفتاء على تعديل الدستور، الذي اجرى يوم 22 من مايو سنة 1980، الجريدة الرسمية، العدد 26 في 26 من يونيه سنة 1980
والخطأ الذي ألمح له ليس في تجاوز شهر من التاريخ الذي كتبه الزميل بهجت حين تكلم عن تاريخ التعديل (الصفقة) المزعومة 30/4/1980!!
ولا أنه أراد أن يخلط بين نفوذ الإخوان البرلماني وتحالفاتهم السياسية في تلك الفترة مع الجميع بما فيهم الوفديين من أصحابه القدامى أنفسهم! وبين عنف الجماعات الأخرى التي كانت تعادي الإخوان، وتفسق قياداتهم أو تكفرهم، وهذه الجماعات هي التي ذهب السادات صريعا لها، لا صريعا للإخوان، وهذا تدليس خطير كنت ولازلت أتوقعه من الزميل الذي يخلط الأوراق لمآرب وخصومات لا تخفى!

أقول: ليس هذا هو الخطأ الذي أود التوقف عنده في مغالطات الزميل بهجت، وإنما تلك التقويمات غير الموضوعية وهي تطرح بقالب يوحي ببعض التحليل العلمي، وهي تفتقر إليه!
الزميل يقول:

(لقد أعيد صياغة الدساتير في الدول الإسلامية ما بعد الكولونيالية و على صداراتها نص إما على أن الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع كما ورد في الدستور السوري عام 1977 المادة الثالثة ، وهي نفس المادة بنصها في دستور 1950 ، و إما على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر أو (المصدر) الرئيسي للتشريع ،وهذا تحديدا نص المادة الثانية من الدستور المصري عام 1980 و المادة 2 من دستور دولة الكويت و المادة 7 من دستور دولة الإمارات العربية و المادة 3 من الدستور اليمني ، و غيرها من الدساتير العربية ،و لا يكاد يخلو دستور في دولة إسلامية من هذه المادة باستثناء لبنان و تونس و تركيا .و في النص الأخير يكون على قاعدة أن تكون المرجعية في ذلك للفقه من نطاق المشهور من مذاهبه .)

في البداية أصحح للزميل بعض الأخطاء الفاقعة في التاريخ، فليس لسورية دستور صادر في عام 1977! ولعله يقصد عام 1973!
ثم إن الدستور السوري لا ينص على أن الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي بل على أنه (مصدر رئيسي).
أيضا الزميل زعم أن دستور الكويت والإمارات ينصان على أن الشريعة هي مصدر أو (المصدر) الرئيسي، وحقيقة فهما ينصان على أنه مصدر رئيسي بدون تعريف لكل من المصدر و الرئيسي!
وكان أحسن لو أنه ذكر مع مصر واليمن من الدول التي نصت على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع صراحة أو ضمنا، كلا من السعودية (المادة1 )و(المادة7) والسودان (المادة4 ) والمادة (65) وعمان (المادة 2) وقطر (المادة1 ) وليبيا في (ثانيا).
أيضا الزميل زعم أن النص على الشريعة الإسلامية لا يكاد يخلو منه دستور عربي وهو كلام غير دقيق، فليس لبنان وتونس وتركيا وحدهم من لم يعلن ذلك، بل كلا من: المغرب والأردن والجزائر ودستور صدام! طبعا لم يتسن لي الآطلاع على دساتير الدول الإسلامية غير العربية لأحكم حكما عاما كما حكم زميلي بهجت.

لكن أخطر الأخطاء هي تلك الأخطاء المبطنة بتحليلات غير موضوعية تحت طائل اللغة الرقمية الموزعة بين أنماط من التحليل غير المنطقي!
زميلنا يتكلم عن صياغة الدساتير في الدول الإسلامية ما بعد الكولونيالية، وكان حريا به أن ينبه إلى أن هذه الدول نفسها كانت في الحقبة ما قبل الكولونيالية تخضع لدستور عثماني يؤسس لحكم الشريعة –بغض النظر عن تحفظاتنا على بعض التطبيق-، وأن مجلة الأحكام العدلية التي صيغت على قاعدة الفقه الإسلامي بقيت هي القانون النافذ في أكثر مناطق العالم الإسلامي، وبقي لها سلطانها القانوني في سورية وغيرها إلى أن دشن الحكم الجبري بالانقلابات العسكرية التي أجهضت الدستور والقوانين والبرلمان والمجتمع المدني!
وتصحيح العبارة أن نقول بأن تعديل المادة تأسس في دساتير الدول الإسلامية (العسكرية الشمولية الانقلابية) لأن هذه العبارة تعطينا بصمات واضحة على الأجواء التي نحيت بها الشريعة عن المجتمعات المسلمة! وهي عبارة صارخة لا تحتاج لكثير تأويل في تحليلها وفهم الحقيقة الساطعة منها كالشمس في رابعة النهار..
زميلنا يطرح في صيغة ما تبريره لعروض تنحية الشريعة، وذلك بأن دولنا كمصر والشام وغيرها دول متعددة المذاهب والأديان! وهو موضوع طويل سبق وتحمس له وطرحه في مواضيع كثيرة ولأجل هذا فلن أسترسل في مجادلته، ولكنني ألمح فقط إلى ضعف هذا المبرر الذي يطرحه كثيرون تبريرا لتنحية إرادة الأغلبية مراعاة لما يسمونه بحقوق الأقليات!!
والغريب أن هذه النخب وتلك الحكومات نفسها لا تلتفت إلى مثل هذا التبرير فيما تفرضه من ألوان للهوية
وهنا دعوني أحصي رقميا من واقع الدستورين المصري والسوري لنرى أي هوية يصر عليها أصحاب (الطبخة) التي يتكلم عنها زميلنا بهجت!

o وردت كلمة الإسلام في الدستور السوري مرتان في المادة الثالثة حصراً، هما: 1- دين رئيس الجمهورية الإسلام . 2- الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع
أما في الدستور المصري فقد وردت كلمة الإسلام ثلاث مرات في المادتين: المادة 2 الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع
المادة 11 تكفل الدولة التوفيق بين واجبات المرأة نحو الأسرة وعملها في المجتمع، ومساواتها بالرجل في ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية. فهل كل ما استحقه أصحاب الهوية الإسلامية في مصر وسورية، كلمتين أو ثلاث كلمات من الدستور لا أكثر مقارنة بما سيرد من هويات أخرى كالاشتراكية والعروبة!!
o وردت كلمة (اشتراكية) في الدستور السوري 24 مرة منها ثمانية مرات في المقدمة وحدها! بينما وردت في الدستور المصري 13 مرة! ولا أدري إن كانت الاشتراكية تمثل قاسما مشتركا للمجتمع في أي من مصر او السودان؟! ولماذا لا يلتفت لحقوق الليبراليين والإسلاميين بتلك الحساسية التي يتناول بها كل ما يمت للإسلام، مع أنه يمثل بيقين أغلبية عددية لا يرقى لعشرها أتباع الهوية الاشتراكية!
o وردت كلمة عرب في الدستور السوري 61 مرة منها 31 مرة في المقدمة وحدها، كما وردت 10 مرات في الدستور المصري! وهنا أتساءل عن الأعراق القومية الأخرى في سورية –مثلا- وهم يشكلون ربع السكان تقريبا، فلماذا لم يتحسس العلمانيون وغيرهم من هذا الاختصاص بالهوية الذي يفرض على الدولة هوية قومية تتضمن حرمان غير العربي من استحقاق الوصول لرئاسة الجمهورية كما في المادة 83 من الدستور السوري: (يشترط في من يرشح لرئاسة الجمهورية أن يكون عربيا سوريا متمتعا بحقوقه المدنية والسياسية متمما الرابعة والثلاثين عاما من عمره.)، أذكر أنه في نادينا هنا طرح الكثيرون، اعتراضهم على أن ينص الدستور السوري بأن دين رئيس الجمهورية هو الإسلام، ولم أقرأ يوما اغتراضا لهؤلاء (الليبراليين!!) على أن يكون (عربيا)!! بل بلغ من تطرف الدستور السوري أن يتكلم عن الشعب العربي، والمجتمع العربي، دون أن يذكر مرة اسم (الشعب السوري) أو (المجتمع السوري)! ووصلت صفاقة البعثيين أن يقولوا عن القوميات الأخرى: (العرب السوريون الأكراد!!!!)

أعود بعد هذا لعنوان الموضوع هنا:

(أقباط المهجر يطالبون بالغاء الشريعة من الدستور المصري)

وحين نتكلم عن إخواننا الأقباط، إنما نتكلم عن الأقباط الوطنيين الذين يحملون هم مصر، ويعتزون بهويتها القومية، ولا يرضون بها بديلا، ولا يستقوون عليها بالخارج مهما بلغ بهم الشنآن...
أما أولئك الذين يتنطحون للتشهير بأوطانهم، والاستقواء عليها بالخارج، ومبارزة هويتها وثقافتها وتعايشها الاجتماعي التاريخي، بما يمليه عليهم بعض الموتورين هنا أو هناك، فهم مرفوضين قبطا كانوا أو مسلمين، وللأمانة فإن الوطنيين الغيارى الأحرار في مصر من المسلمين والقبط والحمد لله، أكثر من الحاقدين الشانئين المحادين لله والأوطان..
وها أنا أنقل لكم ما دلت عليه الأرقام في استطلاع للرأي نظمه المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بمصر، قبل مشروع كولن باول للدمقرطة، ومشروع بوش لتشر الحريات في المنطقة!!
والاستطلاع نشرته جريدة الأهرام في 20/3/1985حول تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر، والذي شارك في الإجابة على أسئلته مسلمون ومسيحيون... فكانت هذه الأرقام ذات الدلالة الحاكمة:
- مع التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية زادت نسبة المسيحيين عن المسلمين (32% إلى 31% )!
- ومع تطبيق أحكام الشريعة على الجميع ، بصرف النظر عن اختلاف الدين زادت نسبة المسيحيين عن المسلمين (71% إلى 69 %).
وكان تعليل الإجابات:
أننا مجتمع واحد.
وهذه الجرائم حرمها الله على كل الناس..
ولا فرق بين المسلم والمسيحي أمام القانون...
ولأننا دولة إسلامية.
هؤلاء هم الأقباط الوطنيون، وهذا هو صوتهم المرتفع برغم كل ضجيج أولئك القابعين في المهجر يتخيلون من خلال لوبياته ودوائر القرار هناك، ما يشنعون به على وطنهم، خالطين الحابل بالنابل، لتبدو مبارزتهم للمجتمع المصري ثقافة وإرثا وتعايشا وحضارة، وكأنها معارضة شرعية لنظام مستبد، للجميع الحق المشروع في استخدامه حتى يتبوأ مصر وغيرها أصلح الناس لها!
نحن نعارض الأنظمة إذا انحرفت، ولكننا أبدا لا نعادي الأوطان، وإن معاداة ثقافة المجتمع لهي نوع من اللعب على حبال الفتنة لتأجيج فتنة طائفية لا تزال دوائر خارجية تدفع باتجاهها إن استطاعت، لولا أن ثقتنا بجبهة الداخل ستفوت على هؤلاء الحاقدين ما ينفقونه من مؤامرات خبيثة وفتن مروعة وأموال باهظة يمولون بها كل هاتيك الدسائس، وسينفقونها ثم تكون حسرة عليهم، ثم في نار الغيظ يقذفون! وها هو بابا الأقباط الأرثوذكس الأنبا شنودة بقول: ( إن الأقباط في ظل حكم الشريعة، يكونون أسعد حالا وأكثر أمنا، ولقد كانوا كذلك في الماضي ، حينما كان حكم الشريعة هو السائد... نحن نتوق إلى أن نعيش في ظل-لهم ما لنا وعليهم ما علينا- .. إن مصر تجلب القوانين من الخارج حتى الآن، وتطبقها علينا، ونحن ليس عندنا ما في الإسلام من قوانين مفصّلة، فكيف نرضى بالقوانين المجلوبة، ولا نرضى بقوانين الإسلام). نقلا عن: جريدة الأهرام في 6/3/1985.

إخواننا في الوطن من الأقليات الدينية يعلمون أن ما يجمعنا من قواسم مشتركة أكثر مما يجمع كلا منا بأتباع ملته من القوميات الأخرى...
وهم يدركون أن الشريعة قانون حضاري ما كان ولن يكون في مبادئه السمحة وأطره الحضارية متجاوزا على خصوصياتهم الثقافية والدينية، فقد قبل عقلاء المسيحيين بالإسلام كنظام وتشريع، واعتبروه هوية حضارية، في حين يحلو لبعض المتأسلمين أن يحوله إلى مجرد فولكلور وأساطير غير ملزم بأفكاره ونظمه وتشريعاته بل وفي شعائره وعقائده وغيبياته!!!
يقول فارس الخوري رئيس الوزراء السوري الأسبق: أنا مسيحي ولكني أجاهر بصراحة: أن عندنا النظام الإسلامي، وبما أن الدول العربية المتحدة(كان ذلك في عهد الوحدة المصرية السورية واتحادهما مع اليمن) بأكثريتها الساحقة مسلمة، فليس هناك ما يمنعها من تطبيق المبادئ الإسلامية في السياسة والحكم والاجتماع. (نقلا عن : فارس الخوري وأيام لا تنسى، للأستاذ محمد الفرحاني ص267).

فليقل أقباط المهجر ومتأسلمي المهجر والمحشر ما يقولون، ومن استطاع منهم أن يوقف حركة التاريخ فليفعل، فلا بقاء إلا للأصلح، وتلك الأيام نداولها بين الناس، فأما الزبد فيذهب جفاء، واما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض،
فإلى أولئك الماكثين في الأرض من مسلمين وأقباط أرفع يدي احتراما..
وإلى أولئك المهجريين الذين هاجرت أرواحهم وثقافاتهم وعقولهم عن الوطن بآماله وآلامه: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
واسلموا لهوية وطنية شامخة في وجه الأعاصير..(f)