تحت عنوان "عقيدة التوحيد ومسيرة الحضارة" كتب السيد كمال غبريال في إيلاف بتاريخ 17 أكتوبر 2005 تعقيباً قيماً ومكملاً لمقالي السابق بعنوان "عقيدة التوحيد قد أضرت بالبشر". ومع امتناني للكاتب لمساهمته في هذا الموضوع، أود أن أضيف بعض الملاحظات على ما قدم لنا. فالكاتب يقول: "ورغم أن المقال تضمن التسلسل التاريخي لتطور العقائد الدينية لدى الشعوب، إلا أنه قد تجاهل الربط الضروري والمنطقي، بين التتالي الزمني وتطور مسيرة الحضارة الإنسانية." انتهى. وأنا في الحقيقة لم أتجاهل الربط الضروري بين التتالي الزمني ومسيرة الحضارة إذ أن مسيرة الحضارة تعني تطور الحضارة حسب نمو العقل البشري الذي امتد عبر آلاف السنين. والتطور في أي ميدان، سواء الديني أو السياسي أو العلمي، يعني تسلسل الأحداث من النقطة "أ" إلى النقطة "ب". وبما أن هذا التسلسل يعني وحدات زمنية معينة، وبما أني قد سردت تسلسل نمو العقيدة من عبادة الأسلاف إلى التعددية إلى التوحيد، فقد افترضت أني قد ربطت بينهم زمنياً، أي لم أتجاهل التتالي الزمني. ثم شرح السيد غبريال تطور المعتقد الديني عند الإنسان منذ بدء الحياة. وهذا الشرح لا يختلف كثيراً عما أوردته أنا، ولكني اختصرت في شرحي لأني سبق أن أسهبت في شرح هذا التطور في كتابي "دراسة نقدية للإسلام" الذي كان قد نُشر في موقع "كتابات" قبل حوالي عامين، وحاولت أن أتفادى التكرار، فاختصرت المقدمة لتطور المعتقد الديني. وأنا أتفق مع السيد غبريال في أن الإنسان اخترع مفهوم الدين في محاولة منه للتغلب غلى العوامل الطبيعية التي كانت تخيفه. وبالتدريج فهم الإنسان أسباب هذه الظواهر الطبيعية وتمكن من السيطرة على بعضها. والمنطق يتطلب هنا أن يقل تحمس الإنسان إلى المعتقدات الدينية الغيبية بعد أن عرف أسباب الظواهر الطبيعية، غير أن المعتقد الديني اتخذ لنفسه قوة دفع ذاتية وصار ينمو، بمساعدة الكهنوت الذين استفادوا من هذه الطقوس الدينية النامية. وقد قال السيد غبريال ما يؤكد ما ذهبت إليه حينما قال: "في البداية أخذت محاولة فهم الإنسان للكون صورة الفكر الديني، الذي حاول عن طريقه إضفاء اتساق على مظاهر الحياة، وتصور حاكم لها، يمكن اللجوء إليه لرفع ما تصوره غضبها، فكانت آلهة الهواء والبحار والخصب وما شابه، يتضرع إليها ويسترضيها، حتى ولو على حساب ما يقدم لها من ذبائح، كانت في مرحلة ما ذبائح بشرية، لكن مع تقدم خبرات الإنسان وتزايد وعيه وقدرته على التأمل، وفي نفس الوقت تعقد حياته الاجتماعية والسياسية، صاحب الفكر الديني في محاولة فهم العالم، نوعين آخرين من الفكر، هما الفكر الفلسفي والفكر السياسي". انتهى. وأوافق الكاتب في أن تعدد الآلهة فرض على الإنسان أن يقسم المسؤوليات بينها، فجعل بعضها مسؤولاً عن الخصب والآخر عن المطر، وهكذا. ومع نمو عقل الإنسان واتساع فكره وفهمه لطبيعة الأشياء، ما عاد يعتقد في كل هؤلاء الآلهة. ولكن رغم تقدم الإنسان في الفكر الفلسفي والفكر السياسي ظل الدين يسيطر على عقول البسطاء الذين لم تتطور أفكارهم الفلسفية والعلمية، وهم الغالبية حتى في عالم اليوم.
يقول السيد غبريال: " فمرحلة تعدد الآلهة كانت الشكل الديني، لفكر سياسي مرتبط بدولة المدينة، والإقطاعيات المستقلة، المتنافسة والمتعاونة في ذات الوقت، بما استدعى تعايش الآلهة أيضاً، والإبقاء على تنافسها في الحدود التي لا تعوق إمكانيات التعاون التجاري والأمني للدول المدن، أو الممالك الصغيرة المتجاورة، وارتبط هذا في الجانب الفلسفي بالنظرات الجزئية للعالم، بدءاً من ذرية ديموقريطس، صعوداً إلى تساؤلات سقراط، التي أزعجت دهاقنة القديم، إيذاناً بنهاية عصور تعدد الآلهة والدولة المدينة، لتبدأ مرحلة تكون الكيانات الإقليمية الكبيرة، كالممالك القومية. " انتهى. ولا شك أن التعددية الدينية كانت بدايتها في الدولة المدينة، كما حدث في أثينا، ولكن عندما نزحت الشعوب، كما نزح الجنس الآري من إيران إلى صقلية واليونان، حملوا معهم فكرة آلهتهم، فحمل الآريون الإله " زيوس " إلى اليونان، فكان لا بد له أن يتعايش مع آلهة الأولمب، وفعلاً تعايش معهم وتزوج منهم وصار كبير الآلهة. ولكن ليس صحيحاً القول أن تساؤلات سقراط كانت إيذاناً بنهاية عصور تعدد الآلهة والدولة المدينة لتبدأ مرحلة تكوين الممالك. فلا بد هنا من التتالي الزمني الذي ذكره الكاتب في بداية مقاله. فسقراط عاش ما بين 469-399 قبل الميلاد، بينما تكوين الممالك والإمبراطوريات سبق ذلك بمئات السنين. فمثلاً عندما اعتلى الفرعون أمنحوتب الثالث Amenhotep III ( 1402-1364ق.م) عرش مصر ، كانت المملكة المصرية تمتد من بلاد النوبة جنوباً إلى أرض كنعان وسوريا شمالاً. وعندما استولى أخناتون على الحكم ( 1372-1354 ق.م) أنهى التعددية الدينية وأقام عقيدة التوحيد باسم الإله " آتن ". ففكرة التوحيد كذلك سبقت تساؤلات سقراط بمئات السنين. ورغم كل هذا التقدم وإنشاء مملكة عظيمة، الديانة فيها توحيدية، رجع المصريون إلى التعددية بعد مون أخناتون. فتساؤلات سقراط لم تؤذن بنهاية التعددية التي كان أذن بها أخناتون قبله.
ثم ينتقل السيد غبريال إلى فكرة التوحيد فيقول: " فمثلاً ليس من الصحيح تاريخياً نسبة التوحيد الديني للعبرانيين، لأن يهوه إله العبرانيين لم يكن يدعي في البداية أنه الإله الواحد معرفاً بالألف واللام (وإن اكتسب هذه الصفة بعد ذلك تدريجياً مع بداية عصر التوحيد)، لكنه كان إلهاً خاصاً لقبيلة أو شعب محدد هو شعب إسرائيل، والوصية تقول: "أنا الرب إلهك لا يكن لك آلهة أخرى أمامي"، ولم يقل أنا الإله الواحد ولا إله غيري. " انتهى. وفي الواقع أن أول من قال بفكرة التوحيد هو أخناتون ثم موسى الذي ظهر في نفس الفترة التي أعلن فيها الفرعون أخناتون فكرة التوحيد. وهناك من يقول أن موسى ما هو إلا شخصية خيالية المعني بها هو أخناتون. ويقال أن كهنته وسكان مدينة " آخت آتن " التي أنشأها لتكون عاصمة الديانة الجديدة، هم الذين نزحوا من مصر إلى أرض كنعان بعد موته ( Secrets o the Exodus للأخوين مسعود وروجر صباح). أما الإله يهوه، والعبرانيون لا ينطقون اسمه بل يرمزون له بالاسم " أدوناي " لأن اسمه أعظم من أن ينطق به إنسان، السبب أنه قال للإسرائيليين " أنا الرب إلهك لا يكن لك آلهة أخرى أمامي " أن الإسرائيليين كانوا قد خرجوا لتوهم من مصر التي كانوا قد عاشوا فيها حوالي 400 سنة وعبدوا الآلهة المصرية المتعددة، فأراد يهوه أن يبين لهم أن تلك الأيام قد ولت، وهو الإله الوحيد في السماء، فلا يعبدوا غيره. أما قوله: " أنا إله بيت إيل" تكوين13:31 " فقد كانت جملة خاطب بها الإله النبي يعقوب الذي كان الإله يعرف في وقته ب " ال " El وكان يعقوب قد حلم في نومه أنه رأى سلماً يصعد إلى السماء حيث الإله ال. وعندما أفاق يعقوب من نومه سمى ذلك المكان بيت ال. وبالتالي قال له الإله أنا إله بيت ال. وهذا يعني أنه إله السماء، حيث رآه يعقوب عندما ارتقى السلم إلى السماء. وقول الإله ليعقوب: " ابْنَتَكَ لا تُعْطِ لاِبْنِهِ وَابْنَتَهُ لا تَأْخُذْ لاِبْنِكَ. 4 لأَنَّهُ يَرُدُّ ابْنَكَ مِنْ وَرَائِي فَيَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى" تث 1: 3-4 " يثبت ما ذهبت إليه في مقالي الأول من أن عقيدة التوحيد زرعت التفرقة بين الناس، إذ أن يهوه أو ال كان يحذر يعقوب من الاختلاط بالقبائل الكنعانية الذين كانوا يعبدون الأصنام وقتها ولم يكن لهم آلهة في السماء تشارك الإله يهوه. وهذا يعني أن يهوه كان الإله الوحيد في السماء. والدليل على ذلك نجده في سفر الملوك الثاني: " وَسَارُوا إِلَى مَدِينَةِ بَيْتِ لْبَعْلِ 26 وَأَخْرَجُوا تَمَاثِيلَ بَيْتِ لْبَعْلِ وَأَحْرَقُوهَا، 27 وَكَسَّرُوا تِمْثَالَ الْبَعْلِ وَهَدَمُوا بَيْتَ الْبَعْلِ وَجَعَلُوهُ مَزْبَلَةً إِلَى هَذَا لْيَوْمِ. 28 وَاسْتَأْصَلَ يَاهُو الْبَعْلَ مِنْ إِسْرَائِيلَ." ( الإصحاح العاشر). فكل القبائل الكنعانية كانت تعبد تماثيل الإله بعل ومع ذلك غضب يهوه وأمر بقتل من يعبدها وتدمير المعابد وتحطيم التماثيل حتى يصير يهوه الإله الوحيد المعبود في أرض كنعان. فالعبرانيون هم أول من قال بالتوحيد بعد أخناتون. وهناك من يذكر الزرادشتية ويقول إن الفرس أول من أتى بفكرة التوحيد، ولكن زرادشت ولد عام 660 قبل الميلاد، وجاء بعد ذلك بالزرادشتية، التي كانت في البداية تتكون من سبعة آلهة على رأسهم الإله " هورمز ". ثم أصبحت توحيدية بعد أن توالدت منها ديانة الإله " ميثرا " التي تشبه المسيحية. بينما موسى ظهر حوالي عام 1300 قبل الميلاد
ثم يقول السيد غبريال: " ويقول يهوه عن نفسه أنه إله غيور، والغيرة تكون من الأقران أو الأنداد ". ومن المؤكد أن الغيرة لا تنحصر في الأنداد فقط، ففي حديث معروف يقول النبي محمد بن عبد الله لأصحابه: " أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه والله أغير مني " ( الجامع لأحكام القرآن، سورة النور، الآيات 6-10). فإله الإسلام أكثر غيرة من نبيه، وبما أنه لا يوجد إله في السماء مع إله الإسلام، تصبح غيرة الله هنا من شئ آخر غير الأنداد.
ويقول السيد غبريال في ربطه بين التعددية الدينية والتقدم السياسي: " فأفق التوحيد العالمي لم تكن شمسه قد أشرقت بعد، ولم يخطر على بال حاكم أن يحكم المعمورة كلها، إذ كان أقصى الطموح في هذه المرحلة، أن يلتهم الحاكم القوي الممالك الضعيفة المجاورة، أي يستبعد ملوكها وآلهتها، ليتربع هو على نطاقه الإقليمي." انتهى. والمعمورة في تلك الأيام، أي العالم المعروف لم يكن يتعدى حوض البحر الأبيض المتوسط وجنوب آسيا وشمال أفريقيا. وقد بينا سابقاً أن الفرعون أخناتون كانت مملكته قد امتدت من بلاد النوبة إلى سوريا. والإمبراطورية الفارسية التي نشأت حوالي العام 600 قبل الميلاد، كانت قد امتدت في أيام الإمبراطور داريوس الأول من جنوب آسيا إلى اليمن والعراق ومصر وبعد ذلك ضمت أريتريا وحاصرت أثينا. والإسكندر الأكبر ( 356-323 ق.م) كان قد اكتسح معظم العالم المعروف في ذلك الوقت حتى أن القرآن سماه " ذو القرنين " الذي بلغ مشرق الشمس ثم مغربها. فنرى هنا أن التقدم الديني لم يواكب التقدم السياسي. فالتوحيد السياسي كان قد سبق التوحيد الديني في أوربا التي لم تعتنق المسيحية إلا في عام 325 ميلادية..
ويقول السيد غبريال، في غفلة عن التسلسل الزمني: " لندخل بعدها إلى العصر الإمبراطوري، الذي مهد له أفلاطون بمدينته الفاضلة، ويأتي أرسطو معلم الإسكندر المقدوني، الذي حاول توحيد البشرية تحت رايته، ليبدأ فعلاً عصر التوحيد يتحقق على الأرض على المستوى السياسي ممثلاً في الحاكم الواحد، ولم تكن مجرد مصادفة أن يذهب الإسكندر في بداية حملته الإمبراطورية، إلى واحة سيوة، ليتوجه كهنتها ابناً للإله آمون ." انتهى. فإفلاطون عاش بين 427 و 374 قبل الميلاد، وأرسطو ما بين 384 و 322 قبل الميلاد، وقد رأينا أن الإمبراطور داريوس الفارسي وقبله أبوه قد سبقا عصر إفلاطون وأرسطو بما يقرب من مائتي عام، عندما كونا الإمبراطورية الفارسية. ولم يكن التوحيد الديني قد واكب التوحيد السياسي إذ أن الإسكندر عندما دخل مصر توجوه ابناً للإله آمون، كبير الآلهة في مصر متعددة الآلهة في ذلك الوقت. فالعصر الإمبراطوري قد سبق عصر التوحيد في أوربا، وسبق إفلاطون وأرسطو.
واستمر السيد غبريال فقال عن الفلسفة: " وعلى المستوى الفلسفي كان البحث عن الحقيقة المطلقة أو النهائية، والمحاولات الفلسفية للعثور على رؤية موحدة للعالم، لتواكب على المستوى الديني الإيمان بالإله الواحد، الذي بدأ تعاظم شأنه، مع بدايات العصر الذي يلقبه المؤرخون بالعصر المحوري ( حوالي 500 قبل الميلاد) ". انتهى. وفي الحقيقة فإن الفلسفة التي بدأت في القرن السادس فبل الميلاد في أثينا، لم تكن تُعنى بالدين إطلاقاً. كانت تُعنى بالبحث عن الحكمة ولهذا فإن كلمة فلسفة بالإغريقي تعني " حب الحكمة ". والحكمة عندهم كانت البحث عن الحقيقة بمنأى عن المعتقدات الدينية ( Columbia Encyclopedia). و الفلاسفة القدماء كان أغلبهم علماء طبيعة، فقد كانوا يتعاملون في بحثهم عن الحقيقة بواسطة العلوم الطبيعية والافتراضات، أي يفترضون افتراضاً معيناً ثم يحاولون إيجاد الحقيقة التي تقودهم لذلك الافتراض. فمثلاً الفيلسوف زينو Zeno of Citium في جزيرة صقلية، قسّم الفلسفة إلى ثلاثة فروع: المنطق Logic والفيزياء Physics والأخلاقيات Ethics وقال إن المنطق والفيزياء يجب أن يكونا في خدمة الأخلاقيات. فالمعتقدات الدينية لم تكن تشغلهم، ولهذا السبب أعدموا سقراط عندما اتهموه بإهمال الدين وإفساد عقول الشباب. وتركز بحثهم عن طبيعة الحقيقة والمشاكل التي تعانيها الفضيلة في المحتوى السياسي. ولم تتعامل الفلاسفة مع أمور الدين إلا في القرون الوسطي عندما سيطرت الكنيسة على السياسة فأصبحت الفلسفة لا تنفصل عن الدين. ولكن في أيام التعددية الإلهية لم تشتغل الفلسفة بأمور الدين إطلاقاً.
ويقول السيد غبريال: " ونحن نعرف أن اعتناق الإمبراطور الروماني قسطنطين للمسيحية لم يكن بدافع من تقوى دينية، بقدر ما كان بدوافع سياسية، ليكون هو الحاكم الأوحد الذي يرفع راية الإله الأوحد، في تبادل طبيعي للمساندة، بدليل تأخيره لطقس العماد حتى اللحظات الأخيرة من حياته. " انتهى. واعتناق قسطنطين للمسيحية حدث متأخر جداً في مسيرة التوحيد التي بدأت بأخناتون وموسى حوالي عام 1300 ق.م ثم جاءت المسيحية التي اعتنقها قسطنطين عام 325 ميلادية، أي بعد أكثر من ألف وستمائة عام من بداية التوحيد. ويستمر السيد غبريال: " وكان الاعتقاد في التوصل إلى الحق أو الحقيقة المطلقة على جميع المستويات، السياسية والعلمية والدينية، هو دعامة الحروب والصراعات بين الشعوب ." انتهى. وأرجو أن يسمح لي السيد غبريال هنا لاختلف معه ففي اعتقادي أن دعامة الحروب كانت السياسة وليس البحث عن الحقيقة المطلقة التي كان الفلاسفة يبحثون عنها عن طريق العلم عندما حاولوا أيجاد العنصر الوحيد المشترك بين الطبيعة والمخلوقات، وعن طريق الافتراضات الفلسفية. أما الدين في تلك الفترة في اليونان وروما فكان لا يزال ديناً تعددياً يتسع لكل أنواع الآلهة الذين لم يطلبوا من عبادهم غزو أي مدينة أخرى باسمهم. فالسياسة وليس الآلهة كانت القوة الدافعة وراء الحروب
وقد أصاب السيد غبريال كبد الحقيقة عندما قال: " لكن بالطبع ما نسميه أحياناً بالتعصب أو الانغلاق الفكري، يرجع أساساً إلى طبيعة الإيمان اليقيني بامتلاك الحقيقة المطلقة، أو الحق الصراح، الذي لا يأتيه الباطل، فالإنسان المتعصب يرى نفسه وكأنه هو الإله الواحد، والحاكم الأوحد، وحامل أختام الحقيقة الأبدية كلية الصحة." انتهى. ولكن لا اعتقد أنه توفق في تعليل زمن وأسباب حدوث هذا التعصب، فهو يقول: " لكن حدث بعد ذلك أن دخلت البشرية مرحلة تفكك أو انهيار الإمبراطوريات الكبيرة، وانتفت معها الحاجة إلى الحاكم الفرد القوي، الممثل للإله الواحد على الأرض، فكان انتشار فلسفة الأنوار، وسقوط نظرية الحق الإلهي في الحكم، وانتشار مبادئ الحرية والمساواة والديموقراطية، وصار مصدر السلطات يأتي من أسفل، أي من القاعدة الشعبية التي آمن الفرد فيها بأنه سيد مصيره، وتمزق عن العلم قناع اليقين مع تقدم العلم ذاته، واتضحت نسبيته وقابليته للضحض ." انتهى. وحقيقة الأمر أن التعصب وامتلاك الحقيقة المطلقة لم يظهر إلا مع ظهور عقيدة التوحيد التي جعلت إله السماء واحداً متسلطاً لا يقبل الرأي الآخر، وجعلت من يمثله على الأرض، سواء أكان ملكاً أو رجل دين، هو الذي يملك مفاتيح خزانة الحقيقة المطلقة ويجب طاعته والسير في جيوشه لهزيمة الآخر المختلف الذي لا يملك من الحقيقة شيئاً. فالإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية ( الرومانية ) لم تنهارا إلا بالغزو الإسلامي. وانتشار مبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية لم يتحقق إلا حديثاً مع الثورة الفرنسية عام 1789م. أما صدور السلطات من الأسفل، أي من الشعب، فهذا لم يحدث حتى الآن إلا في بعض المجتمعات الغربية المعدودة، وما زالت غالبية سكان العالم في الصين، وآسيا وأفريقيا والعالم الإسلامي وأمريكا الجنوبية، تخضع لسلطة الحاكم بأمر الله.
ثم يقول: " حتى الحقيقة الأخلاقية، التي حاول الفلاسفة إلباسها ثوب الخلود والإطلاق، أتى الفلاسفة الوجوديون لينتزعونها من ثوب الوحدانية، ليجعلونها حقيقة نسبية داخل الإنسان الفرد، تتعدد بتعدد البشر، وتعدد حالاتهم الوجودية، ربما من لحظة لأخرى، وربما يصح اعتبار نظرية كارل ماركس في التفسير المادي للتاريخ، هي آخر محاولات الفكر التوحيدي العلمية، بمعنى محاولة رؤية العالم من خلال خط واحد وآلية واحدة تحكم كل مجالات الحياة، وهي آخر ما سقط حتى الآن من قلاع التوحيد السياسي والاقتصادي. " انتهى. وهذا هو عين ما قلته أنا في مقالي الأول من أن التوحيد في كل شئ، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو المعتقد الديني، لا يقود إلا إلى التعصب ونبذ الآخر وأفكاره. وعليه فإن ظهور فكرة التوحيد لم تكن خطوة إلى الأمام في نمو الإنسان المعرفي وإنما خطوة إلى الوراء، وسوف تنهار كما انهارت التوحيدية الاقتصادية الماركسية.
وأخيراً يقول السيد غبريال: " وهنا يكون مأزق الفكر الإنساني، حين يأخذ في تجليه السياسي والعلمي شكل التجزئة والتغير واللايقين، في حين يكون وجهه الديني توحيدي شمولي وثابت ويقيني، وما يعطي الإشكالية بعداً خطيراً، هو أن أوجه الفكر الثلاثة، الديني والعلمي والسياسي، لا انفصال بينها في الحقيقة. " انتهى. والحل الذي يقترحه السيد غبريال هو: " ربما يبدو للبعض أن أسهل الحلول لهذه الإشكالية هو استبعاد الرؤية المخالفة، والاكتفاء بالأخريين، وقد يقترح آخرون تعديل الرؤية الدينية، أو التقهقر بها إلى التعددية، كما قد يفهم البعض مقال د. كامل النجار، لكن إذا كان أي من هذين الاقتراحين غير متاح لأسباب لسنا بصدد استعراضها، يتبقى أمام مسيرة الإنسانية تحدي العثور على حل خلاق لتلك الإشكالية، حل يتم استنباطه بالتفاعل الإيجابي مع الواقع، وليس فرضه من برج عاجي، حتى وإن ارتدى مسوح العلم. " انتهى.
وأرجو ألا يكون القارئ قد فهم من مقالي أني أحبذ الرجوع إلى تعدد الآلهة، فأنا لم أقصد شيئاً من ذلك البتة، إنما كان قصدي أن أقول إن تعددية الآلهة كانت أفضل من التوحيد، والتخلص من الدين هو الحل الأمثل، لأن الدين يُلغي العقل ويغلفه بالخرافة.