[SIZE=5]الحلقة الثامنة، وهي في تدوين السنة وحفظها عصر العباسيين..

(المطلب الثالث: في تبلور علم الجرح والتعديل وبروز رجاله)

في ما مضى من الحلقات من هذا العصر تكلمنا عن الوضع والكذب وأسباب ظهوره وانتشاره، وفي هذه الحلقة نتكلم بإذن الله تعالى عن محاربة العلماء لهذا المرض الخطير الذي استفحل وانتشر حتى صار يُخشى على حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أن علماء الحديث رحمهم الله تعالى ورضي عنهم سلكوا في ضبط السنة طرقا عديدة ومتنوعة للحفاظ عليها من أيدي العابثين، فإلى تلك الجهود التي بُذلت، وإلى تلك الخيرات التي حُفظت بها سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم..

وأول هذه الجهود كلها كان توسع العلماء في الجرح والتعديل ونقد الرجال، وقد كان قبل هذا لا يُعرف إلا قليلا، وذلك أن الضعف كان قد شاع في هذا العصر من جهة ضعف الضبط والحفظ، ومن جهة انتشار الأهواء والبدع، فبرز جماعة من العلماء عُرفوا بنقد الرجال واشتهروا به كشعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160للهجرة، ولعله أول من تكلم في الرجال وقد كان شديدا في الحق يصدح به ولا يبالي ولو على أقرب الناس إليه، ولا يسكت حتى عمن تاب إذا ظهر للناس حديثه خشية قبول حديثه من الناس مع ما فيه من فساد وضعف، فقد روى الخطيب في الكفاية عن حماد بن زيد أنه قال: "كلْمنا شعبة بن الحجاج أنا وعباد بن عباد وجرير بن حازم في رجل قلنا لو كففت عن ذكره فكأنه لان وأجابنا ثم مضيت يوما أريد الجمعة فإذا شعبة ينادي من خلفي فقال ذاك الذي قلت لكم فيه لا أراه يسعني" فكان شعبة لا يلين في أمر من كان يخطئ في الحديث، بل كان يعقد مجالس خاصة لفضح هؤلاء وبيان أمرهم حتى لا يُجيز أحد لنفسه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون ضابطا للحديث حق الضبط، ومن ذلك ما روى الخطيب في الكفاية أيضا عن سفيان بن عيينة أنه قال: "كان شعبة يقول: تعالوا حتى نغتاب في الله عز وجل" وعن أبي زيد الأنصاري النحوي أنه قال: "أتينا شعبة يوم مطر فقال: ليس هذا يوم حديث، اليوم يوم غيبة، تعالوا حتى نغتاب الكذابين" وعن مكي بن إبراهيم أنه قال: "كان شعبة يأتي عمران بن حدير فيقول: يا عمران تعال حتى نغتاب ساعة في الله عز وجل -يذكرون مساوئ أصحاب الحديث-" وانتقد أحد الزهاد من الصوفية ابن المبارك حيث عاب حديث بعض الصالحين، فقال: "اسكت إذا لم نبين كيف يعرف الحق من الباطل".

مسألة فرعية مهمة:
سُئل العلماء عن هذه الغيبة أتجوز أم تدخل في ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو أنه قال: "سمعت أبا مسهر يسأل عن الرجل يغلط ويهم ويصحف فقال بين أمره فقلت لأبى مسهر أترى ذلك من الغيبة قال: لا" وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: "جاء أبو تراب النخشبي إلى أبي فجعل أبي يقول فلان ضعيف فلان ثقة فقال أبو تراب يا شيخ لا تغتاب العلماء فالتفت أبى إليه فقال له ويحك هذا نصيحة ليس هذا غيبة".

وبرز في هذا العلم من بعد شعبة يحيى بن سعيد القطان المتوفى سنة 198للهجرة، قال علي بن المديني: "ما رأيت أحدا أعلم بالرجال من يحيى بن سعيد" وعُرف بهذا العلم جماعة منهم سفيان الثوري المتوفى سنة 161للهجرة، وعبد الرحمن بن مهدي المتوفى سنة 198للهجرة، وأحمد بن حنبل المتوفى سنة 230 للهجرة وصاحبه إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين المتوفى سنة 233للهجرة، وسنأتي على جهوده في اختبار الأئمة والعلماء في النقطة التالية إن شاء الله تعالى، وبرز في هذا العلم كذلك الإمام الكبير محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح المتوفى سنة 256 للهجرة، وأبو حاتم الرازي وغيرهم..

وكان من جهود العلماء في هذا العصر في حفظ الحديث الاختبار لأهله ومراجعة ضبطهم وحفظهم، وذلك أن يعمد أحد الجبال الشم إلى أحاديث شيوخه التي رويت عنهم ويُدخل فيها غير حديثهم ويقرأها بعد ذلك عليهم على أنه يريد الإجازة في حديثهم من دون إشارة إلى اختبار ونحوه، فإن ميزوا حديثهم عن حديث سواهم فهم الضابطون الأثبات وإلا فهو الضعف فيهم أو بداية الاختلاط، ويروي في ذلك الخطيب البغدادي في كتابه الرحلة في طلب الحديث عن أحمد بن منصور الرمادي أنه قال: "خرجت مع أحمد ويحيى إلى عبد الرزاق أخدمهما فلما عدنا إلى الكوفة قال يحيى لأحمد أريد أختبر أبا نعيم فقال له أحمد لا تزيد الرجل إلا ثقة، فقال يحيى لابد لي فأخذ ورقة وكتب فيها ثلاثين حديثا من حديث أبي نعيم وجعل على رأس كل عشرة منها حديثا ليس من حديثه ثم جاءوا إلى أبي نعيم فخرج فجلس على دكان فأخرج يحيى الطبق فقرأ عليه عشرة ثم قرأ الحادي عشر فقال أبو نعيم ليس من حديثي اضرب عليه ثم قرأ العشر الثاني وأبو نعيم ساكت فقرأ الحديث الثاني فقال ليس من حديثي اضرب عليه ثم قرأ العشر الثالث وقرأ الحديث الثالث فانقلبت عيناه وأقبل على يحيى فقال أما هذا وذراع أحمد في يده فأورع من أن يعمل هذا وأما هذا يريدني فأقل من أن يعمل هذا ولكن هذا من فعلك يا فاعل ثم أخرج رجله فرفسه فرمى به وقام فدخل داره، فقال أحمد ليحيى: ألم أقل لك أنه ثبت. قال: والله لرفسته أحب إلي من سفرتي"

ومن أشهر الروايات في هذا الشأن حادثة اختبار الإمام البخاري رحمه الله ورضي عنه، يقول أبو أحمد بن عدي الجرجاني في كتابه من روى عنهم البخاري في الصحيح: "سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وعمدوا إلى مئة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها ودخلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوها إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري وأخذوا الموعد للمجلس فحضر المجلس جماعة من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها ومن البغداديين فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة فقال البخاري لا أعرفه فسأله عن آخر فقال لا أعرفه ثم سأله عن آخر فقال لا أعرفه فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول لا أعرفه فكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقول الرجل فهم ومن كان من غيرهم يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم ثم انتدب رجل آخر من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة فقال البخاري لا أعرفه وسأله عن آخر فقال لا أعرفه وسأله عن آخر فقال لا أعرفه فلم يزل يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول لا أعرف ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة والبخاري لا يزيدهم على لا أعرفه فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال أما حديثك الأول فهو كذا وحديثك الثاني فهو كذا والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه وفعل بالآخرين مثل ذلك ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها فأقر له الناس بالحفظ والعلم وأذعنوا له بالفضل".

ومن جهود العلماء في هذا العصر كذلك كان انتشار الرحلة في طلب الحديث للوصول فيه إلى أعلى الأسانيد، فكانوا يرحلون إلى منبع الأحاديث في عصرهم، فيستغنون عن الفروع بالأصول زيادة في التثبت والصحة، وزيادة في الاطلاع على مواطن الضعف والعلة، فقد روي عن مكحول الشامي أنه قال: "طفت الأرض في طلب العلم"..

وكان من هذه الرحلات ما كان من أجل التثبت في الحديث، ومن ذلك ما روي عن المؤمل بن إسماعيل أنه ذُكر عنده الحديث الذي يروى عن أُبي عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل القرآن

فقال: "لقد حدثني رجل ثقة قال: أتيت المدائن فلقيت الرجل الذي يروي هذا الحديث فقلت له: حدثني فإني أريد أن آتي البصرة فقال هذا الرجل: الذي سمعنا منه هو بواسط في أصحاب القصب

قال: فأتيت واسطا فلقيت الشيخ فقلت: إني كنت بالمدائن فدلني عليك الشيخ وإني أريد أن آتى البصرة قال: إن هذا الذي سمعت منه هو بالكلاء

فأتيت البصرة فلقيت الشيخ بالكلاء فقلت له حدثني فإني أريد أن آتي عبادان فقال: إن الشيخ الذي سمعناه منه هو بعبادان

فأتيت عبادان فلقيت الشيخ فقلت له اتق الله ما حال هذا الحديث؟

أتيت المدائن -فقصصت عليه- ثم واسطا ثم البصرة فدللت عليك وما ظننت إلا أن هؤلاء كلهم قد ماتوا فأخبرني بقصة هذا الحديث

فقال: إنا اجتمعنا هنا فرأينا الناس قد رغبوا عن القرآن وزهدوا فيه وأخذوا في هذه الأحاديث فقعدنا فوضعنا لهم هذه الفضائل حتى يرغبوا فيه"

ويظهر هنا حكمة هذه الرحلة البالغة حيث وصل الرجل إلى واضع الأحاديث تلك في فضائل قراءة سور من القرآن..

وقد كانت الرحلة قبل ذلك، ولكنها زادت وانتشرت لما انتشر الوضع في الحديث والكذب..

فهذه الأمور الثلاثة التوسع في نقد الرجال وبيان حالهم على الملأ، واختبار الأئمة منهم ومراجعة ضبطهم وحفظهم، والرحلة في طلب الحديث طلبا للعلو وسلامة الحديث، هذه الثلاثة كانت الرأس في علوم الحديث وحفظه، وهذه كانت نقطة التحول في هذا العلم إلى التآليف الجامعة فيه، والتي سنتكلم عنها في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى...

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	ما معنى هذا الحديث إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم .	coptic eagle	3	2,524	10-24-2012, 08:59 AM آخر رد: الصفي
	ما تفسيركم لهذا الحديث	fares	25	4,854	06-16-2012, 04:36 AM آخر رد: الفكر الحر
	هل شرب الرسول النبيذ؟؟ يرجى شرح الحديث	الحوت الأبيض	32	7,942	11-01-2011, 05:05 AM آخر رد: TERMINATOR3
	مقدمة في علوم الحديث	fancyhoney	4	2,366	07-11-2011, 10:09 PM آخر رد: fancyhoney
	اسحق هو الذبيح حسب هذا الحديث	محترف	35	7,579	02-18-2011, 07:19 PM آخر رد: yasser_x