[SIZE=5]الحلقة التاسعة، وهي في تدوين السنة وحفظها عصر العباسيين..

(المطلب الرابع: في ظهور المصنفات الخاصة بمصطلح الحديث)

كنا تكلمنا في الحلقة السابقة عن جهود العلماء في حفظ الحديث والأثر، وأتينا على الوسائل التي لزمها أهل الحديث والفكر، في معرفة حال الرواة في الحفظ والضبط للخبر، حيث الاختبار والنقد والرحل، وكل تلك وسائل كانت للوصول إلى خبر صحيح معتبر..

وكان لا محالة للعلم والعلماء أن يتوسعوا في هذا العلم علم الرجال، لما بعدت الشقة وطال السند بناقلي الحديث والأثر، فظهرت علوم التحمل والأداء وصيغه، ودار العلماء أهل الحديث في الوسائل أيها أقوى وأثبت في نقل الحديث والخبر، السماع من الشيخ أم القراءة عليه؟ وهل يصح نقل الخبر عن كتاب شيخ من غير قراءة أو سماع للأثر؟ ونحو ذلك من الأمور التي سنأتي عليها بالتفصيل إن شاء الله تعالى في باب التحمل والأداء..

وكانت هذه العلوم ينقلها العلماء ويتناقلونها من جيل إلى جيل، من غير ما كتابة أو تدوين، وظلت على هذا الحال من غير ما مصدر مكتوب يعين، إلا أجزاء يسيرة منها كتبت في مصادر الفقه والأصول، ككتاب الرسالة والأم للشافعي رحمه الله تعالى ورضي عنه، واستمر الأمر على حاله حتى كان القرن الرابع الهجري، عصر نضوج التآليف في تلك العلوم، وكان الاستقلال في كل فن عن سائر الفنون، وكان ظهور الكتاب الأول في هذا العلم الكبير على يد القاضي الإمام صاحب النفع الجزيل أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرَّامَهُرْمُزي المتوفى سنة 360 للهجرة الشريفة، ولكنه لم يستوعب أبحاث المصطلح كلها، قال الدكتور الطحان حفظه الله تعالى: "وهذا شأن من يفتتح التصنيف في أي فن أو علم غالبا"( ).

ثم جاء الحاكم النيسابوري أبو عبد الله محمد بن عبد الله المتوفى سنة 405 للهجرة، بكتابه معرفة علوم الحديث، وهذا لم يرتبه صاحبه الترتيب الفني المناسب ولم يهذب الأبحاث كما نص على ذلك الدكتور محمود الطحان في كتابه تيسير مصطلح الحديث.

ثم جاء أبو نُعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني المتوفى سنة 430هـ، بكتابه المستخرج على معرفة علوم الحديث، استدرك فيه على الحاكم ما فاته في كتابه معرفة علوم الحديث، لكنه ترك أشياء يمكن للمتعقب أن يستدركها، وهذا الكلام في هذا الكتاب استقاه الدكتور الطحان من الكتب المتأخرة، وإلا فإن الكتاب لم يطبع حتى الآن، ويرجح الدكتور الطحان أنه مفقود.

ثم جاء الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المتوفى سنة 463 للهجرة، بكتابه الكفاية في علم الرواية، قال الطحان: "وهو كتاب مليء بتحرير مسائل هذا العلم، وبيان قواعد الرواية، ويُعد من أجل مصادر هذا العلم"، وأتبعه بكتاب آخر لا يقل مكانة عن سابقه، سماه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وهو كتاب يبحث في آداب الرواية، وكيفية السماع من الشيخ، كيف يجلس وكيف ينصت ويسمع، وما إلى ذلك من آداب وأخلاق..

وجاء من بعد ذلك القاضي عياض بن موسى اليَحْصُبي الأندلسي المغربي المتوفى سنة 544 للهجرة، بكتابه الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، وهو كتاب اقتصر فيه مؤلفه على طرق التحمل والأداء الثمانية: السماع والقراءة والإجازة والمناولة والمكاتبة والوصية والإعلام والوجادة.

وظهر كتاب بعد هذا لأبي حفص عمر بن عبد المجيد المَيانَجِي المتوفى سنة 580هـ، سماه: ما لا يسع المحدث جهله، قال الطحان في أحد دروسه: "وفيه أربع عشرة تعريفا وكلها غير معتمدة" وقال أيضا: "عنوانه كبير لكن فائدته قليلة جدا".

ثم خُتم هذا العصر بكتاب عظيم حافل لا يستغني عنه طالب علم في هذا الفن، وهو كتاب: علوم الحديث، المشهور بمقدمة ابن الصلاح، لصاحبه الإمام الكبير أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشَهْرَزُوْري المتوفى سنة 643 للهجرة المباركة، وهو من أجود كتب المصطلح، جمع فيه مؤلفه ما تفرق في كتب الخطيب ومن تقدمه، وخرج بخمس وستين نوعا من أنواع علم الحديث، فكان كتابا حافلا بالمهمات والفوائد، لكنه لم يرتبه على الوضع المناسب، وذلك أنه كان يمليه على طلابه إملاء، يُعد لكل درس من كل يوم من غير ما سابق تأليف حتى اكتمل عقد كتابه، قال الطحان في أحد دروسه: "ولما أراد أن يرتبه ابن الصلاح الترتيب المناسب خشي من تغير قلوب تلاميذه" وذلك أنهم نقلوه عنه بترتيب معين وبطريقة معينة نقلوها بعد ذلك لطلابهم فإن وقع تغيير في كتاب شيخهم كان اختلاف في نسخهم عن نسخته وبالتالي وقوع شك من السامعين في نسخهم، وقد تعقب ثلاثة من الأئمة كتابه هذا الحافظ العراقي في التقييد والإيضاح، وابن حجر في النكت على ابن الصلاح، والزركشي في كتاب سماه النكت كذلك..

وفي آخر كلمة عن هذا العصر أقول: إن هذا العصر هو بلا خلاف العصر الذهبي لعلم الجرح والتعديل وحفظ الحديث، وهو العصر الذي برزت فيه بغداد عاصمة للعلم والثقافة الإسلامية بلا منازع، وبرز أهلها في الحديث كذلك بلا مجاور، وظل الحال على ما كان حتى وقعت المصيبة وحلت الكارثة وكانت الطامة بسقوط بغداد وضياع الخلافة الإسلامية العباسية، وكان الضياع لكثير من علوم الأمة وعلمائها على يد المغول الظالمين المعتدين، الذين سفكوا الدماء واستحلوا الحُرمات، وضيعوا العلم والعلماء، فوقع الجمود في هذا العلم، بل وزاد إذ انشغل العلماء بالحرب لرد الظالم المعتدي عن البحث والتمحيص في هذا العلم النقي..

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	ما معنى هذا الحديث إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم .	coptic eagle	3	2,524	10-24-2012, 08:59 AM آخر رد: الصفي
	ما تفسيركم لهذا الحديث	fares	25	4,854	06-16-2012, 04:36 AM آخر رد: الفكر الحر
	هل شرب الرسول النبيذ؟؟ يرجى شرح الحديث	الحوت الأبيض	32	7,942	11-01-2011, 05:05 AM آخر رد: TERMINATOR3
	مقدمة في علوم الحديث	fancyhoney	4	2,366	07-11-2011, 10:09 PM آخر رد: fancyhoney
	اسحق هو الذبيح حسب هذا الحديث	محترف	35	7,579	02-18-2011, 07:19 PM آخر رد: yasser_x