ويقصد بالإلغاء ـ كما أوضحناه ـ انتهاء آثار القرار القانونية بالنسبة للمستقبل فقط..
وهذا الإلغاء يمكن أن يكون كلياً أي يشمل القرار بكل محتوياته ، ويمكن ان يكون جزئياً وذلك بإلغاء بعض آثار القرار مع الإبقاء على البعض الآخر منتجاً لآثاره القانونية..
وسأوضح في هذا المبحث أسباب إلغاء القرار الإداري ، ومدى سلطة الإدارة في إلغائه..
أولاًَ: أسباب إلغاء القرار الإداري:
للإدارة سلطة إلغاء القرار الإداري في حالات معينة ، ولكن هذه السلطة ليست مطلقة تلغي ما تشاء وفي أي وقت تريد..
وبادئ ذي بدء فإن هذه النقطة لا تثور ـ غالبا ـ بالنسبة للقرارات التنظيمية التي تتضمن قواعد عامة مجردة ، ولا يتعلق بها حقوق مكتسبة للأفراد ، ويمكن أن يرد عليها تعديل في أي وقت وفقاً لمقتضيات سير المرفق العام بصفة منتظمة ودائمة..
أما عن ضرورة وجود سبب للإلغاء فيثار بالنسبة للقرارات الإدارية الفردية ، ففي مثل هذه القرارات يجب أن تستند الإدارة في إلغائها إلى سبب ، والأسباب قد تكمن في:
1ـ تغير التشريع الذي صدر القرار في ظله ، (وكان لهذا التشريع أثر رجعي) :
من المعروف قانوناً أن القرار الإداري يخضع للتشريع المطبق وقت صدوره ، ولا يؤثر في القرار الإداري الصادر في ظل نظام قانوني معين صدور قانون جديد..
ويظهر ذلك بوضوح بالنسبة للموظف العام الذي استقر الفقه والقضاء أنه (في مركز تنظيمي لائحي)..
ولتوضيح هذه النقطة نعطي مثالاً: إذا عين الموظف العام أو رقي في ظل نظام قانوني معين فلا يضار بوضع نظام قانوني جديد ، إلا إذا تضمن هذا القانون الجديد أثراً رجعياً . كما لو كان القانون السابق يجعل اختيار أعضاء النيابة العامة من قبل وزير العدل ، ثم صدر قانون جديد يجعل الاختيار من قبل المجلس الأعلى للقضاء ، (وينص على تطبيقه على جميع الحالات بأثر رجعي) ، فهنا يلغى قرار كل أعضاء النيابة المعينين من قبل وزير العدل تطبيقاً للقانون ، ويتم إعادة تعيينهم بناء على قرار من المجلس الأعلى للقضاء..
2ـ موافقة صاحب الشأن:
ولا يكون هذا السبب إلا نادراً ، وخارج الوظيفة العامة ، لأن قبول الموظف على ان يعامل بالخلاف للقانون باطل ولا يعتد به ، ولا يؤثر على حقه بالمطالبة بتصحيح وضعه طبقاً للقانون ، وذلك تأسيساً على العلاقة التنظيمية التي تربط الموظف بالإدارة..
3ـ إلغاء القرار لدواعي المصلحة العامة:
يجوز للإدارة أن تلغي القرار الإداري لدواعي المصلحة العامة ، ودواعي المصلحة العامة متعددة ، أهمها ، المحافظة على النظام العام بإحدى مدلولاته الثلاثة: (الأمن العام ـ الصحة العامة ـ السكينة العامة) أو ما يستجد من اعتبارات مختلفة..
ولهذا يجب دائماً حين إلغاء قرار إداري لدواعي المصلحة العامة أن يكون السبب واضحاً..
ثانياً: مدى سلطة الإدارة في إلغاء القرار الإداري:
لمعرفة مدى سلطة الإدارة في إلغاء القرار الإداري يجب التفرقة بين القرار التنظيمي وبين القرار الفردي..
ففي القرار التنظيمي ، يحق للإدارة تعديله أو إلغاؤه في أي وقت وفقاً لمقتضيات الصالح العام (كما أوضحنا سابقاً)..
أما بالنسبة للقرار الفردي ، فهذا القرار وكقاعدة عامة (لا يجوز المساس به طالما كان سليماً وترتب عليه اكساب الشخص حقاً شخصياً أو مركزاً خاصاً)..
وعلى ذلك ، إذا كان القرار غير سليم كأن كان به أحد العيوب ، فللإدارة الحق في إلغائه (خلال ستين يوماً) ، وبالمثل إذا كان القرار لم يولد حقاً كالقرارات الولائية أو الوقتية التي تعطي الفرد مجرد رخصة أو تساهل من جانب جهة الإدارة أو كأن تسمح الإدارة لبعض المتاجر أو المحلات في مناسبات معينة بوضع الكراسي أو البضائع على الرصيف فالإدارة تملك في أي وقت إلغاء هذه القرارات..
ومن أمثلة ذلك أيضاً قرارات ندب الموظفين التي يجوز إلغاؤها في أي وقت لأن الندب تكليف مؤقت للموظف للقيام بأعباء وظيفة معينة..
وإذا كان القرار الفردي السليم الذي ولد حقاً أو أكسب الشخص مركزاً خاصاً لا يجوز المساس به ، فإن هذا الأمر ليس مؤبداً ، بل يمكن للإدارة المساس بالقرار عن طريق (القرار المضاد)..
والقرار المضاد: هو نوع من القرارات الإدارية يصدر من جانب الإدارة بما لها من سلطة ملزمة بمقتضى القوانين واللوائح ليحل محل قرار سابق منهياً بذلك القرار الأول . ويراعى فيه الأشكال والإجراءات التي ينص عليها القانون ويظل القرار المضاد منفصلاً ومتميزاً عن القرار الأول..
وبذلك يعد القرار المضاد أحد الوسائل التي يمكن جهة الإدارة لإنهاء قرار سليم صادر منها ، ويجب مراعاة أن سلطة الإدارة في إصدار القرار المضاد (سلطة مقيدة وليست تقديرية) . فليس من حقها في أي وقت تشاء أن تصدر القرار المضاد لتنهي به آثار القرار السليم والذي غالباً ما يكون قد (تحصن) وإلا عد ذلك اعتداء صارخ على فكرة تحصين القرار الإداري بمضي المدة (ستون يوماً) . كما يعد اعتداء صارخاً على فكرة عدم المساس بالقرار الذي صدر سليماً..
ومن أوضح الأمثلة على القرار المضاد إذا صدر قرار بتعيين أحد الأفراد في وظيفة عامة ، فلا يجوز للإدارة أن تمسه إذا صدر سليماً بكل أركانه ، فلا يتأثر وضع الموظف بعد تعيينه بتغيير بعض الشروط اللازمة للتعيين في الوظيفة..
فهنا تستطيع الإدارة إصدار قرار يسمى بالقرار المضاد لإنهاء الخدمة ، أي أننا أصبحنا أمام قرارين:
ـ قرار (أصل) بالتعيين سليم من الناحية القانونية..
ـ قرار مضاد بإنهاء الخدمة سيتم أيضاً من الناحية القانونية..
أو
ـ قرار (أصل) يمنح ترخيص لأحد الأشخاص بمزاولة مهنة معينة..
ـ قرار مضاد بعدم تجديد الترخيص أو إنهاء القرار الأول..
ويجب عدم الخلط بين القرار المضاد وقرار سحب القرار الإداري لأن القرار المضاد ينهي لآثار قرار سليم ، بينما السحب فلا يرد إلا على القرارات غير السليمة..
كما ان القرار المضاد يقتصر أثره على المستقبل فقط..
ويترك جميع الآثار التي تركها القرار الأول دون مساس ، أما قرار السحب ـ كما سنرى ـ ينهي كل آثار القرار المسحوب من تاريخ صدوره بحيث يعتبر القرار كأن لم يكن..[/COLOR]
فالقرار المضاد هو المخرج الذي تمارس السلطة العامة من خلاله إنهاء تصرفها السليم الذي أنشأ حقوقاً للآخرين ، فإذا كان القرار الإداري قد تم تشبيهه بالكائن الحي ، يولد ويعيش ثم يغادر هذه الحياة ، فإن اللحظات الهامة في كل مرحلة من مراحل الحياة يجب تأريخها حتى يمكن التعامل معها..
فقرار تعيين أحد الموظفين لا يمكن أن يتأثر البتة نتيجة لتغير الشروط القانونية اللازمة فيمن عين في الوظيفة حتى لو فقد الموظف بعد تعيينه بعض شروط الصلاحية المتطلبة لشغلها ، وإذا ما رأت السلطة الإدارية إنهاء تعيين هذا الموظف ، فلن تلجأ إلى وسيلة الرجوع في قرار التعيين ، بل تصدر قرار مضاد (كالعزل ، أو الإحالة على التقاعد) وذلك في الحالات وطبقاً للشروط المنصوص عليها في القانون..