[SIZE=4]الحلقة الأولى ..
الصراع بين العقل .. وبين الميتافيزيقا .. !!

مرحباً ختيار ..
قرأت رأيك حول الإله الغائب منذ فترة طويلة .. عن طريق الصدفة أثناء تصفّحي لصفحات المنتدى .. ثم قرأت لك بعض المداخلات حول الإله الغائب في أثناء لقاء الأعضاء معك .. هنا ..
حقيقة .. أعجبتني الفكرة حينها .. باعتبارها فكرة ميتافيزيقيّة لطيفة .. ربّما تشكّل مستقبلاً بديلاً مناسباً لمن لا يستطيع الحياة دون الميتافيزيقا .. وشكّلت بالنسبة لي .. قفزة على التسلسل العلمي الذي ربّما "ولسود الحظ" لن يقدّم لنا حلولاً لتساؤلاتنا أثناء حياتنا على الأرض .. فلما لا نتّخذ هذه الفكرة كسند داعم لنا في انتقاد اللاهوت الديني .. خصوصاً وأنّها تضعنا بموضع "قوّة" أثناء النقاش مع أي ملحد .. (فهي تقدّم بدائل تقذفها بوجه المؤمن) ..!!
أي أنّها كانت بالنسبة لي .. بديل "تكتيكي" .. أكثر منه ذاتي .. يقنعني ..
لكنني لاحظت في الفترة الأخيرة .. أنّ إيمانك بهذه الفكرة يزداد تدريجياً .. بل صرت تجهد في كلّ موضوع في التفريق بين "اللاديني" .. وبين "الملحد" .. وتهمس كلّما "طق الكوس بالجرّة" .. يا قوم لست منكم .. !!

لذا أحببت أن أقدّم إعتراضاتي على فكرتك هذه .. علّني إعيدك لصراط الإلحاد المستقيم .. وإلى طريق العقل والمنطق ..

بنظرة سريعة لتاريخ المادّة على الأرض .. سنلاحظ أنّ "العقل" لم ينشأ مع المادّة .. بل إنّه تطوّر طارئ للمادة حدث عن طريق المصادفة البحته .. كما هي مصادفة "نشأة المادّة الحيّة" ..
رزق الإنسان القديم بهذا العقل .. وراح يبرع في إستخدامه شيئاً فشيئاً .. فطوّر مدركاته وأفكاره .. ومنطقه .. وحياته بشكلها العام .. وساعده ذلك في تشذيب غرائزه وعواطفه ..
يختلف الفلاسفة في وصف ماهيّة العقل .. لكنّهم في النهاية .. وما يهمّني .. لا يتّفقون على كونه الركيزة الأساسيّة للحياة (كما يدّعي العلم) .. فبعدما جاء "لوك" ليعتبر "المادّة" هي مطلق الحياة .. جاء "بركلي" ليعتبر المطلق لا يكمن إلا بالعقل .. ورأى أنّ المادّة عبارة عن إدراكات حسيّة خاضعه للعقل .. لكن "هيوم" سرعان ما أسقط هذه النظريّة أرضاً .. وأثبت أن العقل أيضاً (كما المادّة).. ليس سوى مدرك حسّي داخلي .. وأوقع العالم بأسره في مأزق فلسفي كبير .. بل إنّه هدم الدين والعلم .. وكلّ شيء بنظريّته هذه .. لن أشرح كثيراً هنا .. لأنّي أظنّك مطّلعاً على عصر التنوير ربّما أكثر منّي ..
أخيراً .. جاء "كانت" في محاولة جاهدة منه في إنقاذ "العقل" .. ومن خلاله أراد إنقاذ "العلم باعتبار ناتج عقلي خالص" و"الدين الذي فقد كل مبررات وجوده" .. "كانت" استطاع أن يعيد للعقل بعضاً من أهميّته .. حين أثبت دور العقل "التصنيفي" .. وفي تشكيل الإدراك العقلي (هذا يختلف عن الإدراك الحسّي) .. فهو ليس مجرّد محطّة إستقبال للأحاسيس .. واعترف "كانت" أنّ "المكان .. الزمان .. السببيّة" ليسوا سوى وسيلة إدراكيّة للعقل .. إذ أن العقل لا يستطيع إدراك المحسوسات دون أن يضيف لها خاصيّات الزمان والمكان .. والسببيّة ..
إعتراف "كانت" بذلك .. يعني بأنّ العقل لا يستطيع تخيّل قوّة صانعة للكون بلا مسبب (أي لا تخضع للسببيّة المنطقيّة).. أي أنّ وجود قوّة "خالقة" .. هو شيء منافي للمنطق العقلي بأي شكل من الأشكال .. كما أنّ العقل لا يستطيع تخيّل "كون أزلي" .. لذا فإنّ إدعاءنا نحن الملحدين بأزليّة الكون .. مخالف للمنطق العقلي ..
لكن يبقى هناك نقطة تحسب للرأي الثاني .. وهي بأنّ "منطق العقل" مستمد من "منطق المادّة" (حسب كانت وهيجل وأغلب الفلاسفة) .. وفي حال أثبت أن المادّة أزليّة .. ربّما اصبح ذلك ركناً من أركان المنطق العقلي "على المدى البعيد" .. لكن العقل لن يسلّم بإحتمال وجود الخالق بأي شكل من الأشكال .. لأنّ الخالق خارج نطاق المادّة .. الذي يستمد منها العقل منطقه ..
إعتراف "كانت" هذا .. أوقعه في مأزق نفسي .. فهو بذلك ربّما أنقذ "العقل" .. وأنقذ "العلم" .. لكنّه لم ينقذ الله .. وهنا لم يستطع كانت إلا أن يجد في الله وجوداً غريزياً عند الإنسان من خلال ما أسماه "غريزة الواجب" .. (طبعاً سقط إدّعاء كانت بوجود هذه الغريزة فيما بعد) ..
أي أنّ أشد المذاهب مثاليّة .. لم تستطع أن تبرهن وجود الله بالمنطق العقلي ..

قبل "كانت" .. في عصر "فولتير" .. ظهر "جان جاك روسّو" .. الذي دعا البشريّة إلى التخلّي عن العقل .. وبالتالي هدم المدنيّة .. وأصرّ على ضرورة عودة الإنسان إلى فطرته الأولى .. فالعقل (وتطوّره التسلسلي) .. ليس سوى دخيل على البشريّة ..

إذاً "العقل" هو دخيل على المادّة ومحكوم بها .. وبالتالي فإنّ أحكامه هي ابنه للمادّة .. أي أنّه ليس "مطلقاً" .. فجميع الحيوانات (عدا الإنسان) تعيش بغرائزها بلا عقول شبيهة بالعقل الإنساني .. و(النباتات) تعيش بلا عقل أو غرائز .. وحتّى إحساساتها بسيطة ..
ومن يعلم .. كما هو "العقل" حدثاً طارئاً .. ربّما تأتي الأيّام بما هو أشد تطوّراً من العقل .. ومن المنطق العقلي .. ويصبح بإمكاننا إدراك الميتافيزيقا واللاعقليّات .. !!

النقطة السابقة تُحسب لصالح الدين .. فهي تشكك بكمال إدراكاتنا .. وبصحّة أحكامنا العقليّة .. بل إنّها تحطّم كلّ ما ندّعيه من منطق عقلي .. وتجعل عدم إدراكنا "للميتافيزيقا" نقصاً فينا .. لا غرابة بالميتافيزيقا ..

لكنّ المادّة الحيّة .. إعتادت دوماً أن تستفيد من كلّ ملكاتها خير إستغلال .. ويبدو لنا أنّ العقل هو الملكة الأكثر نضجاً للمادّة الحيّة .. فهي التي ميّزت الإنسان عن غيره من عناصر المادّة .. بل جعلته يتفوّق ويستثمر كلّ ما حوله من مادّة لصالحه .. لذا فمن حقّ الإنسان وواجبه الطبيعي أن يستند للعقل باعتباره الملكة الأكثر نضجاً مما يملكه .. ومن حقّه أن يستسلم للمنطق العقلي وإن كان إبناً للمادّة .. فالمادّة هي كلّ ما يعرفه الإنسان .. وهي ما كوّن الإنسان ..

وأنا .. إن كنت لا أستغرب نشأة الميتافيزيقا واستمرارها (فنشأتها غريزيّة تعبّر عن حاجات الإنسان أكثر مما تعبّر عن المنطق العقلي) .. لكنني أستغرب أن تختلط الأمور على البعض .. بحيث يسلّم بالعقل .. وبالميتافيزيقا بالوقت ذاته ..

لما تحكم على "فشل العقل" مسبقاً .. !! .. أنا لا أستغرب ذلك من العقليّات الدينيّة التي تضرب على وتر محدوديّة المنطق العقلي بالمادّة .. لكنني أستغرب هذا القفز على البعد التاريخي من شخص بمثل وعي الختيار .. وعلميّة الختيار ..

أستغرب تفضيل حلول لا عقليّة .. على حلول عقليّة (ربّما ليست مطروحة الآن تماماً .. لكنّ سنين حياتنا لا تشكّل شيئاً من تاريخ حياة العقل الذي قد يستمرّ طويلاً) .. أستغرب الإستسلام للمنطق الميتافيزيقي .. ونحن الذي نعتزّ بالمنطق العقلي .. ونتّخذه سنداً في كلّ قرارتنا الحياتيّة ..
أنا أستند لعقلي وأنا أكتب لك كلماتي هذه .. وأنت تستند لمنطقك العقلي في انتقاد الإسلام .. وفي توجيه حياتك .. في كلّ حياتك .. هذه هي الملكة التي تناسبك والتي تضمن استمرارك .. فلما تتخلّى عنها عند وضعها على "المحك" .. !!

لذا .. فأنا .. أشكك كثيراً في حكمتك حين تتخلّى عن منطقك العقلي (ولو لمرّة واحدة) .. فتخلّيك عنه .. ولمرّة واحدة .. يعني الإعتراف بقصور هذا العقل .. وبالتالي يضع كلّ استنتاجاتك التالية المستنده على عقلك القاصر موضع تشكيك .. في وقت أجد فيه ضرورة التمسّك بالعقل بصفته الملكة الأكثر تطوّراً .. ورقياً ..

أعرف أنّ كلامي أعلاه .. ربّما يحمل إنتقادات للفكر الإلحادي .. أكثر مما ينتقد الفكر الديني .. لكنني أعرف هنا لمن أنا أوجّهه ..
كما أنّي ذكرت .. أنّي لم أكتب ذلك إلا بعد أن صرت تفرّق كثيراً بين لادينيّتك .. وبين إلحادك ..

خوليو