{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
طبائع الاستبداد .... عبد الرحمن الكواكبي
بسام الخوري غير متصل
Super Moderator
******

المشاركات: 22,090
الانضمام: Feb 2004
مشاركة: #6
طبائع الاستبداد .... عبد الرحمن الكواكبي
الوعي بالإستبداد عند عبد الرحمن الكواكبي 15.12.2002 9:13 PM

المصدر: -

بقلم: عبد الله خليفة

يعتبر عبد الرحمن الكواكبي من مشاهير المثقفين العرب في القرن التاسع عشر المناضلين من أجل الديمقراطية والحرية، وقد ولد سنة 1854 بمدينة حلب، وعمل في الصحافة والمحاماة والتجارة، وتعرض للاضطهاد والسجن مراراً وصودرت أمواله وممتلكاته، فهاجر من سوريا وطاف بالبلدان العربية، وألف كتابيه الشهيرين : ] طبائع الاستبداد وأم القرى [، وكتباً أخرى ضاعت.

وقد قُتل بدس السم له سنة 1902، بمصر في القاهرة، وهو ما زال في عز عطائه. وقد أثرت آراؤه في التطور الفكري والسياسي للأمة العربية، التي اعتبرته أحد رموز التنوير والنهضة باختلاف تياراتها، لما قام به من جمع بين جذور الأمة والدفاع عن قضايا الحرية والإسلام والتحديث. وقد توصل الكواكبي في ذروة تفكيره، وهو يجاهد لإعادة تكوين وعي العرب، إلى أن الاستبداد السياسي هو سبب الانحطاط التاريخي للمسلمين، لهذا نراه يقول: إن ]أصل الداء هو الاستبداد السياسي [، وذلك في مقدمة كتابه طبائع الاستبداد، وهو يقصد بالطبائع ما نفهمه الآن بالظاهرات والأسباب العامة للحالة المُشخصة، أو لقوانينها كذروة للغوص في تحليلها. يقول : ]وأنا لا اقصد في مباحثي ظالماً بعينه ولا حكومة أو أمة مخصصة، إنما أردت بيان طبائع الاستبداد وما يفعل وتشخيص مصارع الاستعباد وما يقضيه ويمضيه على ذويه..[، ]طبائع الاستبداد، طبعة المدى، ص16[. إن بحثه عن هذه ] الطبائع [ وقد اكتوى بنارها، جعلته يشتغل على درسها في المصادر العربية القديمة والحديثة والغربية المعاصرة، بحيث يتمكن من الغوص إلى مختلف تجليات هذه الظاهرة، وطبائعها أي ظاهراتها المختلفة، وتشير كلمة ] طبائع [ إلى التعبير العربي القديم بكون الأشياء ذات خصائص ثابتة شبه طبيعية.

ويقوم خطاب الكواكبي على جانبين متداخلين ومتضادين، الأول يعتمد على فحص وتحليل الظاهرة، عبر الغوص في مختلف تجلياتها، سواء في المجال السياسي أو الديني أو العلمي أو الأخلاقي أو المالي أو التربوي، أم في العودة إلى جذورها في التاريخ الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي أو البوذي الخ، بل أحياناً العودة إلى التاريخ المشرقي القديم، لدى الفراعنة والرافديين، وأيضا تحليلها من خلال التاريخ المعاصر لدى العرب والغربيين، بحيث نجد الكواكبي يتنقل في فصل واحد، أو حتى في فقرة واحدة بين أزمنة شتى، ومراحل تاريخية متباينة، وهذا الانتقال يستهدف مناقشة الظاهرة السالفة الذكر، وتتبع أصولها ومظاهرها لدى الأمم. والجانب الثاني من خطابه هو جانب غير تحليلي، جانب وعظي وخطابي، يندد فيه ويدعو ويتحسر، وهو جانب يعبر عن انقطاع التحليل واستبداله بالخطب، وهو يعبر عن طريقة منبرية تلاقى فيها المحامي بالواعظ، مثلما يقول في فصل الاستبداد والدين من كتابه:

] ولكن واأسفاه على هذا الدين الحر، الحكيم، السهل، السمح، الظاهر فيه آثار الرقي على غيره الخ..[، وهذا الجانب لا يقوم بتطوير قضايا التحليل المطروحة، بل هو يقفز إلى النتائج، ويعبر عن موقف المؤلف بشكل تقريري. وبالتأكيد فإن أبرز جانب عقلي هو في القسم الأول، الذي بهر الناس على مدى القرن العشرين لما فيه من جرأة ونفاذ بصيرة. ومنذ البدء يدخل الكواكبي إلى موضوعه معرفاً الاستبداد السياسي بقوله:] إن الاستبداد هو صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين[، وهذه الحكومات على نوعين إما حكومة مطلقة بشكل ظاهر، وإما حكومة مقيدة ] بنوع من ذلك ولكنها تملك بنفوذها إبطال قوة القيد بما تهوى، وهذه حالة الحكومات التي تسمى نفسها بالمقيدة أو بالجمهورية[، ] ص23 ــ 24[. إن الكواكبي هنا يدمج بين شتى أنواع الحكومات الدكتاتورية، سواء أكانت الشرقية المستبدة بشكل كلي وكامل، أم الغربية التي تنفذ من الشكل الديمقراطي بآلية دكتاتورية عميقة.


يستطيع الكواكبي أن يغوص في المظاهر الاستبدادية لحكومات عصره الشرقية والغربية برؤية شجاعة، فهو يكتب انه ليس بالضرورة أن تكون الحكومة الدستورية حكومة ديمقراطية، فالحكومة التي تعمل بالدستور ولكنها تقوم بالتفريق بين الجوانب الثلاثة الأساسية لعملية الديمقراطية المتكاملة وهي ]قوة التشريع[ و ] قوة التنفيذ [ و ]قوة المراقبة [، فما لم تكن هذه القوى، أو السلطات، منفصلة فإن الدستور لا معنى له.

ويقول في عبارة دقيقة حاسمة:]لأن الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسئولية فيكون المنفذون مسئولين لدى المشرعين، وهؤلاء مسئولين لدى الأمة، تلك الأمة التي تعرف أنها صاحبة الشأن كله وتعرف أن تراقب وأن تتقاضى.[، ص .24 ولديه أن صمام الأمان في الحياة الديمقراطية هو وجود قوة اجتماعية واسعة تفرض ]المراقبة الشديدة والاحتساب الذي لا تسامح فيه[ وهو يضرب مثلاً من قوة الصحابة والناس في أيام الخلفاء الراشدين وقدرتهم القوية على تبليغ صوتهم، وسماع الخلفاء لهذا الصوت بل دعوتهم إلى استمراره وتأثيره. وبهذا الصدد يعتبر ان التجنيد الإجباري وجهالة الأمة هما من الظواهر الكبيرة المكرسة للاستبداد، ولا شك ان وضعه هذين السببين في مقدمة المظاهر المكرسة للاستبداد، يعود إلى رؤيته لدورهما في تجهيل وعسكرة الجمهور البسيط، خاصة الريفي والمدني الفقير الذي يستخدم لضرب الأقسام المدنية المتحررة، لأنه يمضي بعد ذلك في تحليل هذه الأقسام الشعبية وخطورة جهلها وعسكرتها على الديمقراطية. فهو يقول ]وأما الجندية فتفسد أخلاق الأمة حيث تعلمها الشراسة والطاعة العمياء[، إن الكواكبي يقوم بتتبع مظاهر لا تبدو بينها خيوط ارتباط دقيقة في الظاهر، لكن سنرى العلائق بينها، فبعد قليل يعود إلى بحثه مؤكداً النموذج الإنكليزي في النظام السياسي، حيث الشعب لا يكف عن مراقبة ملوكه، وإن الوزارة المنتخبة هي التي تدير كل النظام السياسي بما فيها الملك وحاشيته وعلاقاته.

وفجأة من هذا النظام السياسي المتقدم يعود إلى الحكومات البدوية، فيقرر ان المجتمعات البدوية قلما عرفت الاستبداد ] وأقرب مثال إلى ذلك أهل جزيرة العرب فإنهم لا يكادون يعرفون الاستبداد من قبل عهد ملوك تبع وحمير وغسان إلى الآن إلا فترات قليلة[، وهذا التعميم في الواقع بين ملوك تبع، والقبائل البدوية، فيه جانب محدود من الموضوعية، فالقبائل الرعوية لم تتجذر فيها السلطات الدكتاتورية، ولكنها أيضاً تحمل بذور الدكتاتورية عبر الخضوع المطلق لشيخ القبيلة، وعبر ]وحدة الدم[ فيها، التي تشكلها الحياة القاسية للصحراء وهيمنة الشيوخ. وعبر هذه الدكتاتورية أمكن لهؤلاء أن يشيدوا الإمارات والدول الاستبدادية المنبثقة من التطور القبلي. وهذا المثال يعطينا كيف أن وعي الكواكبي يستقي بعض المظاهر الحقيقية لكنه يقوم بحالات من التعميم، وبتغييب الدراسة التاريخية للظاهرة الجزئية المدروسة. والمثال السابق يدعوه إلى دراسة تطور الإنسان عبر التاريخ، فانتقل من تحليل البدو إلى تحليل تاريخ الإنسانية، وكيفية الاجتماع، فهو يعتبر ان الجماعات والشعوب المتلاصقة هي التي تعيش حياة الاستبداد كالأمم الشرقية، أما الشعوب المتفرقة في السكن كالبدو والإنكليز والأمريكيين فإنهم يعيشون حياة أقرب إلى الحرية. إن الكواكبي هنا يعطي سبباً جغرافياً مطلقاً مفصولاً عن التطور الاجتماعي المركب، لكن الأمم الرعوية أقرب إلى الحرية بسبب عدم تجذر السلطة الاستبدادية داخلها، أي عبر غياب مؤسسات القمع الراسخة، وحضور الجمهور المسلح وعدم رسوخ الطبقات، فالأمر يعود إلى بنية اجتماعية معينة، وليس لمسألة التفرق والبعثرة السكانية، فالإنكليز والأمريكيون لا يعيشون هذه البعثرة بل التركز السكاني كالهنود والعرب ولكن مسألة الحرية تعود إلى التطورين الاجتماعي والسياسي، حيث تمكن الناس في هذين البلدين من إخضاع الحكام للمؤسسات الدستورية.

وهكذا فإن الكواكبي عبر تحليل ظاهرات معينة، تغيب عنه قراءة التشابك بين الاجتماعي والسياسي.


إن الطابع الخطابي لدى الكواكبي يتضح في هذه العبارة البليغة النارية: ]المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلهما، والحق أبو البشر، والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئاً، والعلماء هم اخوتهم الراشدون. إن أيقظوهم هبوا وإن دعوهم لبوا وإلا فيتصل نومهم بالموت[، ] السابق، ص 26[.

في مثل هذا الخطاب الحماسي الموجه لإيقاظ الشعب واستثارته، تتشكل المفاهيم من كلمات مجردة بلا خلفية اجتماعية وتاريخية، كتعابير : المستبد، والحق، والحرية، والعوام، والعلماء، فكل هذه الكلمات تتشكل في غياب الفضاء التاريخي، فالحق هنا مقصود به ولا شك حقوق الناس الديمقراطية التي أوضحها الكواكبي في أماكن أخرى، ولكن الكلمة تتجرد من دلالتها، مثلما تتجرد كلمة العوام، فهم نائمون بشكل مطلق وليس لأسباب موضوعية في ظرف تاريخي معين، كذلك فالعلماء هم أصحاب الإيقاظ المطلق. هنا يعبر الكواكبي عن العرب في بداية القرن حيث يستفز العامة للثورة، كما يستفز العلماء، علماء الدين، لكن لا يقوم بالتحليل لهذه التعبيرات العامة، ولكننا ندرك ان مسائل الوعي والثقافة والناس والمثقفون والأوضاع الموضوعية لا تترابط وتتداخل في فهمه، فليس ثمة شروط وقوانين موضوعية للتطور الاجتماعي، فالأمور خاضعة لديه لإرادة ذاتية يقوم بها العلماء، وإلى جسم عامي مرتبط بهذه الإرادة، وليس لجسم شعبي مرتبط بظروف معقدة يتداخل فيها الذاتي والموضوعي. ولهذا فإن هذه التعميمات تتحول إلى رؤية كونية عامة مجردة مضطربة فيقول:] إن الله جلت نعمه خلق الإنسان حراً قائده العقل، ففكر وأبى إلا أن يكون عبداً قائده الجهل[،

فهو هنا لا يضع مسافة موضوعية بين الله والإنسان، عبر التاريخ الذي تشكل فيه الناسُ، فتأتي كلماتُ: الإنسان، الحر، العقل، العبد، الجهل، بلا ركائزها في التاريخ الملموس، أي يغيب التاريخُ الحقيقي في المواضع المختلفة من تطور الحضارات وكيفية نشوء الدولة وانتقال الإنسان من المجتمع المشاع إلى مجتمع العبودية المعممة في المشرق العربي، فمثل هذه السيرورة تغيب عن الكواكبي، ولهذا ينهال على رأس هذا الإنسان المجرد بأقذع الهجوم:]فكفر وأبى شكره وخلط في دين الفطرة الصحيح بالباطل ليغالط نفسه وغيره[، ]فكفر الإنسان نعمة الله وأبى أن يعتمد كفالة رزقه فوكله ربه إلى نفسه وابتلاه بظلم نفسه وجنسه وهكذا كان الإنسان ظلوماً كفوراً[، ] نفسه ص 27[. هذا الخطاب جزء من خطبة العالم الديني، الذي يمثله الكواكبي هنا، وهو يقوم بالتعميمات المجردة اللاتاريخية، ويسكب الخط الديني الغيبي:فهنا الله وجنته ودينه الصحيح، وهناك الشيطان والنار والدين الباطل، وثمة الإنسان المجرد الكافر الذي يتوجه إلى المعصية، ولكننا لا نعرف لماذا يتوجه هذا الإنسان العام اللاتاريخي إلى الشر؟ ما هي ظروفه؟ وكيف تسهل قيادته من قبل الشيطان؟

في هذا الخطاب يعود الكواكبي إلى الغيبية، ويبتعد عن دوره كمحلل تاريخي، لكنه يعود إلى هذا الدور بعد أن ينهي فصل الاستبداد السياسي، منتقلاً إلى الاستبداد الديني، اللذين يعتبرهما صنوين، ووجهين لعملة واحدة:]هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب[، ص .29 ويقوم الكواكبي بالحكم المُعمّم على الإنجيل والتوراة فيقول إن الحكم السابق حقيقي على ] مغزى أساطير الأولين والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المُضافة إلى الإنجيل، ومخطئون في حق الأقسام التعليمية الأخلاقية فيهما[، لكنه لا يقوم بعرض وجهة نظره هذه، وكيف استطاع أن يفصل الأقسام التاريخية عن الأقسام التعليمية والأخلاقية؟ وهل الرسائل، ولعله يقصد رسائل بولس الرسول، تنفصل عن الأناجيل الأربعة، لأنه لا يوجد إنجيل واحد؟! إن الكواكبي لا يدخل معمعمة البحث هنا، وينتقل إلى الظواهر الاجتماعية البسيطة والمنتشرة عبر العصور، وهي استخدام رجا ل الدين للأديان من أجل المصلحة، ويقول إن أساس وضعهم يعتمد على ما في الأديان من تهديد بالعقوبات الكبرى أو بالثواب العظيم، وإن الأمر يعود إلى سيطرة رجال الدين على هذا الطريق بين الإنسان وربه، فهم يقيمون الحصالات المالية و يأخذون المكوس على أرواح البشر الحرة:] ولكن على تلك الأبواب حجاب من البراهمة والكهنة والقسوس وأمثالهم الذين لا يأذنون للناس بالدخول ما لم يعظموهم مع التذلل والصغار ويرزقوهم باسم نذر أو ثمن غفران[، ص 29 ــ .30 لكن هذه العملية في رأيه ناتجة عن المماثلة في وعي العوام بين الخالق والحاكم: ] وبعبارة أخرى يجد العوام معبودهم وجبارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات، وهم هم، ليس من شأنهم أن يفرقوا مثلاً بين (الفعال المطلق) والحاكم بأمره.[ وهذا ما يؤدي في رأيه إلى انتحال بعض الحكام القدماء صفات الألوهية.


في رؤية العلاقة بين الأديان والاستبداد يعطي الكواكبي للعوامل الشخصية الدور الكبير في صياغة الاستبداد، فرجال الدين والحكام، كلٌ على حدة، أو مجتمعين، يقومون بالدور الاستبدادي كلٌ في مجال اختصاصه، وهم يشكلون عالماً استبدادياً مشتركاً، وهم يفرقون الشعوب إلى شيع وطوائف " فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ"، ص 31، أو مثل قيام "السلاطين الأعاجم في الإسلام بالانتصار لغلاة الصوفية"،
إن هذه الظواهر التي يقدمها الكواكبي تركز على الشخوص ولا تقوم بالتحليل الذي يربط بين هذه النماذج الشمولية والأفكار، فلماذا استطاعت هذه النماذج دوماً احتكار صياغة معاني الأديان واستغلتها للسيطرة، وما هو التداخل بين الفكري والسياسي والاجتماعي هنا؟ أي كيف حدثت هذه الديمومة ولماذا؟ ولماذا لم تظهر شخصيات تركز على معاني الأديان الإيجابية وتستمر في الدعوة إليها؟ لقد استطاع الكواكبي بعد هذه الفقرات أن يكشف معاني دقيقةً، لاتزال حتى وقتنا الراهن غير معروفة لكثير من المثقفين، هي تلك الرؤية الدقيقة لتطور المذاهب الدينية في أوروبا، حيث يتمكن من تمييز التحرر في البروتستانتية والتقليد في الكاثوليكية، فهو يفسر تحرر القسم الأول على ما يستقيه من الرواية التي يستشهد بها، بأنه راجع إلى أن التحرر الديني ساهم في تطور تلك الشعوب السياسي، في حين أن الحرية السياسية في الدول الكاثوليكية لم تؤدِ إلى التحرر الديني، ورغم أن هذه ملاحظة دقيقة منه، فإن الكواكبي عبر منهجه المثالي "فلسفياً" يقوم بفصل تطور الوعي في شكليه الديني والسياسي عن التطور الاجتماعي، فهو هنا لا يقرأ تطور الرأسمالية الأوروبية ودرجاتها، حيث سارعت الأقطار الأكثر والأسبق في النمو الرأسمالي في إنتاج البروتستانتية، في حين كانت الأقطار الجنوبية الأقل تطوراً قد أنتجت المذاهب المتشددة، أي أن نمو الحريات الاقتصادية قام بتفكيك شبكة الإقطاع في المستويات المختلفة للبنية الاجتماعية، بدءا من حرب الفلاحين مروراً بنشوء عمليات الإصلاح الديني حتى الثورة الصناعية الخ...

ولكن كان طرح الكواكبي هنا يتصف بطابع متقدم، وسنجد في مقاطع تالية، أفكاراً مدهشة متقدمة أخرى حتى على وقتنا الراهن. ولكننا وجدنا هنا مشكلة وعي الكواكبي المحورية حيث التحليل النقدي للاستبداد الديني والسياسي تنقصه عمليات تشريح اقتصادية واجتماعية وفكرية متضافرة، وفي الفقرات الكبيرة التالية المتعلقة بتفسير نشوء ظواهر الألوهية في بلاد الإغريق يرجعها الكواكبي إلى عمليات الخداع التي قام بها حكماء بلاد الإغريق، كوسيلة للإصلاح الديني الذي هو البوابة للإصلاح السياسي كما يرى. وهو تفسير لا علاقة له بالتاريخ، وإذا كان هو هنا يواصل عدم معرفة التاريخ الموضوعي وأهمها نشوء المدن الحرة والصناعة والطبقات الوسطى القوية التي أنتجت الديمقراطية الأثينية، إلا أن استنتاجه بشأن أسبقية الإصلاح الديني هو غير دقيق، لكون الإصلاحين السياسي والديني كانا متداخلين، بل ان المحافظة الدينية ظلت قوية في بلاد اليونان رغم التقدم السياسي، ثم لعبت دوراً كبيراً في الارتداد عن النهضة. بطبيعة الحال كان دخول الكواكبي لتحليل الظواهر التاريخية في بلاد اليونان هو بحد ذاته إنجازاً، كما يشير إلى محاولاته الموسوعية لتفسير الظواهر الإنسانية، رغم نقص المواد المعرفية والمنهجية في زمنه.

ويأتي تحليله للإسلام معبراً عن هذا الترابط في وعيه بين الإسلام والديمقراطية والحداثة بل الاشتراكية، إلى استبصاره المدهش لكون الإسلام ثورة اجتماعية وضعت العرب والمسلمين على طريق التطور والتحديث، وهو يقول: إنها وضعت "أصول حكومتها: الشورى الأرستقراطية أي شورى أهل الحل والعقد في الأمة بعقولهم لا بسيوفهم. وجعل أصول إدارة الأمة: التشريع الديمقراطي أي الاشتراكي حسبما يأتي فيما بعد"، ]ص 36 ــ 37[. إن شورى الأشراف التي أقيم عليها الحكم الإسلامي لم تنفصل عن رغبات ومصالح الرعاة العرب، أي الجمهور الأوسع. ونستشف هذا الفهم من تعبيره الاجتماعي الدقيق هنا: "الأرستقراطية" فالفئات الوسطى القرشية التي تسلمت زمام الدولة الوليدة، ظلت أشرافية، واعتمدت شورى أهل الحل والعقد، وليس النظام الديمقراطي الانتخابي، أي لم تعتمد التصويت الواسع للجمهور، ولهذا فإن تقييم الكواكبي للحدث الإسلامي رغم نواته الموضوعية، يظل مضطرباً، ولهذا فإن جمعه للديمقراطية والاشتراكية هنا يشير إلى رؤيته لعملية الديمقراطية الاجتماعية العميقة: توزيع الأراضي على الجنود العرب، وتأميم أراضي الفتوح لصالح الناس، ووجود السلطة في متناول نقد وتصحيح الجمهور، وعدم وجود هياكل بيروقراطية ومؤسسة أمن وقمع الخ... لعل هذه الرؤية الاجتماعية التي عبر عنها الكواكبي بشكل مشوش، هي التي فصلت رؤيته الدينية عن الشمولية، وجعلتها رؤية دينية ديمقراطية، خاصة مع التحامها بالوعي الحديث.


إن الكواكبي بتقويمه للإسلام كثورة اجتماعية لعب أشرافُ مكة دوراً طليعياً فيها، لا يقوم بمتابعة التحليل لمسار هذه الثورة، فهو يجد بعدئذٍ ان تلك الفترة المضيئة قد زالت لأسباب ليست عبر قراءة تحليلية لتطورها، فهو يعيدها إلى:.. ]هذا الإهمال للمراقبة، وهو إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود.[، ]نفسه، ص 37[.
فهو يعيد ظهور الاستبداد إلى مجال ضعف المراقبة الجماهيرية للحكام، وغياب جماعة الأمر بالمعروف، والحقيقة ان المسلمين لم يقصروا في هذا المجال، ونحن نجد مختلف الجماعات السياسية والفكرية طوال العهد الأموي تناضل وتتصدى بالسيف والكلمة للحكام الجائرين، وامتد ذلك إلى العصر العباسي، كما حدث في انتفاضة النفس الزكية والمعتزلة ضد جور بني العباس الخ.. ونستغرب من الكواكبي كيف لم يقم بدراسة هذه الظاهرات الواضحة في التاريخ الإسلامي، ثم كيف يقفز إلى جانب جديد اعتبره هو المسئول عن انهيار الحكم الإسلامي العادل، إلا وهو ] والخلاصة أن البدع التي شوشت الإيمان وشوهت الأديان تكاد كلها تتسلسل بعضها من بعض وتتولد جميعها من غرض واحد هو المراد، ألا وهو الاستعباد[، ص .39 فما هو شكل هذا الانحراف، أي كيف تمكنت مظاهر دينية أخرى غير إسلامية من التغلغل في الإسلام، وما هي الأسباب؟ لا بد أن نرى الشق الأول من السؤال، ويبدأه بأن المسلمين اقتبسوا من المسيحيين مقام البابوية وحاكوا مظاهر القديسين وعجائبهم وقلدوا الكهنوت في مراتبهم والوثنيين في الرقص وتطبيب الموتى والاحتفال الزائد في الجنائز وشاكلوا الكنائس في مراسمها وجاءوا من المجوسية باستطلاع الغيب وتعظيم الكواكب الخ.. الخ..

تغيب هنا عن منهجية الكواكبي مثلما غابت في السابق، القراءة المتابعة لتغير المراحل التاريخية، فهو لا يقوم بدراسة الإسلام التأسيسي وظروفه وتطوره، واعتماده على رعاة الجزيرة لتغيير المنطقة، وتأثير ذلك في توحيديته وبساطته، ثم ظهور مرحلة جديدة بانتقال العرب إلى البلدان المفتوحة، وتأثير ثقافاتها ومقاومتها وصراعها على تطور الإسلام، وبالتالي تغلغل تقاليد جديدة تعكس التداخل والصراع بين مستويين من الوعي والتطور، وهو ينتبه إلى دور الاستبداد في تبديل هذه الثقافة المشتركة وتوظيفها لخدمة سيطرتها، لكنه لا يرى كذلك ان هذه الثقافة لعبت دوراً في مقاومة السلطة الشاملة وتفكيكها. هذا الجانب التركيبي المعقد لا تستطيع أدوات الكواكبي فرزه وإعادة تحليله، فهو ينطلق من رؤية تبسيطية للدين وللإسلام، وهذه العمليات المركبة من التطور الاجتماعي الروحي تصعب على أدواته أن تدرسها.

لكنه ينجح في تحليل ظاهرة عصره التي خبرها بمرِ تجاربه، وهي التي تعبر عن مضمون رؤيته، ألا وهي ظاهرة النبالة، أي الإقطاع، ففي فصل الاستبداد والمجد، يقوم بكشف أصحاب الأمجاد هؤلاء الذين يتجه المستبد للإكثار ]منهم ليتمكن بواسطتهم من أن يغرر الأمة على أضرار نفسها تحت اسم منفعتها[، ]والخلاصة ان المستبد يتخذ المتمجدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حب الوطن أو توسيع المملكة أو تحصيل منافع عامة.. [، ] ولهذا لا يستقر عند المستبد إلا الجاهل العاجز.[ ثم يقوم الكواكبي بتعرية واسعة لقيم المجد الزائف متغلغلاً في ظاهراته بلغة نارية ساخرة كاشفاً سمات التنبلة الاجتماعية حيث يرث ابن العائلة ] الترف المصغر للعقول[ و ] الوقار المضحك للباطل السائد[ ولا ] يستخدم الثروة في غير الملاذ الدنيئة البهيمية ويرتبط ] باقران السوء المتملقين المنافقين [ الخ.. هذه المظاهر الاجتماعية للاقطاع يتبعها الكواكبي بتحليل اجتماعي سياسي مترابط ودقيق، ] فالأصلاء في عشيرة أو أمة إذا كانوا متقاربي القوات استبدوا على باقي الناس وأسسوا حكومة الأشراف[، فقدرة الأسر الإقطاعية العربية على تأسيس الحكم يعتمد على قدراتهم العشائرية العسكرية، وهو أمر سبق لابن خلدون تشخيصه باتساع، لكن الكواكبي يتتبع مختلف المظاهر المترتبة على فكرة الأصالة الأرستقراطية، فتظهر النبالة العربية بشكلها القبلي المترفع، وبحياتها الاجتماعية الخاوية، ويظهر الاستبداد العربي مرتكزاً عليها، ثم على رؤساء العشائر الأخرى وعلى الإدارة الفاسدة، بحيث يستطيع المستبد أن يستمر في حكمه المتفرد. بطبيعة الحال لا يقوم الكواكبي بربط هذه الجوانب الدقيقة من تحليله الاجتماعي المعاصر بالقوى الاجتماعية المختلفة، وبالمسار التاريخي للأمة العربية، فتحليلاته تحليلات موضعية جزئية لا تتسع في تعميمات وتكتشف قوانين، ولهذا يغلب على ملاحظاته التجزؤ والتفتت وغياب الترابطات المختلفة، فهو هنا يكشف جذور الاستبداد الإقطاعي في المنطقة، لكن لا يربطه بما فحصه سابقاً عن المذاهب الأوروبية، أو عن التاريخ العربي، فتتحول ملاحظاته الدقيقة إلى وعي جزئي بالتطور العام

11-17-2004, 11:53 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
طبائع الاستبداد .... عبد الرحمن الكواكبي - بواسطة بسام الخوري - 11-17-2004, 11:53 PM

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  اعتذر عما فعلت...! (عبد الرحمن اليوسف) إسماعيل أحمد 5 1,127 08-29-2007, 02:08 PM
آخر رد: عادل نايف البعيني
  أين اللغة والأدب : عبد الرحمن منيف؟ ابن العرب 25 4,172 05-31-2005, 08:21 PM
آخر رد: إبراهيم

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS