{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
الخيميائي, باولو كويلو
قارع الأجراس غير متصل
عضو متقدم
****

المشاركات: 262
الانضمام: Dec 2005
مشاركة: #2
الخيميائي, باولو كويلو
تذكر الفتى حلمه، وفجأة صار كل شيء واضحاً له.
فالمرأة العجوز لم تجعله يدفع شيئاً، لكن هذا الشيخ، سينجح في تحصيل مبلغ أكبر مقابل معلومة لم تكن تتعلّق بأي واقع، لابد أنه غجري أيضاً ويمكن أن يكون زوجها.
في تلك الأثناء، ودون أن يقول أية كلمة، انحنى العجوز، والتقط غصناً من الأرض، وشرع يكتب شيئاً على رمل الساحة، وفي اللحظة التي انحنى فيها، لمع شيء ما على صدره، كان الضوء باهراً لدرجة جعلت الشاب شبه أعمى.
لكن وبحركة سريعة ومدهشة لرجل في عمره، سارع العجوز لشد معطفه على صدره.
زال انبهار عيني الفتى، فاستطاع أن يرى بوضوع ماكان الرجل يكتبه، قرأ اسم أبيه، واسم أمه على رمال الساحة الرئيسية للمدينة الصغيرة، ألعاب طفولته، ليالي المدرسة الإكليريكية الباردة، ثم قرأ سيرة حياته حتى هذه اللحظة، قرأ أشياء لم يكن قد رواها لأحد قط، كتلك المرة التي سرق فيها سلاح أبيه وذهب لاصطياد الوعول الجبلية، أو كتجربته الجنسية الأولى والوحيدة.
- أنا ملك سالم ـ قال العجوز.
- لماذا يثرثر ملك مع راع؟ تساءل الفتى في ذهول وحيرة.
- توجد عدة أسباب، لكن لنقل أن أهمّها هو أنك كنت قادراً على انجاز " أسطورتك الشخصية " .
لم يكن الشاب يعرف ماكان العجوز يقصد بقوله: " أسطورة شخصية " .
- هي ماكنت دائماً تتمنى أن تفعل، فكل واحد منا يعرف ماهي أسطورته الشخصية وهو في ريعان شبابه، في هذه الفترة من الحياة، يكون كل شيء واضحاً، كل شيء ممكناً، ولا يخاف المرء من أن يحلم أو يتمنى مايحب أن يفعله في حياته. وكلما جرى الوقت، فإن قوى خفيّة تنشط لإثبات استحالة تحقيق الأسطورة الشخصية.
لم يكن لقول العجوز أي معنى بالنسبة للراعي الشاب.
لكنه كان يريد معرفة ماهية هذه " القوى الخفية ". إن ابنة التاجر ستبقى فاغرة فاها !
- إنها قوى قد تبدو سيئة، ولكنها في الواقع هي تلك التي تعلّمك كيف تحقق أسطورتك الشخصية، إنها هي التي تعد عقلك، وإرادتك لأن هناك حقيقة كبرى في هذا العالم:
" فأياً كنت، وأيّ شيء فعلت، فإنك عندما تريد شيئاً بالفعل، فهذا يعني أن هذه الرغبة قد ولدت في " النفس الكليّة " ، وأنها رسالتك على الأرض . "
- حتى لو كانت الرغبة فقط هي رغبة في الترحال ؟ أو في الزواج من ابنة تاجر أقمشة؟
- أو البحث عن الكنز، فإن النفس الكليّة تتغذى من سعادة الناس أو من شقائهم، من الرغبة، من الغيرة، وإنجاز الأسطورة الشخصية هو الالتزام الأول والأوحد للناس، وكل شيء ليس إلا شيئاً واحداً.
" وعندما تريد شيئاً ما، فإن الكون بأسره يتضافر ليوفر لك تحقيق رغبتك " .
احتفظا بالصمت للحظة، راقبا فيها الساحة والمارّة، وكان العجوز هو المبادر في إعادة فتح الحديث:
- لماذا ترعى الغنم؟
- لأنني أحب الترحال.
أشار العجوز إلى بائع البوشار بعربته الحمراء في إحدى زوايا الساحة وقال:
- هذا الرجل أيضاً كان دائماً يريد الترحال عندما كان طفلاً، لكنّه فضّل شراء عربة صغيرة ليبيع البوشار ويجمع المال طيلة سنين عديدة، وعندما يصبح عجوزاً سيسافر ليمضي شهراً في إفريقية، إنه لم يدرك أبداً أن الانسان يمتلك القدرة لينفذ مايحلم به.
- كان عليه أن يكون راعياً ـ فكّر الشاب بصوتٍ عالٍ.
- لقد فكّر في ذلك ـ قال العجوز ـ لكن باعة البوشار ذوو شخصيات أكبرم ن تلك التي هم عليها الرعاة، فباعة البوشار لديهم بيوت تؤويهم، بينما الرعاة يناموت تحت النجوم، والناس يفضّلون تزويج بناتهم من باعة بوشار على تزويجهم من الرعاة.
شعر الراعي بغصّة في الصميم، وهو يفكّر بابنة التاجر، ففي المدينة حيث تعيش يوجد بالتأكيد بائع بوشار.
- وأخيراً ـ أردف العجوز ـ فإن مايفكّر به الناس عادة عن باعة البوشار وعن الرعاة يصبح لديهم أهم من الأسطورة الشخصية.
تصفّح العجوز الكتاب وتسلّى بقراءة صفحة منه، انتظر الراعي قليلاً ثم قاطعه بنفس الطريقة التي قوطع هو بها:
- لماذا قلت لي هذه الأشياء؟
- لأنك تحاول أن تعيش أسطورتك الشخصية، ولأنك على وشك العدول عنها.
- وأنت تظهر دائماً في هذه اللحظات؟
- ليس بهذا الشكل دائماً، لكنني لا أتخلّى عنه أبداً ... فمرة أظهر على شكل فكرة جديدة، أو كطريقة للتخلص من ورطة، ومرة اخرى أظهر في لحظة روحانية، أجعل فيها الاشياء سهلة المنال، وهكذا ... لكن أغلب الناس لا يلاحظون شيئاً.
روى أنه في الاسبوع الماضي، كان مجبراً على الظهور لأحد المنقبين على شكل حجر، فقد كان هذا الرجل قد تخلّى عن كل شيء، ورحل سعياً للحصول على الزمرد.
خمس سنوات عمل خلالها بتكسير الاحجار على طول أحد الأنهار، كان قد كسر خلالها تسعمائة وتسعاً وتسعين ألفاً وتسعمائة وتسعاً وتسعين حجراً، محالاً أن يجد زمردة، في تلك الأثناء فكّر بالتراجع، ولم يكن ينقصه عندئذٍ إلا حجر واحدة، ليكتشف زمردته، وبما أنه كان رجلاً دأب في الجد خلف أسطورته الشخصية، فقد قرر العجوز التدخل، فتحول إلى حجر تدحرجت عند أقدامه، وتحت وطأة غضبه واحساسه باستلابه خلال خمس سنوات ضاعت من عمره، قذف بتلك الحجر إلى البعيد، ورماها بقوة كبيرة جعلتها ترتطم بحجر أخرى، فتفتت لتكشف عن أجمل زمردة في العالم.
قال العجوز وفي عينيه شيء من المرارة:
- إن الناس يتعلّمون مبكراً مبرر حياتهم، وربما لهذا السبب نفسه أيضاً، يتخلّون عن عاجلاً عن المتابعة، لكن هكذا هي الدنيا.
تذكر الشاب حينئذٍ أن نقطة البداية بالنسبة للمحادثة التي دارت بينهما كانت الكنز المخبأ.
- لقد نُبشت الكنوز بفعل السيل الجاري ـ قال العجوزـ ودُفنت نتيجة ارتفاع مياه السيل نفسها، وان كنت تريد معرفة المزيد عن كنزك، عليك أن تتنازل عن عشر قطيعك.
- أفلا يمكن لعشر الكنز أن يفي بالأمر؟
بدا الشيخ خائباً:
- إذا وعدت بشيء لا تملكه بعد، فإنك ستفقد الرغبة في الحصول عليه.
قال له الراعي بأنه كان قد وعد الغجرية بعشر الكنز.
تأوه العجوز وصرخ:
- محتالون، على أية حال، انه لجميل أن تتعلم أن لكل شيء في الحياة ثمناً، وهذه هي الفكرة التي حاول مجاهدو عهد الأنوار تعليمها.
ثم أعاد الكتاب إلى الشاب قائلاً:
- غداً وفي مثل هذه الساعة تصحب لي عشر قطيعك، وسوف أرشدك كيف تجد كنزك بنجاح، هيّا عمت مساءً.
واختفى عبر إحدى زوايا الساحة.

× × ×


حاول الشاب الرجوع إلى قرائته، لكنه لم يتمكّن من التركيز، فقد كان مضطرباً ومتوتراً، لأنه أدرك أن العجوز يقول الحقيقة، ذهب للبحث عن البائع المتجول، واشترى منه كيساً من البوشار متسائلاً في قرارة نفسه هي عليه أن يخبره بما قال العجوز.
من الأفضل أحياناً، أن نترك الأشياء كما هي عليه ـ فكّر دون أن يقول شيئاً، فلو تكلم لأمضى بائع البوشار ثلاثة أيام بالتفكير ليقرر إن كان سيتخلّى عن كل شيء، لكنه كان قد اعتاد العربة الصغيرة.
كان يستطيع أن يوفر عليه هذا الارتياب المؤلم، أخذ يهيم في المدينة، ونزل حتى الميناء، حيث يوجد مبنى كبير، ذو نوافذ خاصة، كان الناس يأتون لشراء بطاقات السفر منها مصر ... إنها توجد في إفريقية.
- ماذا تريد؟ سأل موظف الحجز.
- ربما غداً ـ أجاب مبتعداً.
عندما يبيع واحدة من نعاجه، فإنه سيستطيع الانتقال إلى الجهة الأخرى من المضيق، لكن هذه الفكرة أرعبته.
- هاهو حالم آخر ـ قال قاطع التذاكر لزميله بينما كان الشاب يبتعد ـ ليس لديه مايغطي نفقات سفره.
في حين أنه عندما كان امام الكوة، كان قد فكّر بنعاجه، وامتلكه الخوف من الذهاب إليها. فخلال هاتين السنتين تعلّم كل شيء عن تربية الغنم، وتلعّم كيف يجز الصوف، والعناية بالنعاج الحوامل، وحماية قطيعه من الذئاب، كان يعرف حقول ومراعي الأندلس كلها، ويعرف السعر الدقيق ومبيع كل واحده من دوابه.
قرر العودة إلى حظيرة صديقه عبر أطول الطرق، كان في المدينة قصر أيضاً، أراد تسلّق المنحدر الحجري والذهاب للجلوس على حائط السوق ليستطيع رؤية أفريقية، فأحدهم كان قد شرح له أن العرب الذين احتلوا إسبانية كلها تقرياً، ولزمن طويل قد جاؤوا من هناك، لكنه يكره العرب لأنهم جاؤوا بالغجر.
ومن الأعلى، يستطيع أن يرى أيضاً الجزء الأكبر من المدينة والساحة التي تحدّث فيها مع العجوز.
- لعن الله الساعة التي التقيت فيها بهذا العجوز ـ فكّر ـ فهو قد ذهب بكل بساطة للبحث عن امرأة قادرة على تفسير الاحلام، فلا تلك المرأة، ولا ذاك العجوز، لم يعلّقا أية أهمية على كونه راع، فقد كانا شخصين منعزلين لا يعتقدان بشيء في الحياة، ولايفهمان أن الرعاة ينتهون في الارتباط بدوابهم، فالراعي يعرف بدقة كل واحدة منها، ويعرف أن كانت بينها واحدة عرجاء، وأيا منها ستضع بعد شهرين، إنه يعرف الكسولات منها ومتى يكون جزّها وذبحها. وان قرر الرحيل يوماً، فإنها ستتألم كثيراً.
أخذت الريح الشرقية تعصف، فمع هذه الريح جاء قوم من السفهاء الكفار، وقبل أن يعرف " طريفه "، لم يكن ليخيل إليه أن إفريقية كانت قريبة جداً، الأمر الذي يشكّل خطراً كبيراً، فالعرب يستطيعون غزو البلاد من جديد. أخذت الريح تعصف بقوة أكبر.
- هاأنذا بين أغنامي والكنزـ قال لنفسه، وكان عليه أن يقرر أن يختار بين شيء ألفه وآخر يحب كثيراً لو يحصل عليه، وهناك ابنة التاجر، لكنها ليست بأهمّية النعاج بالنسبة إليه، وماجعله يتأكد من ذلك هو لو أنها لن تلتقيه مابعد الغد، لما كانت انتبهت إلى ذلك: الأيام كلها متشابهة لديها، وعندما تكون الأيام تشبه بعضها بعضاً، فهذا يعني أن الناس قد توقفوا عن ملاحظة الأشياء الطيبة التي تخطر في حياتهم طالما أن الشمس تعبر السماء باستمرار.
- لقد غادرت أبي، أمي، وقصر المدينة التي وُلدت فيها ـ حدّث نفسه ـ لقد تعودنا على ذلك، والاغنام سوف تعتاد على غيابي.
من هناك، في الاعلى، راقب الساحة، كان البائع المتجول يتابع بيع بوشاره، جاء زوجان شابان ليجلسا على المقعد الذي شهد حواره مع العجوز، ثم تبادلا قبلة طويلة.
- بائع البوشار ... ـ تمتم في نفسه دون أن يتم الجملة، لأن الرياح أخذت تعصف بشكل أقوى، وشعر بها تلطم وجهه، إنها جلبت العرب بلا شك، لكنها كانت تأتي أيضاً برائحة الصحراء، وبالنساء المحجبات، وتحمل عرق وأحلام أولئك الذين كانوا قد رحلوا ذات يوم بحثاً عن المجهول، أو عن الذهب، والمغامرات والأهرامات.
أخذ الشاب يغبط الريح على حريتها، وأدرك أن لاشيء يمنعه أن يكون شبيهاً بها، فالأغنام، وابنة التاجر، وحقول الأندلس لم تكن إلا مراحل من أسطورته الشخصية.

× × ×

عند ظهيرة الغد التقى الراعي الشاب بالعجوز، وكان قد أحضر معه ستاً من أغنامه، وقال له:
إنني مندهش فصديقي اشتري مني القطيع على الفور، فطيلة حياته كان يحلم بأن يكون راعياً، إذن هذا فأل خير.
قال العجوز:
- الأمور تسير دائماً هكذا، ونحن نسمي هذا: " المبدأ المناسب"، فأنت عندما تلعب للمرة الأولى فإنك ستربح ربحاً مؤكداً، إنه حظ المبتدئ.
- ولماذا هذا؟
- لأن الحياة تريدك أن تعيش أسطورتك الحقيقة.
ثم بدأ يتفحّص النعاج الستى، وقد لاحظ إن إحداها عرجاء، لكن الفتى قد شرح له بأن هذا ليس بذي أهمية، لأنها كانت الدابة الأكثر ذكاءً والأوفر صوفاً، ثم سأله:
- أين يوجد الكنز؟
- الكنز موجود في مصر قرب الأهرامات.
اعترته رجفة، فالغجرية العجوز كانت قد قالت له الشيء نفسه، لكنها لم تأخذ أجرها.
- كي تصل إلى كنزك عليك أن تكون يقظاً للعلامات، فقد كتب الله قدرنا على جبيننا، واختار لكل منا الحياة التي عليه أن يحياها، وليس عليك إلا أن تقرأ ما كُتب لك.
وقبل أن يتمكن الشاب من أن يقول أي شيء، أخذت فراشة ليل تحوم بينه وبين الرجل العجوز، فتذكر جده، ذاك الذي سمعه يقوم عندما كان طفلاً، إن فراش الليل علامة حظ، والشيء نفسه بالنسبة للجنادب، والجراد الأخضر، والسحالي الرمادية، والحندقوقات ذات الأوراق الأربعة.
- هذا هو تماماً ـ قال العجوز الذي كان بمقدوره قراءة أفكاره ـ كما علّمك جدك، هنا تكمن العلامات.
ثم فتح المعطف الذي يتلف به، فتأثر الفتى بما رآه عندئذٍ، وتذكر الألق الذي بهر عينيه عشيّة البارحة، فقد كان العجوز يتقلّد قلادة من الذهب مرصّعة بالاحجار الكريمة.
قد كان ملكاً حقيقياً، وكان لزاماً عليه أن يتنكّر بهذا الزي ليتحاشى قطاع الطرق.
- خذ ـ قال وهو ينتزع حجراً بيضاء وأخرى سوداء، كانتا مثبتتين في وسط قلادته ـ إنهما تسمّيان " أوريم وتوميم "، السوداء تعني نعم والبيضاء تعني لا. فعندما لا تتوصل إلى فهم العلامات، فإن هاتين الحجرين سيفيدانك، لكن ليكن سؤالك الذي تطرحه موضوعياً دائماً، اسعَ باستمرار لاتخاذ قرارك بنفسك، فالكنز موجود قرب الأهرامات وهذا تعرفه مسبقاً، وعليكَ أن تدفع مقابل ذلك ست غنمات، فأنا من ساعدك على اتخاذ القرار.
وضع الشاب الحجرين في جعبته، وسيأخذ من الآن فصاعداً قراراته بنفسه.
- لاتنسَ أن الكل ليس إلا شيئاً واحدً، لاتنسَ لغة العلامات، ولاتنسَ على الخصوص أن تمضي حتى آخر أسطورتك الشخصية. وقبل أن أودعك أحب أن أروي لك حكاية صغيرة.
" ثمة تاجر كبير، أرسل ابنه ليكتشف سر السعادة عند أكثر الرجال حكمة، مشى الولد أربعين يوماً في الصحراء، ووصل إخيراً أمام قصر جميل يقع على قمة جبل، وهناك كان يعيش الحكيم الذي يجدُّ في البحث عنه.
فبدل أن يلتقي رجلاً مباركاً، فإن بطلنا داخل صالة تعج بنشاط كثيف: تجار يدخلون ويخرجون، وأناس يثرثرون، وفي إحدى الزوايا فرقة موسيقية صغيرة تعزف ألحاناً هادئة، وكان هناك مائدة محمّلة بمأكولات من أطيب وأشهى ما تنتج تلك البقعة من العالم. هذا هو الحكيم الذي يتحدث مع هذا وذلك، وكان على الشاب أن يصبر طيلة ساعتين حتى يأتي دوره.
أصغى الحكيم إلى الشاب الذي كان شرح له دوافع زيارته، لكن الحكيم أجابه أن لاوقت لديه كي يكشف له سر السعادة، وطلب منه القيام بجولة في القصر ثم العودة لرؤيته بعد ساعتين.
- أريد أن أطلب منك معروفاً ـ أضاف الحكيم وهو يعطي إلى الشاب ملعقة كان قد صب فيها قطرتين من الزيت ـ ، أمسك الملعقة بيدك طوال جولتك وحاول ألا ينسكب الزيت منها.
أخذ الشاب يهبط، ويصعد سلالم القصر، مثبتاً عينيه دائماً على الملعقة، وبعد ساعتين عاد إلى حضرة الحكيم.
- إذاً ـ سأل هذا، هل رأيت السجاد العجمي الموجود في صالة الطعام؟ هل رأيت الحديثة التي أمضى كبير الحدائقيين سنوات عشرة في تنظيمها؟ هل لاحظت أروقة مكتبتي الرائعة؟
كان على الشاب المرتبك أن يعترف بأنه لم يرَ شيئاً من كل هذا على الاطلاق، فشاغله الوحيد كان ألا تنسكب قطرتا الزيد التي عهد له الحكيم بهما.
- حسن، عد وتعرّف على عجائب عالمي ـ قال له الحكيم ـ فلا يمكن الوثوق برجل تجهل البيت الذي يسكنه.
اطمأن الشاب أكثر، وأخذا الملعقة، وعاد يتجول في القصر، معيراً انتباهه هذه المرة لكل روائع الفن التي كانت معلقة على الجدران، وفي السقوف، رأي البساتين والجبال المحيطة بها وروعة الزهور، والاتقان في وضع كل واحدة من تلك الروائع في مكانها المناسب، وعند عودته إلى الحكيم، روى له ما رآه بالتفصيل.
- ولكن أين قطرتي الزيت اللتين كنتُ عهدت لك بهما؟
نظر الشاب إلى الملعقة ولاحظ أنه قد سكبها.
- حسنٌ ـ قال حكيم الحكماء ـ هاك النصيحة الوحيدة التي سأقولها لك: " سرّ السعادة هو بأن تنظر إلى عجائب الدنيا كلّها، ولكن دون أن تنسى أبداً وجود قطرتي الزيت في الملعقة " .
مكث الراعي صامتاً، كان قد فهم حكاية الملك العجوز، فيمكن لراعٍ أن يحب السفر، لكن ليس له أن ينسى نعاجه أبداً.
نظر العجوز إلى الشاب، وبكفيه المبسوطتين، قام ببعض الحركات الغريبة فوق رأيه ثم جمع غنامه ومضى.

× × ×

على أحد مرتفعات مدينة " طريفة " الصغيرة كان هناك حصن قديم بناه العرب فيما مضى، ومن يجلس على أسواره يستطيع أن يرى من هناك بائع البوشار وجزءاً من إفريقية.
" ملكي صادق " ملك " سالم "، يجلس هذا المساء على متاريس الحصن، ويشعر بالريح الشرقية تلطم وجهه، كانت الأغنام قريبة منه تتوقف عن الحركة كدرة وقلقة بسبب تبدل راعيها وسيّدها، والتغيرات التي حصلت، فإن كل ماكانت ترغب به، هو ماتأكله وتشربه.
كان يراقب القارب الصغير الذي يبتعد عن الميناء، لن يلتقي هذا الشاب من جديد، وذلك بعد أن يجعله يدفع العشر مثلما أنه لم يكن قد لقى إبراهيم، لأن للآلهة أساطير خاصة، وليس لها أمنيات.
غير أن ملك " سالم "، ومن عميق ضميره قد تمنى للشاب النجاح.
للأسف ! سينسى إسمى عما قريب، كان عليّ أن أكرره له مرات عديدة، حتى إذا ماتحدّث عني استطاع أن يقول إنني " ملكي صادق " ملك " سالم ".
ثم رفع عينيه إلى السماء، مشوشاً قليلاً مما كان يفكّر به لتوّه:
- أنا أدرك أن هذا ليس إلا أباطيل، كما قلت أنت نفسك يا إلهي، لكن الملك العجوز يشعر أحياناً بالحاجة للشعور بالاعتزاز بالنفس.

× × ×

- يالها من بلد غريب إفريقية هذه ! حدّث الشاب نفسه.
كان جالساً في مكان ما يشبه المقهى، وسائر المقاهي التي استطاع رؤيتها، وهو يعبر أزقّة المدينة الضيقة. كان هناك رجال، يدخّنون غليوناً ضخماً يتبادلونه من فم إلى فم.
وخلال عدة ساعات رأى رجالاً يتجولون يداً بيد، ونساء محجبات، ورجال دين يصعدون إلى قمم أبراج عالية، ويؤذنون، بينما كان سائر الناس يركون، ويلطمون رؤوسهم بالأرض.
- إنها ممارسات الكفّار ـ قال في سرّه.
فعندما كان طفلاً، اعتار أن يرى في كنيسة قريته تمثالاً للقديس " جاك الأعظم " ممتطياً حصانه الأبيض، مجرّداً سيفه، واطئاً بقدميه شخصيات مشابهة لهؤلاء الناس.
كان يشعر بالغم والوحدة بشكل مخيف، نظرة تشاؤم، زد على ذلك أنه في غمرة الترحال الطويل قد نسي واحدة من الجزيئات، يمكن لها أن تبعده عن كنزه كثيراً من الوقت: في تلك البلاد يتكلّمون العربية.
اقترب صاحب المقهى، فأشار إليه بإصبعه أن يحضر له مشروباً كان قد رآه يقدّمه لطاولة أخرى، إنه الشاي المرّ، وتمنى لو كان خمراً.
لكن الوقت كان غير مناسب بالتأكيد لأن يشغل باله بمثل هذه الأمور، فأولى به ألا يفكّر الآن إلا بكنزه، والطريقة التي تمكّنه من الحصول عليه، فبيع أغنامه مكّنه من امتلاك مبلغ مهم نسبياً، كان يعلم أن للمال جانبه السحري، فهو يمنح الانسان الشعور بالأمان وبأنه ليس وحيداً تماماً، ومن الممكن أن ينتهي الأمر خلال أيام، ويجد نفسه عند أقدام الأهرامات، فالرجل المسن، وبهذا الذهب اللامع على صدره، ليس بحاجة مطلقاً لأن يروي الأكاذيب كي يحصل على ست غنمات.
لقد حدّثه الملك العجوز عن علامات، وخلال عبور المضيق، فكّر كثيراً بها.
نعم إنه يدرك تماماً عما يتحدّث، فطيلة الوقت الذي كان قضاه في أرياف الأندلس كان معتاداً أن يقرأ على الأرض وفي السماوات المؤشرات المتعلّقة بالدرب التي عليه أن يسلكها، وان طائراً معيّناً على يدل على وجود أفعى بالقرب منه، وشجرة تدل على وجود الماء على بضع كيلومترات من المكان، الأغنام علّمته كل هذه الأشياء.
- الإله هو الذي يهدي الأغنام فعلاً، وهو الذي سيهدي الإنسان ـ قال لنفسه، فشعر بالاطمئنان، وبدا له الشاي أقل مرورة.
- من أنت؟ سمع سؤالاً باللغة الاسبانية.
شعر بارتياح كبير، فهو كان يحلم بعلامات، وهاهو قد ظهر من ينبئ بها.
- كيف لك أن تتكلم الإسبانية؟ سأل الشاب.
كان القادم الجديد، شاباً يرتدي الزي العربي، أما لون بشرته يجعل المرء يحسبه من أبناء المدينة، وكانا يبدوان متقاربين في السن والطول.
- كل الناس هنا يتكلّمون الإسبانية تقريباً، فليس بيننا وبين أسبانية إلا أقل من ساعتين.
- اجلس واطلب لنفسك شيئاً على حسابي، أما أنا فاطلب لي خمراً، فأنا أشمئز من هذا الشاي.
- لايوجد خمر في بلادنا، فالدين يمنعه.
عندئذٍ أخبره الشاب بأن عليه أن يتوجه إلى الأهرامات.
وقد أوشك أن يتحدث عن كنزه، لكنّه فضّل أخيراً ألا يقول شيئاً، فقد كان بمقدور العربي أن يقوده إلى هناك مقابل حصة من الكنز، وتذكر ما كان قد قاله العجوز حول موضوع الاقتراحات.
- أود لو تقودني إلى هناك إن كان هذا ممكناً، أستطيع أن أدفع لك ما تستحقه كدليل.
- هل لديك فكرة عن كيفية الذهاب إلى هناك؟
لاحظ عندئذٍ أن صاحب المقهى كان على مقربة منه، يصغي بانتاه إلى المحادثة، أزعجه حضوره قليلاً، لكن لابأس فقط حظي بدليل ولن يضيّع هذه الفرصه.
- قال القادم الجديد: عليك اجتياز الصحراء الإفريقية الكبرى، وهذا سيتطلب منك المال، فقبل كل شيء أريد أن أعلم إن كنت تملك ما يكفي.
وجد الشاب في سؤال الفتى شيئاً من الفضول، لكنّه كان يثق بالرجل العجوز، الذي قال له أنه عندما يصمم المرء على تحقيق شيء ما، فإن العالم كله يتضافر في صالحه.
سحب نقوده من جيبه، وأراها لرفيقه الجديد، اقترب صاحب المقهى ونظر أيضاً، تبادل الرجلان بضع كلمات باللغة العربية، وبدا صاحب المقهى غاضباً.
- هيّا بنا ـ قال الفتى ـ فهو لايريد بقاءنا هنا.
أحس الشاب بنفسه أكثر اطمئناناً، قام لكي يدفع الحساب، لكن صاحب المقهى أخذه من ذراعه، وراح يملي عليه محاضرة طويلة دون توقف، كان الشاب قوياً لكنه في بلد غريب، أما صاحبه الجديد، فقد دفع صاحب المقهى جانباً وصحبه للخارج.
- إنه يريد مالكَ، فـ " طنجة " ليست كسائر إفريقية، نحن هنا في ميناء، والموانئ تكون دائماً وكراً للصوص.
كان يستطيع أن يثق بصديقه الجديد، الذي هبّ لمساعدته، في الوقت الذي وجد نفسه في موقف صعب، سحب ماله من جيبه وعدّه.
قال الآخر وهو يتناول المال:
- غداً نستطيع الوصول إلى الأهرامات، لكن يجب أن أشتري جملين.
وانطلق الإثنان في أزقّة " طنجة " الضيّقة، وفي كل الزوايا والحنايا، كانت هناك بضائع معروضة على مباسط للبيع، وصلا أخيراً إلى وسط ساحة كبيرة كان يشغلها سوق أسبوعي، آلاف من الأشخاص يتحادثون، يبيعون ويشترون، لم يرفع الشاب نظره عن صديقه الجديد، فهو لم ينسَ أن ماله كلّه صار الآن بين يديه، كان يود لو يستطيع أن يطلب استرجاعه، لكن شعر في قرارة نفسه أن في هذا شيئاً من عدم اللباقة، فهو لم يكن يعرف عادات هذه البلاد العربية التي يطأ أرضها الآن.
- تكفي مراقبه، فهو أقوى منه ـ قال في نفسه.
فجأة، وفي وسط هذه الأكوام من البضائع، وقعت عيناه على أجمل سيف رآه في حياته، غمده من فضة، ومقبضه أسود، مرصّع بالأحجار الكريمة. فعاهد نفسه على أن يشتري هذا السيف عندما يعود من مصر.
قال لصاحبه:
- اسأل التاجر كم سعره؟
وقد لاحظ أنه استغرق ثانيتين من الغفلة فقط وهو يتأمل السلاح، انقبض قلبه كما لو أن صدره تقلّص فجأة، خشي الالتفات حوله، فهو يعلم جيّداً ما الذي ينتظره، وبقي مسمّر العينين في السيف، وأخيراً تسلّح بالشجاعة واستدار، كان كل شيء حوله، السوق، الناس الذين كانوا يروحون ويجيئون، يصرخون، يشترون السجاد، والبندق والخس بجوار أطباق النحاس، والرجال الذين كانوا يسيرون يداً بيد، والنساء المحجبات، والعطور الغريبة، لكن مامن أثر لصديقه، مامن شيء على الإطلاق، لاظل له.
حاول أن يقنع نفسه في بداية الأمر، أنه وصديقه قد ضلاّ بعضهما وغابا عن أبصار بعضهما بعضاً صدفةً، فقرر أن يبقى في مكانه على أمل أن يعود إليه صديقه قريباً.
وبعد وقت قصير صعد رجل إلى أحد تلك الأبراج المشهورة، وبدأ بالآذان، وكل الموجودين جثوا، ولطموا الأرض، بجباههم، وأخذوا يرتلون، ثم بعد ذلك، وكمستعمرة من النمل في غمرة العمل، حزموا يرتلون، ثم بعد ذلك، وكمستعمرة من النمل في غمرة العمل، حزموا بضائعهمو انصرفوا.
راقب الشاب الشمس فترة طويلة، إلى أن اختفت هي أيضاً خلف البيوت البيضاء المحيطة بالساحة، وتخيّل كيف أنه عندما أشرقت عليه ذات صباح كان مايزال على أرض قارة أخرى. كان راعياً، وكان لديه ستون غنمة، وكان على موعد مع الفتاة الشابة، وفي الصباح أثناء تجواله في الأرياف، كان يعلم مايمكن أن يتعرض إليه، والآن ومع الشمس التي تغيب في بلدٍ آخر، يجد نفسه غريباً على أرض غريبة لا يستطيع حتى أن يفهم اللغة التي يتكلمونها.
لم يعد راعياً، ولم يعد يمتلك شيئاً، ولاحتى المال اللازم كي يعود على أعقابه ويستدرك كل شيء.
- حصل كل هذا مابين شروق وغروب الشمس نفسها ـ قال في نفسه ـ راثياً لحاله، مفكّراً بأن الأشياء تتغير أحياناً في الحياة في مدى وجيز لايسمح للمرء أن بالتعود على ما آلت إليه.
كان يخجل من الاستسلام للبكاء، لم يكن قد بكى إطلاقاً أمام أغنامه، لكن ساحة السوق كانت خاوية، وكان هو بعيداً عن وطنه.
بكى وبكى، لأن الإله كان ظالماً، ولأنه يجازي الناس الذين يؤمنون بأحلامهم الخاصة.
- عندما كنت مع أغنامي، كنت سعيداً أشارك بسعادتي كل من يحيطون بي، وكان الناس يرونني قادماً، ويستقبلونني استقبالاً جيداً، أما الآن فأنا حزين وتعيس، ماذا سأفعل؟ سأصبح أشد لؤماً، ولن أثق بأي إنسان كان بعد الآن. هناك شخصاً خانني، وسأكل كل هؤلاء الذين وجدوا كنوزاً مخبأة لأنني لم أجد كنزي، وسأسعى باستمرار لادخار المال الذي املكه، فأنا مازلت ضعيفاً لمواجهة العالم.
فتح جعبته ليتفحّص ماكان لديه فيها، فربما بقي شيء من الوجبة التي كان يأكلها على حافّة القارب، لكنه لم يجد إلا الكتاب الضخم، والمعطف، والحجرين الكريمتين اللتين كان العجوز قد أعطاه.
إياهما، وعند رؤيته لهما اعتمل في صدره شعور بالعزاء، فقد كان دفع مقابلها ست غنمات، إنهما حجران ثمينتان انتزعتا من قلادة ذهبيّة، كان بمقدروه بيعهما وهكذا يستطيع أن يحصل على بطاقة عودته.
- سأصبح من الآن أكثر خبثاً ـ فكّر وهو يستخرج الحجرين ليخبئهما في قعر جيبه، كان في الميناء والشيء الصادق الوحيد الذي قاله ذلك اللص: الميناء يعجّ دائماً باللصوص.
فهم الآن جهود صاحب المقهى اليائسة، فقد كان يحاول أن يقول له بألا يثق بذلك الرجل، أنا ككل الآخرين: أنظر إلى العالم كما أتمنى أن يكون، وليس كما تجري الأمور في الواقع.
بقي يتفحّص الحجرين الثمينتين، داعبهما بلطف وتحسس حرارتهما ونعومتهما، إنهما نزه الوحيد، ومجرّد لمسهما كفيل لأن يزرع في نفسه نوعاً من الشعور بالسكينة فقد كانتا تذكّرانه بالرجل العجوز: " عندما تريد شيئاً بالفعل، فإن الوجود كلّه يتضافر ليهيئ لك الحصول عليه ".
كان يتمنّى لو يفهم كيف يمكن لهذا أن يكون صحيحاً.
الآن يجد نفسه هناك على ساحة سوق مقفرة، لايملك درهماً في جيبه، دون أغنام يحرسها في الليل، أما الحجران فقد كانتا تشكّلان الدليل الذي يثبت أنه قد التقى ملكاً يعرف أسطورته الشخصية، وعلى اطّلاع بما قد فعله بسلاح أبيه، وبتجربته الجنسيّة الأولى.
الحجران تفيدان في التنبؤ وتدعيان " أوريم وتوميم "، أعادهما إلى مكانهما في الجعبة وقرر أن يقوم بالتجربة، فالعجوز كان قد قال له أن عليه طرح أسئلة واضحة، لأن الحجرين لاتفيدان السائل في شيء إن لم يكن يعرف مايريد.
عندئذٍ سأل الشاب إن كانت بركة العجوز ترافقه دائماً، سحب من جيبه واحد من الحجرين فكانت "نعم"، ثم سأل هل سأجد كنزي؟ وضع يده في جيبه ليمسك بواحدة منها، عندها انزلقتا كلتاهما من ثقب موجود في القماش، لم يكن قد لاحظ قط أن جعبته مثقوبة، انحنى ليلتقط أوريم وتوميم، ليعيدهما إلى الكيس، ولكن عند رؤيته لهما على الأرض، مرّت في ذاكرته جملة أخرى: " تعلّم أن تتبع وأن تحترم العلامات "، هذا ماكان قد قاله الملك العجوز أيضاً.
علامة ! وشرع الشاب بالضحك لوحده، ثم التقط الحجرين، أعادهما إلى جعبته الفتوقة، والتي لم يكن لديه أية رغبة في إصلاحها. تستطيع الحجران الهرب من هذا الثقب إن أرادتها، كان قد فهم أن هناك بعض الأشياء التي لايجوز للمرء أن يطلبها كي لايهرب من قدره المحتوم.
- لقد وعدت أن أتخذ قراراتي الخاصة بنفسي ـ قال في نفسه، لكن الحجرين كانتا قد أحبرتاه بأن العجوز كان دائماً إلى جانبه، وهذا الجواب أعاد له الثقة بنفسه. نظر مليّاً من جديد إلى السوق المقفرة، ولم يعد يشعر باليأس الذي كان يعذّبه من قبل، ولم يعد العالم الذي يحيط به عالماً غريباً، بل صار عالماً جديداً، فبعد كل شيء، هذا ماكان يرمي إليه: " معرفة عوالم جديدة، فحتى لو لم يصل إلى أهرامات مصر، فقد ذهب إلى أبعد مما يذهب إليه أي راعٍ آخر ".
- آه ! ليتهم يعلمون أنه بأقل ساعتين من السفر في القارب يوجد الكثير من الأشياء المختلفة ... ـ قال لنفسه.
تبدى العالم الجديد أمام ناظريه على شكل سوق أسبوعية مقفرة، في حين كان قد رأى هذا المكان من قبل يغصّ بالحياة، وهو لن ينساه، تذكّر السيف الذي دفع ثمناً غالياً من أجل تأمله لحظة، وفجأة شعر أن بإمكانه أن ينظر للعالم إما من خلال نظرة ضحية السارق البائسة، أو من خلال نظرة المغامر الذي يسعى وراء كنز.
- إنني مغامر يسعى بحثاً عن كنز ـ فكّر قبل أن يغط منهكاً في نومٍ عميق.

× × ×

أفاق وهو يحس بأن أحداً ما يهزّه من كتفه، كان قد نام وسط ساحة السوق الأسبوعي الذي بدأت تدب فيه الحركة، نظر حوله باحثاً عن أغنامه، لكنّه تنبه إلى أنه الآن في عالمٍ آخر، واستبدل الإحساس بالحزن الذي يكابده بإحساس السعادة، وأصبح بمقدوره الآن الانطلاق، وأن يكد للبحث وراء الطعام والشراب، وصار أكثر إصراراً في البحث عن الكنز، لم يكن لديه درهم في جيبه، لكنّه يملك الإيمان بالحياة، ومساء الأمس اختار أن يكون مغامراً مشابهاً لشخصيات اعتاد أن يقرأ عنها في الكتب.
أخذ يتنزّه على أرض الساحة بتريّث، حيث كان التجار قد أخذوا بنصب براكاتهم، فساعد رجلاً يبيع السكاكر على نصب براكته، وكانت ترتسم على وجه هذا الرجل ابتسامة لامثيل لها، كان جذلاً للغاية، يفيض حبوراً، ومنفتحاً على الحياة، ومستعداً للقاء يوم عمل جيّد.
ابتسامته تذكّر نوعاً ما بالشيخ، ذلك الملك العجوز الغريب، الذي كان قد تعرّف عليه.
- هذا لايصنع الحلوى، لأنه يريد السفر، أو الزواج من ابنة تاجر، كلاّ إنه يصنع السكاكر لأنه يحب هذه المهنة ـ فكّر الشاب ـ ثم لاحظ أنه كان قادراً على فعل مايفعله الشيخ، وهو معرفة إن كان المرء قريباً أو بعيداً عن أسطورته الشخصية.
- هذا سعل مع أنني لم أكن قد تبيّنت ذلك أبداً.
عندما فرغا من تركيب البراكة، قدّم له الرجل ما أعدّ من الحلوى، فأكلها بسرور كبير، ثم شكره وانطلق في طريقه، وبعد أن ابتعد قليلاً عنه رواده التفكير بأن البراكة قد نصبت من قبل شخصين اثنين، أحدهما يتكلّم العربية، والآخر الأسبانية، ومع ذلك كانا متفاهمين.
- توجد لغة فيما وراء الكلمات ـ حدّث نفسه ـ لقد حصلت على هذه الخبرة من قِبَل الأغنام وهاأنذا أتوصّل إلى ذلك مع البشر.
إنه يتعلّم أشياء جديدة ومتنوعة كان قد اختبرها من قبل، ومع ذلك فهي جديدة لأنها قد وجدت مصادفة عبر دربه دون أن يكون قد حسب لها حساباً، هذا لأنه اعتاد على مثل هذه الأشياء.
- لو أستطيع أن اتعلّم فك رموز هذه اللغة التي تتجاوز الكلمات لاستطعتُ فكّ رموز العالم.
- " كل شيء هو شيء واحد وفريد " ، هذا ماقاله الرجل العجوز.
قرر أن يجوب بكل هدوء شوارع " طنجة " الصغيرة، فبهذه الطريقة فقط سينجح بإدراك العلامات، وهذا يتطلّب دون شك قدراً كبيراً من الصبر، لكن الصبر هو الفضيلة الأولى التي يتعلّمها الراعي.
ومرة أخرى فهم كيف يطبّق عمليّاً، في هذا العالم الغريب، الدروس نفسها التي تعلّمها من أغنامه.
- " فكلّ شيء هو شيء واحد وفريد "، كان قد قال الرجل العجوز.

× × ×

رأى تاجر الزجاجيّات شروق الشمس، فأحس بالغم الذي كان يكابده عند مطلع كل صباح، فهو في المكان نفسه منذ مايقارب الثلاثين عاماً، وكان متجره يقع في قمّة طريق منحدرة، ومن النادر مرور زبون واحد من هناك، وقد فات الأوان على التاجر كي يغيّر مهنته، فكل ماكان قد تعلّمه عبر حياته كلّها هو بيع وشراء الزجاجيّات.
جاء وقت صار فيه متجره معروفاً من قِبل كثير من الناس.
تجار عرب، جيولوجيون فرنسيون وإنكليز، وجنودٌ ألمان، وكلّهم لديهم المال الوفير، في حين أن بيع الزجاج في ذلك الوقت كان يشكّل مغامرة كبيرة، وقد تخيّل كيف سيصبح رجلاً غنيّاً، وسيكون عنده تلك االنسوة الجميلات كلهنّ عندما يشيخ.
مضى الوقت بطيئاً، والمدينة على حالها، وازدهرت مدينة " سبتة " أكثر من " طنجة " وأخذت التجارة منحنى آخر، ولم يبق بعد زمن قليل إلا بعض المحلاّت القليلة في المرتفع، ولن يأتي من يتسلّق طريقاً منحدرة من أجل هذه المخازن التعيسة.
أما تاجر الأواني فلم يكن ليملك الخيار، فقد عاش الثلاثين عاماً من عمره في بيع وشراء الزجاجيّات، وصار الوقت متأخراً كي ينخرط باتجاه آخر.
طوال فترة الصباح، كان يراقب الرائحين والغادين القلائل في الطريق الصغيرة، وهذا ماكان يفعله منذ سنوات حتى صار يعرف عادات المارّة فرداً فرداً.
وقبل موعد الغداء بلحظات قليلة توقف شاب غريب أمام واجهة المتجر. كان يرتدي كسائر الناس، لكن تاجر الزجاجيّات اكتشف ببصيرته الثاقبه أنه لم يكن يملك المال.
وعلى الرغم من ذلك، فقد قرر أن يعود إلى متجره وينتظر بضع دقائق حتى ينصرف الشاب.

× × ×

على باب المتجر، كانت قد علقت يافطة تشير إلى أن صاحبه يجيد التكلّم بعدة لغات. لمح الشاب أحدهم يظهر خلف طاولة مبسط السلع، فقال له:
- إنني أستطيع تنظيف هذه المزهريات، ففي هذه الحالة التي هي عليها، فإن أحداً لن يشتريها، هذا إن أردت ذلك.
نظر التاجر دون أن ينبس ببنت شفة.
- بالمقابل، فإنك سوف تعطيني شيئاً آكله، اتفقنا؟
بقي الرجل صامتاً، وفهم الشاب أن عليه أن يتّخذ قراراً. كان معطفه في جعبته، ولم يكن بحاجة إليه في الصحراء، تناوله وأخذ ينظّف به الأواني الزوجاجية، وبعد نصف ساعة كان قد نظّف ماكان يوجد في الواجهة بينما دخل زبونان واشتريا عدداً منها، وعندما فرغ من تنظيفها كلّها، طلب من صاحبها أن يعطيه شيئاً يسد به رمقه.
- هيّا نتغدَّ ـ قال تاجر الزجاجيّات.
علّق لوحة على الباب، وذهبا إلى مقهى صغير في أعلى المرتفع، وبينما كانا جالسين على الطاولة الوحيدة هناك، قال بائع الزجاجيّات مبتسماً:- لم يكن هناك أي داعٍ لتنظيف أي من الزجاجيّات، فالشرع القرآني يرغم على إطعام الجائع كائناً من كان هذا الجائع.
- لكن لماذا تركتني أقوم بهذا العمل؟
- لأن الزجاجيّات كانت متّسخة، وأنت مثلي، كلانا بحاجة لتطهير رأسه من الأفكر السيئة.
عندما فرغا من الطعام، التفت التاجر نحو الشاب:
- أريدك أن تعمل في متجري، فقد دخل اليوم زبونان بينما كنتَ تنظّف الزجاجيّات، إن في ذلك لعلامة حسنة.
- يتكّلم الناس كثيراً عن العلامات ـ فكّر الراعي ـ لكنّهم على الأصح لا يعلمون عمّ يتكلّمون، مثلهم مثلي، أنا الذي لم أكن قد لاحظت أنه طيلة كثير من السنين كنت أتكلّم مع أغنامي لغة دون كلمات.
- هل تريد أن تعمل لدي؟ ألح تاجر الزجاجيّات.
- أستطيع أن أعمل طيلة الوقت المتبقي من اليوم ـ أجاب الشاب ـ سأنظّف حتى طلوع الفجر الزجاجيّات كلّها، بالمقابل يلزمني بعض المال كي أكون غداً في مصر.
فجأة أخذ التاجر بالضحك وقال:
- لو نظّفت زجاجيّاتي طيلة عام بأكمله، أو كسبت عمولة جيّدة لقاء بيع أي قطعة منها، سيلزمك اقتراض المال الكثير كي تذهب حتى مصر، فآلاف الكيلومترات الصحراوية تفصل " طنجة " عن أهرامات مصر.
عندها خيّم فاصل من الصمت، وفجأة بدت معه المدينة غافية، فما عاد يُلمح فيها أي نشاط، وانتهت محادثات التجار فيما بينهم، وآذان الرجال الذين كانوا يصعدون إلى المئذنة قد توقف، ولم يقد يرى تلك السيوف الجميلة ذات المقابض المرصّعة.
لا رجاء، لا مغامرة، لا ملوك كبار لا أساطير شخصيّة، لا كنز ، لا أهرامات بعد الآن، كان يشعر كم لو أن العالم بأسره قد صار أخرس، لأن روحه قد غُلِّفت بالصمت.
لم يبقَ هناك ألم، أو عذاب، أو إخفاق، بكل بساطة لم يكن يملك إلا نظرة جوفاء تعبر باب الحانة ورغبة عارمة في الموت لدى رؤيته كل شيء ينتهي في هذه اللحظة وإلى الأبد.
نظر إليه ذلك التاجر محتاراً، فذلك السرور الذي كان قد لمحه على وجهه في ذاك الصباح قد اختفى فجأة.
- أستطيع أن أعطيك المال كي ترجع إلى بلادك يا بني ـ قال تاجر الزجاجيّات، لكن الشاب بقي صامتاً، ثم نهض، أصلح ثيابه، ولملم جعبته.
- سأعمل عندك ـ قال، ثم أضاف بعد فترة أخرى من الصمت.
- يلزمني المال لشراء بعض الأغنام .
















01-25-2006, 02:10 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
الخيميائي, باولو كويلو - بواسطة قارع الأجراس - 01-25-2006, 02:10 PM
الخيميائي, باولو كويلو - بواسطة إبراهيم - 01-25-2006, 05:53 PM,
الخيميائي, باولو كويلو - بواسطة إبراهيم - 01-25-2006, 05:59 PM,
الخيميائي, باولو كويلو - بواسطة راحيل - 02-08-2006, 05:22 AM,
الخيميائي, باولو كويلو - بواسطة إبراهيم - 02-08-2006, 07:43 AM,

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  ألف - روية باولو كويلو الجديدة للتحميل . ali alik 4 3,421 01-17-2012, 05:02 AM
آخر رد: ali alik
  جديد باولو كويلو الرابح يبقى وحيدا,تفسير الأحلام نسخة كاملة 672 ص .ومجموعة كتب هامة ali alik 3 3,153 07-05-2010, 01:09 PM
آخر رد: ali alik
  11 دقيقة " رائعة باولو أكويليو " اميريشو 17 4,434 10-07-2008, 12:23 AM
آخر رد: abdelrahman zahran
  رواية الخيميائي - اهداء لمن لم يقرأها, لـ باولو كويلو ابن نجد 3 1,620 12-09-2006, 03:12 PM
آخر رد: ابن نجد
  باولو كويلو - مواطن عالمي 25 3,600 06-17-2006, 11:20 PM
آخر رد: Al gadeer

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS