اقتباس:*من قصيدة الشاعر الإغريقي الجوال ( كسينوفان ) .
لا تكشف الآلهة منذ البداية
كل الأشياء لنا و لكن بمرور الوقت
ومن خلال البحث قد نتعلم و نعرف الأشياء بصورة أفضل
و بالحدس نرى أن هاتيك الأشياء تماثل الحقيقة
أما عن الحقيقة اليقينية فلا إنسان يعرفها
ولن يعرفها إنسان ولا أحد من الآلهة
ولن يعرف كل الأشياء التي نتحدث عنها
و حتى إذا تفوه أحد مصادفة
بالحقيقة النهائية ، فإنه هو نفسه لن يعرف هذا .

الأخوة و الأصدقاء .
تحياتي و عرفاني .
ما هو السبيل إلى الليبرالية ،و التي تعني في حالتنا تحديدا ما يعرف بالحداثة ؟.
اسمحوا لي أن أوجز الأفكار المطروحة في هذه الفرعية الهامة . بداية أرى أننا جميعا متفقون أن الليبرالية لن تكون أبدا منتجا طبيعيا للثقافة العربية بل أن هذه الثقافة ذات طبيعة مفارقة للرؤية الليبرالية . عند مناقشة السبل لتوطين الفكر الليبرالي الضروري للتنمية وجدنا تنوعا في الطرح . في مداخلة موحية يرى محارب النور أن السبيل هو في الصدفة البحتة و الحظوظ السعيدة ،وهي رؤية أراها مبتكرة غير مألوفة ،و لعل هذا سحرها الخاص . يرى فرعون مصر أنها مشكلة ثقافية بالأساس تحتاج ثورة ثقافية قبل أن نفكر في التنمية والتقدم وهى ثورة لابد لها أن تبدأ بالإصلاح الديني لتحرير الأفكار وهو ما حدث فى أوروبا ليظهر مفكرين وفلاسفة ليقودوا الأفكار ويسوغوا النظريات وتحرير العقول ليسهل عليها اعتناق الأفكار والمذاهب التي تؤدى للتنمية والتقدم. في المقابل يقدم وليد مداخلة شيقة للغاية يرى خلالها أن السبب في تطور شعوب دون أخرى هو ببساطة في إمكان تغيير أو تطوير المرجعية المعرفية لمجتمعات ما نظرا لطبيعة أو لمرونة هذه المرجعيات - إلى مرجعيات علمية.أما الحال الآخر فهو تصلب و تيبس المرجعيات المعرفية للمجتمعات الفاشلة - و المهددة بالإنقراض - عن مجرد التطور و تبني مرجعية علمي و هذا لتناقضها الصريح و الشديد معها، و يصل في النهاية إلى نتيجة أن الحل هو الصدام المباشر مع المرجعية الدينية - و ليس محاولات تدليسية محكوم عليها بالفشل عند أول صدام لتبني قيم و أخلاق هي نتائج لمنظومة معرفية مناقضة.
أستكمل عرض وجهة نظري إذا .
1- ليس من المجدي أن ننتظر تفعيل عملية تاريخية تؤدي إلى انتصار الفكر الليبرالي بشكل أشبه بالحتميات التاريخية ، فالتاريخ كما نعلم لا يسير على قضبان ولا يمكن التنبؤ به و انتظار نتائجه كما يفعل الراعي مع سقوط المطر ، فنحن الذين نصنع التاريخ وهو لن يعمل أبدا دوننا .
2- لابد من فرض الأفكار الليبرالية أو فلتقل الحداثة فرضا على المجتمع فهذا أشبه بإجبار مريض يحتضر على تناول الدواء الذي يتدلل و يرفضه لأنه يجده مرا و لأن أمه لم تتناوله من قبل وهي تموت .
3- هذا يقودنا إلى أسئلة منطقية وهي :
أ . من سيغري المريض بتناول الدواء أو حتى يجبره على ذلك ؟.
ب . كيف سيفعل ذلك ؟.
على عكس التسلسل المنطقي أرى أن نبدأ بكيف يمكن أن نحدث التغير و بناء على ذلك نحدد من يمكن أن يقوم بذلك .
أريد أن أطرح بديلين على أن نفكر فيهما سويا ، البديل الأول هو البديل الإصلاحي و يمكن أن نطلق عليه البديل الياباني و البديل الثاني هو البديل التصادمي و يمكن أن نطلق عليه البديل الفرنسي أو التركي .
لنبدأ بالبديل الإصلاحي و الذي يبدوا أنه الأنجح في الشعوب القديمة ذات التراكمات الثقافية الخاصة .
في البداية لا بد أن أقول أن هناك خطأ فكري شائع بين المثقفين العرب بل و المسلمين ، وهو الخلط بين التحديث و الحداثة . إن التحديث modernization هي عملية تاريخية لتغيير المجتمع ليتوافق مع العصر و متطلباته ، وبالتالي هي صيرورة لا تتوقف منذ انطلاقتها الأولى ،و لكنها كثيرا ما تنقلب في عالمنا العربي إلى عملية تغريب westernization ، و الاكتفاء بنقل الأفكار الجاهزة عن الغرب تحديدا وزراعتها في بيئة غير مستعدة لتقبلها . هناك من يعتقد أنها قرين الحداثة modernity : و هي الفكر النظري أو المقولات العلمية و الفلسفية التي تحكم عملية التحديث ، كما هي أيضا آليات تلك العملية .إن الحداثة تعني أيضا الحفاظ على الذات وعدم السقوط في النقل الآلي المؤدي إلى فقدان الهوية و التخبط الثقافي ، و تبديد الموارد في شكليات لا جدوى حقيقية منها . و بعبارة أخرى أصبح هناك اعتقاد أن التغريب ملازم للتحضر ، وأنهما وجهان لعملة واحدة ، ولو ترجمنا ذلك لقلنا أن موسيقى الجاز أو سلسلة محلات الوجبات السريعة مثلا هي الوجه الآخر لنظرية النسبية و تكنولوجيا إنتاج الصواريخ أو السيارات الحديثة ، و أن الشرائح العربية التي تحاكى المجتمعات الأوروبية في أنماط معيشتها و طعامها و موسيقاها و سلوكها الجنسي و أزيائها ، هي أقرب للحضارة من الشرائح التي لا تفعل ذلك . و لكن التجربة التاريخية تدحض هذه المقولة ،و تثبت أن العكس هو الصحيح .وسوف أستمد من تجربة اليابان من جانب و تجربة مصر و تركيا ( العثمانية ) من جانب آخر ما يؤكد قضيتي .
إن مصر و الدولة العثمانية وروسيا و اليابان و غيرها خضعت لعملية تحديث خلال القرن التاسع عشر تحت ضغط مباشر من الثورة الصناعية و التكنولوجيا الحديثة التي كانت تمتلكها بعض الدول الأوروبية فقط ، إلا أن اليابان وحدها نجحت في الرد على التحدي الحضاري الغربي بأسلحة التحديث الغربي ، عبر استيعابها و تطويرها ، بحيث تحولت اليابان ذاتها إلى إحدى الدول الإمبريالية . فما هو السبب في ذلك ؟
إن التفسير الذي يقدمه الباحثون اليابانيون أنفسهم لمعجزة بلادهم جدير بالاهتمام و الفحص . فقد دلت التجربة أن عملية التحديث التي يراد بها إدخال العلوم الحديثة و التكنولوجيا إلى البلدان الأخرى لا يمكن أن تنجح إلا بمقدار ملاءمتها للمجتمعات التي تنقل إليها ، و حفاظها على تراث تلك المجتمعات الثقافي . لقد نجحت اليابان لأنها لم تتخل عن تراثها الثقافي التقليدي ، ،ولم تتبن أيا من المبادئ الغربية لتجعلها قواعد ثابتة في الحياة اليابانية .لقد استوعبت اليابان المقولات الفلسفية و النظم الغربية التي صنعت حضارة الغرب ،و لكنها عند التطبيق لم تتبنها كما هي بل اختارت منها فقط ما يتلاءم مع مكونات المجتمع الياباني ، وهكذا حافظت اليابان على استمرارية المبادئ الروحية إبان عملية التحديث ، و بناء الدعائم المادية للمجتمع الياباني على قاعدة الاستفادة الدائمة من العلوم العصرية . . إن الثقافة التراثية هي التي تحدد ملامح الثقافة القومية لأي شعب من الشعوب ، وقد يكون التراث حافزا على الحداثة أو معوقا قويا لها (وقد ظهر لنا بالفعل أن التراث الإسلامي المتداول قد يكون المعوق الأكبر للحداثة) . إن ذلك يتطلب تواجد استراتيجية طويلة الأمد للتعامل مع التراث بهدف تطوير الجوانب الإيجابية فيه و تأصيلها ،وفي الوقت نفسه عزل الجوانب السلبية و تهميشها ، و ذلك بالقطع لا يعني عزل التراث كله و إلغائه أو القفز عليه .
إن المصلحين اليابانيين أولوا التراث عنايتهم الكبرى إبان عملية التحديث ، و رفضوا التحديث الذي يقود إلى التفريط بالثقافة التراثية باعتباره نوعا من التغريب لا يقود أبدا إلى الحداثة الحقيقية ، وتعرف هذه النظرية في الثقافة اليابانية ب the nihonjinron school .
على النقيض من ذلك فكثيرا ما تبالغ القوى التسلطية في البلدان العربية في استيراد منتجات الحضارة مباشرة ، مثل الأسلحة و التكنولوجيا في شكلها النهائي كالسيارات أو الملابس و العطور ، بل و مظاهر الحياة السياسية مثل البرلمانات ( بدون آلية ديمقراطية ) ،و هناك شرائح عربية بالكامل تحدث نفسها عن طريق التقليد الحرفي لمفردات الحياة الغربية ، سواء كانت بلادها مستقلة أو خاضعة للاحتلال ، و هذا يذكرنا بقول ابن خلدون الشهير ( تشبه المغلوب بالغالب ) .و يعتمد هذا التحديث السلبي على استنساخ كل ما هو جاهز لدى الغير من أفكار و أدوات عصرية ، بينما تمول الطبقات الأكثر فقرا ذلك الهوس التحديثي من قوتها و فرصها في اللحاق بركب الحضارة . إن هذه الآلية التي تعتمد التحديث بديلا عن الحداثة ، أسوأ أشكال التخلف لأنها لا تضييف شيئا حقيقيا لفرص التحضر ، بينما تمول نفسها كأعلى مستويات التحضر !.إن ذلك أشبه بزراعة نباتات صناعية معتقدين أنها ستزهر يوما ما !.
هكذا نجد أن التمسك بالقيم التراثية الإيجابية و تعميقها ، ليس فقط ضرورة حياتية للمجتمع ، كي ينمو بشكل متوازن ومتسق مع ذاته ، و ألا يضيع في عالم لا يلائمه و بلا ضرورة حقيقية ، بل بالأساس كضرورة عضوية لنجاح عملية الحداثة ، و المساهمة الفعالة في حضارة العصر .
إنني أرى أن لكل حضارة كبرى مثل الحضارة الغربية / الكونية المعاصرة منتجات رئيسية main products و منتجات ثانوية by- products ،و الأخيرة مثل أي تفاعل ضخم تكون حتمية غالبا و تظهر بشكل غير مقصود ،و قد تكون ضارة و يجب التخلص منها .
إن تلك المنتجات الرئيسية هي التي يجب الحصول عليها بشكل ملح ، كي نتحضر أو نصل إلى ما أطلقنا عليه الحداثة ، و لا يجب أن نتردد في دفع الثمن الضروري لذلك لأن التحدي هو الوجود ذاته ، بل ما هو أهم من الوجود ، كيفية هذا الوجود . أما ما غير ذلك فهي عناصر أو منتجات ثانوية يجب أن نأخذ منها ما يتلائم مع تراثنا و قيمنا ، ونرفض ما غير ذلك .
عناصر الحضارة :
في تصوري أننا يمكننا تحديد العناصر الأساسية للحضارة المعاصرة في :
1- العلوم . بالمقياس الحضاري الدقيق ، و بذلك نخرج منها كل ما هو حدس أو تخمين أو علوم نقلية ، بل إن كل ما لا يقبل النقد ليس علما . إن كل ما يقع في مجال الطبيعة ( الفيزيقا ) يخضع فقط للعلم ،و يجب تقبل تلك الحقيقة بلا جدال عقيم .
2- التكنولوجيا : و هي التطبيق المادي لقوانين الطبيعة ، إنها فقط التي تتيح للإنسان فرصة أن يظل إنسانا حرا غير مستعبد .
3- إدارة الوقت و ما يعنيه ذلك من الإنتاج الغزير : إن الحضارة ليست فقط أن تنتج بل أن تنتج أعلى إنتاج ممكن ، إنها تحقيق ما يمكن أن نطلق عليه المستوى الأمثل optimizing .
4- الحرية الليبرالية : إننا لا يمكن أن نتحضر في حضارة هذا العصر بدون الحرية ، و هذا يعني أننا لا بد أن نقبل أن تأتي باقي القيم خلف قيمة الحرية ، فلا يمكننا أن نعاقب تارك دينه أو من يبدي رأيا ، لأن قيمة الحرية تتفاضل عن أي قيمة أخرى ، لأنها أصبحت شرط حضارة أي شرط بقاء .إن الحريات محددة بميثاق الأمم المتحدة ولا تحتاج لمناقشة .
5- الفنون الراقية : كالسيمفونيات و التصوير و النحت و الباليه و .....الخ ربما يرى البعض أن ذلك عنصر خلافي ،و لكني أرى الفنون هي روح الحضارة و المعبر الحقيقي عن جوهرها .
6- العدل : وهو قيمة إسلامية بالأساس ، و رغم أن الحضارة الغربية تفتقد تلك القيمة ، إلا انه لا يمكن للمسلم ( دينا أو ثقافة ) تصور حضارة بدون العدل . إن تلك القيمة تمنعنا من احتلال شعبا لمجرد أنه أضعف منا ،أو نمارس التفرقة العرقية مثلا .
أما تلك المنتجات ثانوية فهي عديدة مثل الاستعمار و الاستغلال و الجريمة والمخدرات و الانحراف الخلقي و تفسخ الأسر و الموسيقى الخليعة ...و الفنون الإباحية ... الخ . استوعبت اليابان المنتجات الرئيسية و عزلتها عن المنتجات الثانوية ، فحافظت على كيانها القومي و تسلحت بالقوة المادية ، بينما أقبلنا نحن على المنتجات الثانوية فقط معتقدين أنها حضارة الغرب ، لقد تغربنا دون أن نتحضر فأصبحنا كالقرد أبو قبعة لا هو قرد و لا إنسان !..

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	الحل الثالث : الليبرالية الاجتماعية	الجواهري	0	480	09-10-2013, 02:45 PM آخر رد: الجواهري
	إشكالية القانون الديني والقانون المدني في العالم العربي	رائد قاسم	0	854	09-29-2012, 01:05 PM آخر رد: رائد قاسم
	مستقبل الدين في عالم ليبرالي .	بهجت	69	17,019	08-22-2012, 02:15 PM آخر رد: بهجت
	الديمقراطية وعوائقها في العالم العربي	الكندي	11	1,912	05-26-2012, 03:10 AM آخر رد: الكندي
	إعلان السابع من مايو “يوم الليبرالية” الأول في السعودية ..	بسام الخوري	1	749	05-08-2012, 02:32 AM آخر رد: بسام الخوري