السيد المحترم / بهجت

إسمح لي سيادتكم أولا بتلخيص ما توصل إليه غالبية مشاركي هذا الشريط و اتفقوا عليه (بعضها إقتباسا بإسلوب أصحابها) توفيرا على القارئ الرجوع للمداخلات السابقة و تكثيفا للنتائج السابقة لإعتبارها مقدمات ما يلي طرحه.
ملخص النتائج التي توصل لها المشاركين:

1- الليبرالية هي السبيل الوحيد للتنمية بالعصر الحالي بل و الطريق الوحيد للبقاء و لا يوجد أي سبيل آخر.
2- الليبرالية ليست نظام يمكن تطبيقه على أي بيئة ثقافية بل أنها نتيجة لخلفية ثقافية و معرفية معينة و تنشأ كمناخ عام للحرية الفكرية و الروحية - و لتبني العلم كمهج معرفي.
3- الليبرالية ليست حتمية ، بمعنى أن هناك شعوب لن تستطيع استيعابها أبدا ،و بالتالي لن تتقدم بشكل حقيقي و ستتعرض للفناء المادي أو الثقافي على الأقل و بالتالي ليس من المجدي أن ننتظر تفعيل عملية تاريخية تؤدي إلى انتصار الفكر الليبرالي بشكل أشبه بالحتميات التاريخية - لابد من فرض الأفكار الليبرالية أو فلتقل الحداثة فرضا على المجتمع.
4- العناصر الأساسية للحضارة المعاصرة: العلم و التكنولوجيا - الحرية - الفنون.

و بعد هذا الإتفاق حان وقت طرح طرح التساؤل:

كيف يمكن تبني المنظومة الليبرالية بمجتمعاتنا العربية و ما هي الخطوات و هل توجد بدائل؟

تفضلتم سيادتكم بطرح بديلين:
1- الإصلاحي. و ضربتم عليه المثل الياباني.
2- التصادمي. و ضربتم عليه المثلين الفرنسي و التركي.

و تبنيتم سيادتكم الأسلوب الإصلاحي ثم اقترحتم منهجا إنتقائيا يقضي بالآتي:

1- إستيعاب المقولات الفلسفية و النظم الغربية التي صنعت حضارة الغرب ،و لكن عند التطبيق عدم تبنيها كما هي بل اخنيار منها فقط ما يتلاءم مع مكونات المجتمع.
2- تواجد استراتيجية طويلة الأمد للتعامل مع التراث بهدف تطوير الجوانب الإيجابية فيه و تأصيلها ،وفي الوقت نفسه عزل الجوانب السلبية و تهميشها ، و ذلك بالقطع لا يعني عزل التراث كله و إلغائه أو القفز عليه .
و هذا مع تسليمكم بالفعل أن التراث الإسلامي المتداول قد يكون المعوق الأكبر للحداثة.
3- قسمتم سيادتكم الحضارة لمنتجات رئيسية main products و منتجات ثانوية by- products و اقترحتم إن تلك المنتجات الرئيسية هي التي يجب الحصول عليها بشكل ملح أما ما غير ذلك فهي عناصر أو منتجات ثانوية يجب أن نأخذ منها ما يتلائم مع تراثنا و قيمنا ، ونرفض ما غير ذلك .
4- حددتم سيادتكم المنتجات الرئيسية بالعلم و التكنولوجيا و إدارة الوقت و الإنتاج - و الحرية الليبرالية - و الفنون الراقية - و العدل. ثم ضربتم المثل على المنتجات الضارة:الاستعمار و الاستغلال و الجريمة والمخدرات و الانحراف الخلقي و تفسخ الأسر و الموسيقى الخليعة ...و الفنون الإباحية ... الخ.

و الآن فلتسمح لي سيادتكم بمناقشة وجهة نظركم.

أختلف مع سيادتكم بإمكان الإختيار ما بين البديلين الإصلاحي و التصادمي. و أعتقد أن كل أسلوب يفرض نفسه حسب المجتمع الراغب بتبني الليبرالية.
أعتقد أن الإختيار رفاهية لا نملكها. فكما إتفقنا فالليبرالية نتيجة و ليست منهج قابل للتطبيق. و وجهة نظري مبنية على مبدأ أن المرجعية العلمية هي الشرط الأساسي لبداية تبني المنظومة الليبرالية.
الدول التي تتبنى المناهج الإصلاحية - هي بالضرورة دول ذات مرجعيات معرفية و ثقافية لا تتعارض مع المرجعية العلمية و نفس هذا يطبق على مثال اليابان - و بالتالي فلا يوجد ما يدعوا للتصادم و إذا وجد فأعتقد أنه على مستويات سلوكية و أخلاقية مرنة و قابلة للتغيير السلمي.
و على عكس ذلك فرض أسلوب التصادم نفسه على الحالة التركية حيث المرجعية الدينية الإسلامية غير القابلة للتطور نهائيا. أما عن مثال فرنسا فأعتقد أنه يختلف عن المثل التركي - فقيم و أخلاق العلم كانت قد انتشرت و توطدت بالفعل بالمجتمع و التصادم كان طبقي أكثر منه ثقافي على عكس تركيا.

و لتسمح لي سيادتكم بالإختلاف مع الأسلوب الإنتقائي على المستويين المعرفي ثم الأخلاقي - و قبلها سوف أختلف مع سيادتكم بالتقسيم الذي فرضتموه كمنتجات للحضارة.
افترضتم سيادتكم أن العلم و التكنولوجيا و حسن إدارة الوقت و الحرية و الفنون الجميلة هي من منتجات الحضارة.
و أعتقد أن المظاهر السابقة لا يمكن أن تجمع في سلة واحدة كمنتجات - فالعلم سبب أساسي و شرط تأهيلي للمنظومة الليبرالية التي لا وجود لها بدون مرجعية تتبنى التفكير العلمي - ثم و بعد أن ينحو المجتمع نحوا ليبراليا تصبح البيئة أكثر إنتاجا للعلوم و التكنولوجيا - و ليس العكس.
الحرية ققيمة أخلاقية ثم قانونية هي ناتج مباشر للتفكير العلمي - و نتيجة حتمية لتبني مرجعية العلم - و بالثنائي المتلاحم العلم / الحرية
يبدأ تكوين مجتمع ليبرالي و الحالة المعكوسة غير ممكنة.
أما قيم العدل و حسن الإدارة (قيم أخلاقية) - و الفنون فهي جميعا منتجات حضارية.

و بنفس المنطق ندفع بإنعدام إمكان تبني أسلوب إنتقائي للقيم الأخلاقية و لا الفنون - كونها نتائج و ليس إختيارات.

أعتقد أنه بداية من تبني الأسلوب العلمي و الحرية تباعا ققيمة أولية (تصادميا في مجتمعات أو إصلاحيا بأخرى) يحدث تفاعل جدلي غير محدد النتائج و غير إنتقائي لإنتاج منظومة أخلاقية جديدة - و تسقط بالضرورة قيم أخلاقية سابقة لن يمكن الإبقاء عليها.
و بنفس المنطق السابق لن يكون بالإمكان تفادي ما نراه قيما سلبية في وقتنا الحاضر.
و كمثال على ما نراه من قيم سلبية - الحرية الجنسية مثلا - و لكن أليست الحرية لا تتجزأ ؟؟ أما عن الموسيقى فلا فن بدون حرية مطلقة و ما يطلق عليه الآباء موسيقى خليعة يطلق عليه الأبناء فن.
أما الإستعمار و الإستغلال فهي ليست منتجات ليبرالية - فالديموقراطيات لا تتحارب - بل أعتقد أنها مرتيطة أكثر بالتخلف.

يبقى موضوع الإبقاء على المنظومة الأخلاقية و التراثية للمجتمعات الراغبة بالتطور - و أعتبر أيضا أن هذا الطرح غير انتقائي و يتوقف على طبيعة هذا التراث.
و أجزم أنه في حالتنا لا يمكن بحال الإنتقاء. - الدين الإسلامي مرجعية متكاملة - معرفية و أخلاقية - و غير قابل للتجديد أو التطوير عمليا بأي حال.
و للتوضيح فالنصوص الإسلامية شديدة الوضوح و غير قابلة للتأويل - و أي محاولة لنقد الخطاب الديني و لو على مستوى القواعد السلوكية و الأخلاقية - ستصطدم حتما بالمرجعية كلها.و على مستوى البناء الإسلامي كله.
و كمثال طبيعة النظرة للمرأة و الطاعة و الجهاد و غيرها من أساسات أخلاق المجتمع الإسلامي - ناهيك عن التفسيرات الكونية و لظواهر الطبيعة على المستوى المعرفي.
لا يمكن الجزم بحال بشكل و لا طبيعة القيم الأخلاقية الجديدة للمجتمع بعد هذا الصدام - ناهيك عن المحاولات الإنتقائية.

و دعنا نسأل أنفسنا: لماذا هذا التخوف من فقد الهوية؟؟ و ما هي هويتنا أصلا؟؟ إذا كان وجودنا المادي على المحك؟؟

إذا كانت هويتنا هي أولا الوجود المادي - ثم مرجعيتنا المعرفية - الأخلاقية و تراثنا.
و إذا كان وجودنا المادي مربوط بإمكان تبنينا منظومة ليبرالية علمية تناقض بالضرورة باقي مقومات هويتنا - فعلى ماذا نخشى؟ و لماذا لا يكون لنا هوية أفضل؟

يا سيدي إن العلم و الحرية طوفان إذا انطلق فلا راد له و لن يمكن تحديد مساره و اتجاهاته ناهيك عن إنتقائها.- لكن بكل الأحوال هي خير من الإنقراض.