دعنا نبدأ بالمصطلح "الفلسفة"

و بغض النظر عن محاولة تعريف الكلمة - دعنا نبحث فيما دلت عليه الكلمة و ما شمله مصطلح "الفلسقة" من مجالات بحث على مر العصور.

كما تفضل السيد philalethist بالذكر - ففي بداية ما نعلم من تاريخ الفلسفة - كان المصطلح شديد الإتساع يشمل مجالات بحث عديدة - منها الطب و الفلك و المنطق و الرياضة و الإجتماع و النفس بالإضافة لمباحث الأنطولوجي و الميتافيزيقا.

و كان لقب فيلسوف يعني الإشتغال ببعض أو كل المباحث السابقة أو على الأقل محاولات تفسيره و تقنينه.

بالطبع كانت كل المباحث السابقة مختلطة في نسيج واحد - من الصعب فصله إلى عناصره الأولية - التي في النهاية تعكس وجهة نظر الباحث الشاملة للحياة و الوجود.

و بالرغم من نشأة و تطور العلوم الصورية (المنطق و الرياضة) بتلك الحقبة بشكل يعتمد عليه للآن بنسبة كبيرة و بنسبة أخطاء قليلة - إلا أنه على العكس من ذلك جاءت نتائج العلوم التجريبية (الفيزياء - الكيمياء - الأحياء ...إلخ).

على عكس العلوم الصورية التي تستمد يقينها من نفسها (لأنها تعتبر البنية التحتية للعقل الإنساني و الطريقة التي يفكر بها) - فالعلوم التجريبية موضوعها خارج العقل الإنساني - في الطبيعة من حوله - و لا يمكن أن تستمد يقينها من العقل الإنساني وحده.

المسألة بالعلوم الطبيعية أشد تعقيدا:
- فأنت تبدأ من الطبيعة بمشاهدة الظاهرة
- ثم لتفسير تلك الظاهرة الطبيعية فأنت تضع تصورك العقلي لها من حيث السبب أو توقع السلوك - أو غيره حسب الظاهرة مما يسمى بالفروض
- مع استخدام العلوم الصورية و قوانينها - كأطر و قوالب فارغة موجودة مسبقا بالعقل الإنساني - فتصل لما يسمى بالقانون.
- ثم ترجع للطبيعة ثانية لتقرر خطأ أو صواب تصورك و القوانين التي وضعتها عن تلك الظاهرة.

الخطوة الأخيرة - و الأخيرة فقط - تقرر يقين العلوم الطبيعية. و هي إمكانية التفسير أو القانون أو النظرية للنفي/الإثبات. أو بإختصار قابليتها للنقد المتبادل.

و صفة "المتبادل" ليست زائدة - فهي تعبر عن إمكان تبادل تلك الخبرات - تجارب للنفي أو للإثبات - بين البشر.

يمكن تطبيق ما سبق على أمثلة:
- في العلوم الصورية (1+1=2) و (حق أو باطل=حق) قضايا صحيحة - و تستمد صحتها من نفسها. و لا يوجد ما يبرر إثباتها أو غيره.
- في العلوم التجريبية: (الجو شديد الحرارة - لابد أن درجة الحرارة 40 مئوية) - القضية أو النظرية السابقة لا يمكن أن تستمد صحتها من عدمه إلا من الخارج - و بواسطة تجربة - و شرط هذه التجربة أن يمكن لأي إنسان أن يقوم بها (متبادلة).

- و الآن القضية: (الجو شديد الحرارة - لابد أن الله غاضب أو لا بد أن أبواب الجحيم مفتوحة ...إلخ) - هنا ترافق تفسير الظاهرة العقلي مع مفاهيم ميتافيزيقية عقلية خالصة أيضا و فقدت شرط التجريب المتبادل - و بالتالي لا يمكن إثبات أو نفي صحتها.

من هذا الخلط جاءت تفاسير و نتائج و نظريات الطبيعة لدى قدامى الفلاسفة غير مطابقة للواقع و لا يعتمد عليها.

كانت الفلسفة هي أول من طرح لماذا - و حاولت الإجابة.

مع الوقت و (المحاولة و الخطأ ) تبين سقوط تلك التفاسير - و بدأت تلك المباحث التي تهتم بالطبيعة تنفصل - مكونة و مطورة لمنهجها الخاص.

بداية من هنا فقد المصطلح "فلسفة" العديد من مجالات البحث التي كان يضمها (لا يمنع طبعا أن شخص واحد ممكن أن يكون باحث بمجال علمي + فلسفي و الأمثلة كثيرة - لكن كل مبحث منفصل عن الآخر من جميع الجوانب).
و لم يعد الفيلسوف يفسر (أو حتى يجرؤ) من عنده الظواهر الطبيعية - و لم تعد كلمة فيلسوف تطلق على الكيميائي و لا الطبيب أو غيره.

بل أن حتى العلوم الصورية أخذت طريقها المنفصل و مباحثها المنفصلة عن الفلسفة.

إنفصال العلوم عن الفلسفة كان بداية لنهايتها.

و الآن - ماذا بقى للفلسفة بعد إنفصال العلوم؟؟
يتبع ،،،