الإطار الأول: التحول من الإطار التراثي النصي إلى الإطار الحداثي العقلاني بشكل تدريجي و لكن منهجي . و فيه تقوم شريحة متنورة من المجتمع بوضع منهج و آليات لهذا الإنتقال التدريجي - و ما يتماشى معه من التغيير التدريجي في القوانين و الدساتير و الحريات و العلاقات الإجتماعية و الإقصادية ...إلخ. و تباعا ستكون هذه الشريحة إما في مركز الحكم أو مدعومة دعما مباشرا من الحكومة.

قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا الإطار يمثل أنسب و أسلم طريقة للتحول الليبرالي بأي مجتمع.
و لو قدر الخيار لأي عاقل لاختار هذا الإطار بدون تفكير - و لكن هل قدر لنا الخيار؟ و هل لو رجعنا لمعطيات الواقع يظل هذا الخيار ممكنا ناهيك عن كونه الأفضل؟
أعتقد بإستحالة هذا الإنتقال الهادئ من كلا الناحيتين: الإجرائية و النظرية.

فمن الناحية الإجرائية: لا بد من وجود شريحة ليبرالية متماسكة - في مركز الحكم - أو مدعومة منه.
تلك الشريحة غير موجودة - قياسا نسبي و ليس مطلق - فنحن نتحدث عن شعوبا تسود فيه الأمية بمعناها الحرفي بنسب أسطورية - و أنصاف المتعلمين فيه أخطر من الجهال.
و هذا غير كون المصطلح "الليبرالي" (كما بين السيد بهجت) يعبر عندنا عن أطياف واسعة من الأفكار و الإتجاهات لدرجة أنه من الممكن أن يطلق على مؤيد لحكم الإخوان المسلمين.
فتلك الشريحة (منعدمة الوزن النسبي) إن وجدت فهي غير متماسكة.
و لنفرض جدلا بوجود شريحة إجتماعية ليبرالية متماسكة - فهل هي مؤثرة في هذه المجتمعات؟ أعتقد لا.
و لو أخذنا مثال مصر بوصفها من أكثر هذه المجتمعات إنفتاحا و أيضا لوجود نسبة لا بأس بها من غير المسلمين لوجدت الليبراليين بلا صوت يذكر و بلا كيانات (إلا إذا ذكرنا الأحزاب التي تكاد تكون كوميديا) - و أعتقد أن بائع دواجن ملتحي يؤثر على مجتمعه أكثر من جميع تلك الأحزاب مجتمعة (حدث بالفعل في حي إمبابة بمدينة الجيزة).
و لنكن أكثر تفاؤلا بقولنا أن الأمل في هذه الشريحة الصغيرة أن تغير هذه الجماهير الغفيرة - و هذا بدعم مباشر ممن هم على كراسي الحكم. هل هذا ممكن؟
الحكم في بلادنا فاسد و فاقد للشرعية بكل معانيها - سواء علىالمستوى الدولي أو داخليا - وهو في نزعه الأخير كل ما يمكن أن يفكر فيه هو إطالة مدة حكمه و بالتالي فآخر خياراته أن يدعم الليبراليين في مواجهة المد الأصولي المدعوم شعبيا. ناهيك عن كون الليبرالية رجس من عمل الشيطان في وجهة نظر هذا الحكم الفاسد أيضا - نظرا لتعارضها مع فساده و إستبداده - مثل ما هي في وجهة نظر المد الإسلامي.

و دعنا نتفاءل أكثر لدرجة خيالية و نفترض بدعم مباشر من الحكومات أو الجيش (تمثلا بتركيا) للشريحة الليبرالية و أن تلك الشريحة بعد إستلامها مقاليد الحكم بدأت خطتها على الواقع في التحول من الإطار التراثي النصي إلى الإطار الحداثي العقلاني بشكل تدريجي. و هذا على كافة المستويات - القوانين و الدستور و التعليم و العلاقات الإقتصادية و الإعلام الرسمي و الحريات ....إلخ.
من الناحية النظرية هذا الإنتقال التدريجي مستحيل. على مستوى الواقع سيصطدم أي تغيير منشود مع العقلية الدينية بالضرورة - و هذا ببساطة لتعارض الفكر و التوجه الليبرالي (مبادئه و نتائجه) مع المعلوم من الدين بالضرورة.
لا مجال هنا للتلفيق و الإلتفاف على النصوص - فهذا هو ما حدث منذ قرن من الزمان و أوصلنا لحالة الجمود الماسخ الذي نحن فيه.
مجرد فكرة الدستور و القوانين المدنية هي مخالفة للدين. و لو تخيل أي منا أنه في وضع تقنين جديد للمجتمع (بغرض التمهيد للتحول المنشود) لاصطدم بالدين مع أول حرف يسطره قلمه.

بالرغم من رومانسية هذا الإطار - إلا أنه يستحيل عمليا - و دعنا لا نكرر أخطاء الماضي - و القول بأن الوضع الحالي هو أيضا أقرب للعلمانية منه إلى الشريعة و مع ذلك موجود - هو قول مردود عليه - فالوضع الحالي بجانب جموده - هو فاقد للشرعية أمام مجتمعه و هو أيضا غير مستقر أمام المد السلفي.