أرحب بكل الزملاء الجدد على الشريط .. راحيل .. آمون .. نيوترال .. انجلدست .
في مناقشتنا لفرص الليبرالية في مصر (و جزء كبير من المشرق العربي) ، أود أن أعيد تأكيد مجموعة من الأفكار .
1. استخدام مصطلح الليبرالية بمدلوله الثقافي أساسا و كمرادف للجوانب الروحية و القيمية لعملية الحداثة ، إننا لا يجب أن نغفل أيضا البعد السياسي لليبرالية و لكن على أن نراه مرحلة تالية لا يمكن الشروع فيها جديا دون توفير حدا أدنى من الحداثة و الليبرالية الثقافية .
2. لا أوافق على خصوصية حاجبة للتأثير العالمي ،و لكني أرى أن هناك خصوصيات ثقافية يجري خلالها ترجمة الحداثة إلى عملية تحديث محلية أو إقليمية .وهذا ما سأستعرضه بشكل آخر في المداخلة التالية .
3. إن جميع عمليات التغيير السياسية و الثقافية الكبرى التي شهدها المجتمع المصري منذ سقوط الدولة المصرية القديمة عام 525 ق م تمت بواسطة عوامل و قوى خارجية ، بدءا من الغزو الفارسي و ليس انتهاء بالردة السلفية الوهابية . هذه الحقيقة لا يجب أن تغيب عن بالنا و نحن نناقش مستقبل الليبرالية خاصة من جانبها الثقافي . إن مصر كما أراها لم تعد لاعبا ثقافيا منذ فشل ثورة أخناتون ، و لكنها تحولت إلى ساحة ثقافية يلعب فيها الجميع .
سوف أخصص هذه المداخلة لعرض ما أعتقد أنه سيكون تأثير العولمة الثقافية على فرص الحداثة و الليبرالية الثقافية في مصر و العالم العربي .
تشهد البشرية الآن و أكثر من أي حقبة سابقة في تاريخها نشاطا هائلا للعمليات الثقافية العابرة للمجتمعات trans-sociatal ، هذا النشاط لا يمكن مقارنته سوى بالأعاصير الثقافية الكبرى التي أدت إلى فرض المسيحية ثم الإسلام على المجتمعات القديمة . نعم يمكننا رصد هذا الفوران الاستثنائي و أنه سيؤدي كما هو منتظر من مثل تلك التسونامي التاريخية العظمى إلى عمليات دمج و تفكك ثقافية واسعة تعيد تشكيل الجغرافيا الفكرية للعالم ، ولا أعتقد أن مصر و العالم العربي سيكون استثناء لفترة طويلة ..
إن السمة المميزة للعولمة هي هذا التواصل العالمي الذي يربط أطراف الأرض ، خلال هذا التواصل لا يتم تبادل السلع و الخدمات و البضائع و البشر فقط ، و لكن بالأخص يتم تبادل المعلومات و المعارف و الصور و كافة المنتجات الثقافية . هذا التواصل ليس مجرد تفاعل طوعي بين الأمم ،ولكنه يمتلك قوة دافعة ذاتية ويتميز بقدر كبير من الاستقلالية ، بل يمكن القول أن هذه العولمة هي أسبق تاريخيا من تشكيل الدولة القومية الحديثة ، و أن انتشار نموذج الدولة القومية كان أحد منتجات العولمة في فترة تاريخية سابقة .
على المستوى الثقافي يمكن القول أن أهم ما يميز عصرنا الحالي هو ترسيخ صورة للعالم باعتباره إطارا ثقافيا واحدا ، لهذا كان التطور الطبيعي للثقافة أن تفلت من إطار الدولة القومية المحدود لتصبح عابرة للقوميات trans-national هذه الظاهرة يمكننا أن نطلق عليها عولمة الثقافة ،إن ذلك لن يعني ظهور ثقافة عالمية واحدة بنفس النسق الذي تفرزه الدولة القومية من حيث التجانس و الاندماج ، ولكنه يعني تكوين إطار ثقافي واسع مع احتفاظه بقدر واضح من التنوع داخله . إن تلك التدفقات الثقافية cultural flows المتباينة و المتصارعة التي تفيض حول العالم على مدار الساعة لن تؤدي إلى تغريب العالم westernization كما يتخوف أو يأمل الكثيرون ، و لكنها على النقيض تقود إلى تكوين ثقافات جديدة ثالثة ، هذه الثقافات الثالثة تنشأ لها صور و ثوابت قيمية يتم إسقاطها على العالم ، في مرحلة تالية سيتم فرض تلك الصور خلال آليات الثواب و العقاب التي تعمل بالقصور الذاتي ، هذا يعني أنه لن يقول أحد عليك أن تفعل هذا وذاك ،و لكن ستصبح القيم الجديدة هي أساس التشريع و الشرعية الدولية ،و بالتالي سيكون تجاوزها نوع من المروق الدولي .
يمكننا القول أيضا أن الثقافة العالمية لن يمكنها تجاهل المواريث الثقافية و الحضارية الإقليمية ، و لكنها فقط تشكل الإطار الذي تتفاعل فيه أو حتى تتصادم تلك المواريث الثقافية .إن العولمة الثقافية في أوضح و أدق صورها هي تداخل ثقافي كوني واسع ، يؤدي إلى نشأة كيان عالمي عبارة عن إطار من التبادل و التفاعل الثقافي .إنها عملية تقوم فيها سلسلة من التدفقات الثقافية بإفراز تجانس ثقافي و فوضى ثقافية في نفس الوقت .إن هذا التداخل يؤدي في المرحلة الأولى إلى ربط الجيوب الثقافية المنعزلة و المتشابهة في كيان ثقافي واحد ، بينما يتم في مرحلة لاحقة التحول إلى إفراز ثقافات عابرة للقوميات . رغم هذا لا يجب أن يساورنا شك أن الثقافات الثالثة تلك لن تكون مجرد وسط حسابي للثقافات المحلية ،و لكنها ستكون إلى حد كبير نتاج لتفاعل الثقافات الأقوى . إن العولمة تعني سقوط الحواجز بين المجتمعات و تراخي السياسات الحمائية للضعيف ،وهذا سيعمل أساسا لصالح الأقوى . وهناك بالفعل حشد متنوع من العلوم الاجتماعية و التاريخية و السياسية و الاقتصادية التي تسعى إلى عولمة الأنماط الغربية للتحديث و القائمة على العقلنة و المواطنة و حقوق الإنسان و التصنيع و الثورة . هناك فجر جديد يشرق على العالم و هناك تفكير في تاريخ عالمي واحد ، تاريخ شامل ليس فقط للبشر بل أيضا للمادة و الزمن و الأفكار.

يمكننا تمييز خمس مسارات تندفع خلالها التدفقات ذات الطبيعة الثقافية .
1- التدفقات العرقية ، من هجرة و سياحة .
2- التدفقات التكنولوجيا من معدات و منتجات .
3- التدفقات النقدية من رأسمال و أرباح .إن عولمة رأس المال تؤدي تلقائيا إلى عولمة السوق .
4- التدفقات الإعلامية .
5- التدفقات الأيديولوجية من صور و قيم ، مثل الحرية و حقوق الإنسان و الرخاء و المواطنة .. الخ .
. من الصعب أن نتصور ثقافة مشتركة لعالم متمدد دون أن تعتمد على فكرة ( الشخص الإنساني ) التي تنشأ عن الأخلاقيات الفردية ، هذه الفكرة الإنسانية هي ذروة إبداعات العقل البشري ، بل و يمكن اعتباراها الوارث الطبيعي للأديان القديمة .
من جانب آخر قد تؤدي عولمة الثقافة إلى ردود فعل عكسية ، وظهور حركات مضادة كالأصولية الإسلامية أو مثيلاتها في الغرب التي تسعى إلى إعادة بناء العالم المسيحي الغربي خلال برنامج محافظ جديد . هكذا لم يكن مستغربا أن يرى البعض ممن أحبطهم فشل المجتمعات العربية في الإمساك بفرصة الحداثة ، أن احتمال نشأة ثقافة عالمية موحدة تعتبر ضعيفة ،و أن كل ما لدينا هي مجموعة من ثقافات عالمية متعددة و متصادمة ، إنهم يقرون أن لدينا بالفعل إمكانيات هائلة للاتصال و لكنهم يلاحظون أن برامج التليفزيون التي تعبر حول العالم في نفس اللحظة تلاقي ردود أفعال متباينة في أماكن التقاطها طبقا للسياقات الثقافية السائدة .
في المقابل علينا أن نتذكر أيضا أننا مازلنا في المرحلة الافتتاحية لحقبة تاريخية جديدة ، مرحلة هي بطبيعتها ضبابية تنتمي إلى الماضي بأكثر من استشرافها للمستقبل ، فترة تحتل فيها القومية و الدين و الكراهية العرقية مكانة تعلو قيم العلمانية و المواطنة العالمية cosmopolitanism حيث من المفترض أن يتخذ الإنسان موقفا جماليا مرنا من التجارب الثقافية المختلفة.
دور الدين في ثقافة العولمة .
إن السمة الرئيسية للمجتمع الحديث كما يراها كثير من المفكرين هي : التمايز المؤسسي و الهويات الفردية المتعددة . إن تمايز المؤسسات ينتج ما يمكن أن يطلق عليه الأنساق الفرعية المجتمعية ، هذه الأنساق متمايزة وظيفيا و مستقلة و لكنها تعمل في نفس المجتمع ، و تشمل هذه الأنساق أنشطة مثل إدارة شئون الدولة و الاقتصاد و العلم و الدين و الأسرة و القانون و التعليم و الفن و الصحة و غيرها ، كما يمارس الإنسان أدوارا متعددة بتعدد تلك الأنساق و لكنها متكاملة ، فهو طالب و مريض و مهندس و منتظم في دين ما و عضو في حزب سياسي و مشجع لنادي رياضي و هكذا . إن عولمة المجتمع كما نرى تؤدي آليا إلى علمنته خلال فكرة وجود نسق ديني متمايز وظيفيا . هكذا تصبح العلمنة هي نتيجة الاستقلال النسبي للأنساق الفرعية بعيدا عن المعايير الدينية و القيم و المسوغات و غيرها من الثوابت . إن عولمة المجتمع تميل إلى الخصخصة في الدين وهذا ما حدث في جميع المجتمعات التي مرت بعملية الحداثة حيث أصبح القرار الديني فرديا مثل غيره من القرارات في الهويات الأخرى للإنسان ( مهنية – سياسية – صحية ... الخ ) ، وهكذا نجد أن الدين بصورته التقليدية أصبح مسألة شخصية وبالتالي فقد كثيرا من وضعه العام .

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	الحل الثالث : الليبرالية الاجتماعية	الجواهري	0	480	09-10-2013, 02:45 PM آخر رد: الجواهري
	إشكالية القانون الديني والقانون المدني في العالم العربي	رائد قاسم	0	854	09-29-2012, 01:05 PM آخر رد: رائد قاسم
	مستقبل الدين في عالم ليبرالي .	بهجت	69	17,019	08-22-2012, 02:15 PM آخر رد: بهجت
	الديمقراطية وعوائقها في العالم العربي	الكندي	11	1,912	05-26-2012, 03:10 AM آخر رد: الكندي
	إعلان السابع من مايو “يوم الليبرالية” الأول في السعودية ..	بسام الخوري	1	749	05-08-2012, 02:32 AM آخر رد: بسام الخوري