المقدمة و فصل من رواية " أولاد حارتنا "
7 دبت الحيوية في وجه أميمة لأول مرة منذ عهد قصير , فسالت أدهم باهتمام ك
ألم يحدثك أبوك عن الحجة من قبل ؟
كان ادهم يحدثك أبوك عن الحجة من قبل ؟
كان أدهم متربعاً على الكنبة , ينظر من النافذة إلى الخلاء الغارق في الظلمة . فأجابها :
لم يحدث أحد عنها قط
لكن أنت ..
لست أحد إلا أبنائه الكثيرين ..
فابتسمت ابتسامة خفيفة و قالت :
لكنه اختارك أنت لتدير الوقف ..
فالتف نحوها قائلاً بحدة :
قلت أنه لم يحدث أحداً عنها قط ..
فابتسمت مرة أخرى كأنما لتلطف حدته , ثم قالت بمكر :
لا تشغل بالك , إدريس لا يستحق ذلك , إن إساءاته لك لا تنسى ابدً ..
فحول أدهم رأسه نحو النافذة , وقال بحزن :
إدريس الذي جاءني اليوم غير إدريس الذي أساء إلي , إن منظره النادم الحزين لا يبرح مخيلتي ..
فقالت بارتياح ظاهر :
هذا ما أدركته من حديثك , وهو سر اهتمامي بالأمر , ولكنك تبدو ضيق الصدر بخلاف عادتك ..
كان ينظر إلى ظلام الليل الكثيف , لكن رأسه المشغول لم يستجب له , فقال :
لا فائدة ترجى من الاهتمام ..
لكن أخاك النادم يسألك الرحمة ..
العين بصيرة و اليد قصيرة
يجب أن تحسن علاقتك به و وبأخوته , وإلا وجدت نفسك يوماً وحيداً أمامهم ..
أنت تهتمين بنفسك لا بإدريس ..
فهزت رأسها كأنما تزيح عنه نقاب المكر وقالت :
من حقي أن أهتم بنفسي , ومعنى هذا أن أهتم بك وبما في بطني ..
ماذا تريد المرأة ؟ وهذا الظلام ما أشد كثافته , حتى المقطم العظيم قد ابتلعه . وأراح نفسه بالصمت . وإذا بها تسأله :
ألا تذكر أنك دخلت الخلوة أبداً ؟
فأجاب خارجاً من صمته القصير :
أبداً , أحببت في صباي أن أدخلها فمنعني أبي , ولم تكن أمي تسمح لي بالاقتراب منها ..
لا شك أنك كنت تتمنى دخولها ما حادثها في الأمر إلا وهو ينتظر أن تدفعه عنه لا أن تجيز به إليه . كان بحاجة إلى من يؤكد له صواب موقفه من أخيه . كان بحاجة ماسة إلى ذلك ولكنه كمن كان ينادي في الظلام خفيراً فيخرج إليه قطاع طريق . و عادت أميمة تسأله :
و الخوان الذي به الصندوق الفضي هل تعرفه ؟
كل من دخل الحجرة يعرفه , لماذا تسألين عنه ؟
تزحزحت من مجلسها على الكنبة مقتربة منها و سألته بإغراء :
بربك ألا تود أن تتطلع على الحجة ؟
فأجاب بحدة :
كلا , لماذا أود ذلك ؟
منذا يقاوم الرغبة في الإطلاع على المستقبل ؟
تعنين مستقبلك أنتِ ؟ !
مستقبلي و مستقبلك , ومستقبل إدريس الذي حزنت عليه رغم ما سبق منه ضدك !
المرأة تعرب عما في نفسه . وهذا ما يثير حنقه . ومد رأسه نحو النافذة كأمكا يهرب منها وهو يقول :
لا أود ما لا يود أبي
فرفعت حاجبيها المزججين متسائلة :
لماذا يخفي هذا الأمر ؟
ذلك شانه , ما أكثر أسئلتك الليلة !
فقالت و كأنما تخاطب نفسها :
المستقبل ! نعرف مستقبلنا و نقدم إحساناً كبيراً إلى إدريس التعيس , لن يكلفنا هذا كله إلا قراءة ورقة دون أن يدري أحد , و أتحدى أي صديق أو عدو أن يثبت علينا سوء نية في عملنا هذا أو أنه يمس من قريب أو من بعيد والدك المحبوب !
وكان أدهم يراقب نجماً فاق الأنجم بضيائه اللامع فقال متجاهلاً قولها :
ما أجمل السماء ! لولا رطوبة الليل لجلست في الحديقة أراقبها من خلال الغصون ..
لا شك أنه ميز البعض في شروطه .
فهتف أدهم :
ما أزهدني في امتياز لا يجر وراءه إلا المتاعب ..
فقالت متنهدة :
لو كنت أعرف القراءة لذهبت بنفسي إلى الصندوق الفضي .
تمنى لو كان ذلك كذلك , و تضاعف حنقه عليها و على نفسه . بل شعر بأنه قد وقع في المحظور فعلاً وأنه يفكر فيه كحدث مضى . و تحول نحوها مقطباً فبدا وجهه على ضوء المصباح المرتعش بالنسيم المتسلل من النافذة متجهماً , ضعيفاً رغم تجهمه وقال :
لعنت حين أفضيت إليك بالخبر !
لا أريد بك شراً , وحبتي لوالدك مثل محبتك له .
دعيك من هذا الحديث المتعب , في هذه الساعة تستحب الراحة
يبدو أن قلبي لن يرتاح قبل الإقدام على هذا العمل السهل ..
فنفخ قائلاً :
اللهم ارجع إليها عقلها !
فرمقته بنظرة المتحفز ثم سألته :
ألم تخالف أباك با استقبالك إدريس في المنظرة ؟
فاتسعت عيناه دهشة و قال :
وجدته أمامي فلم يسعني إلا استقباله
هل أخبرت والدك بنبأ زيارته ؟
ما أثقلك الليلة يا أميمة
فقالت بصوت الظافر :
إذا جاز لك أن تخالفه فيما قد يضرك فكيف لا تخالفه فيما يفيدك و يفيد أخيك ولا يضر أحداً ..؟
بوسعه أن يقطع الحديث لو شاء . ولكن المنحدر كان شديد الانحدار . و الحق أنه لم يتركها تسترسل في حديثها إلا أن جزءاً من نفسه كان بحاجة إلى تأييدها . وتساءل فيما يشبه الغضب :
ماذا تعنين ؟
أعني أن تسهر حتى الفجر , أو حتى يخلو المكان لنا
فقال بامتعاض :
ظننت أن الحمل قد أفقدك عاطفتك و حدها , و لكن هاهو يفقدك عقلك أيضاً
أنت مقتنع بما أقول وحق من خلق الروح في بطني , ولكنك خائف , و الخوف لا يليق بك .
فاكفهر وجهه اكفهرارا منقطع الأسباب بالتراخي الساري في داخله و قال :
سنذكر بهذه الليلة أول زعل فرق بيننا
فقالت برقة عجيبة :
أدهم , دعنا مفكر جادين في هذا الأمر ..
لن نجني خيراً
هذا قولك ولكنك سترى
شعر بوهج النار وهو يقترب منها . قال لنفسه : " إذا احترقت فبم تجدي دموعي في إخمادها " . وحول رأسه إلى النافذة فخيل إليه أن سكان ذلك النجم اللامع سعداء لبعدهم عن هذا البيت . وتمتم بصوت ضعيف :
لم يحب أحد أباه كما أحبه
ما أبعدك عما يسيئه
أميمة , ما أحوجك إلى النوم !
أنت الذي طيرت النوم عن عيني
أملّت أن أسمع عندك صوت العقل
ما أسمعتك غيره
وساءل نفسه يصوت منخفض كالهمس :
ترى هل أندفع نحو الخراب ؟
فربتت يده الملقاة على مسند الكنبة و قالت بعتاب :
مصيرنا واحد يا ناكر الحب !
فقال في استسلام دل على أنه اتخذ قراره :
ولا هذا النجم يدري ما مصيري !
فقالت بانطلاق :
ستقرأ مصيرك في الحجة
ومدّ بصره نحو النجوم الساهرة , وقطع السحاب المستضيئة بنورها الهادىء , و×يل إليه أنها مطلعة على نجواه فغمغم : " يا لطف السماء " ثم سمع أميمة وهي تقول في نبرات مداعبة :
أنت علمتني حب الحديقة , دعني أرد إليك الجميل .
8
وعند الفجر غادر الأب حجرته قاصداً الحديقة . كان أدهم بأقصى الردهة يترقب و أميمة خلفه ممسكة بكتفه في الظلام . تابعا وقع الأقدام الثقيل المتزن ولكنهما لم يتبينا اتجاهها في الظلام , وكان من عادة الجبلاوي أن يسير في هذه الساعة دون الحاجة إلى ضوء أو رفيق . وسكت الصوت فالتفت أدهم نحو زوجته هامساً :
ألا يحسن بنا أن نعود ؟
فدفعته وهي تهمس في أذنه :
عليّ اللعنة إن كنت اضمر سوءاً لإنسان
فتقد بخطوات حذرة , في اضطراب أليم , ويده قابضة على شمعة صغيرة في جيبه , وجعل يتحسس الجدار حتى مست يده مصراع الباب . وهمست أميمة :
سأبقى هنا لأرقب المكان , اذهب مصحوباً بالعناية .
ومدت يدها فدفعت الباب حتى انفتح ثم تراجعت . ومضى أدهم نحو الحجرة بخطواته الحذرة فتلقى من داخلها رائحة مسكية شديدة النفاذ . ورد الباب وراءه ووقف يحملق في الظلام حتى تبين له خصاص النوافذ المطلة على الخلاء وهي تنضج بنور الفجر . شعر أدهم بأن الجريمة – إن كان ثمة جريمة – قد وقعت بدخوله الحجرة وأن عليه أن يتم عمله . سار مع الجدار الأيسر , مرتطماً أحياناً بالمقاعد , ماراً بطريقه بباب الخلوة , حتى بلغ نهايته , ثم مال مع الجدار الأوسط , وما لبث أن عثر على الخوان . جذب الدرج , و تحسس ما بداخله حتى وجد الصندوق , ثم شعر بحاجة إلى الراحة ليأخذ نفسه .ورجع إلى باب الخلوة , ففتش عن ثقبه , ثم وضع فيه المفتاح و أداره , وفتح الباب , وإذا به يتسلل إلى الخلوة التي لم يدخلها أحد قبله إلا الأب . رد الباب , فأخرج الشمعة , ثم أشعلها , فرأى مربعاً ذا سقف عال لا منفذ فيه إلا الباب , مفروش الأرض بسجادة صغيرة , وهند ضلعه اليمن ترابيزة أنيقة عليها المجلد الكبير الذي ثبت في الجدار بعلاقة من صلب . ازدرد ريقه الجاف لشيء من الألم كأن وعكة أصابت اللوزتين , وعض على أسنانه , كأنما ليعصر الخوف الساري في أوصاله المرعش للشمعة في يده . و اقترب من الترابيزة وهو يحملق في غلاف المجلد المزخرف بخطوط مموهة بالذهب , ثم مد يده ففتحه . وجد مشقة في تركيز ذهنه و نفض الاضطراب عنه . وبدأ يقرأ بالخط الفارسي : " باسم الله .."
ولمنه سمع الباب وهو يفتح بغتة . انجذب رأسه نحو الصوت بقوة ودون وعي كأن الباب شده إليه وهو ينفتح . رأى الجبلاوي على ضوء شمعته يسد الباب بجسمه الكبير ملقياً عله نظرة قاسية باردة . حملق أدهم في عيني أبيه في صمت و جمود , و تخلت عنه قوى الكلام و الحركة ز التفكير . وأمره الجبلاوي قائلاً :
اخرج .
ولكن أدهم لم يستطع حراكاً . بقي في موقفه كالجماد إلا أن الجماد لا يشعر بالقنوط . وهتف الأب :
اخرج :
أيقظه الرعب من موقفه فتحرك , و تخلى الأب عن الباب , فغادر أدهم الخلوة و الشمعة ما تزال تحترق في يده . ورأى أميمة واقفة وسط الحجرة صامتة , و الدمع ينحدر تباعاً من مقلتيها . وأشار له الأب أن يقف إلى جانب زوجته ففعل , ثم خاطبه بصرامة قائلاً :
عليك أن تجيب على أسئلتي بالصدق .
فنطقت أساريره بالامتثال . وسأله الرجل :
من الذي أخبرك بالكتاب ؟
فقال أدهم دون تردد كوعاء تحطم فسال ما فيه :
إدريس
متى ؟
صباح الأمس
كيف تم اللقاء بينكما ؟
اندسّ بين المستأجرين الجدد و انتظر حتى انفرد بي .
لماذا لم تطرده ؟
عزّ علي طرده يا أبي
فقال الجبلاوي بحدة :
لا تخاطبني بالأبوة .
فاستجمع أدهم قواه قائلاً :
إنك أبي رغم غضبك ورغم حماقتي .
أهو الذي أغراك بفعلتك ؟
و أجابت أميمة دون أن يوجه إليها السؤال :
نعم يا سيدي .
اخرسي يا حشرة ..( ثم موجهاً الخطاب إلى أدهم ) .. أجب
كان يائساً حزيناً نادماً وود لو يطمئن على مستقبل ذريته .
وفعلت هذا من أجله !
كلا .. اعتذرت له عن عجزي .
وماذا غيَّرك ؟
فتنهد أدهم يائساً و تمتم :
الشيطان !
فسأله ساخراً :
هل أخبرت زوجتك بما جرى بيمك و بينه ؟
هنا انتحبت أميمة فنهرها الجبلاوي أن تخرس , وحث أدهم على الإجابة بإشارة من إصبعه , فقال :
نعم
وماذا قالت لك ؟
لاذ أدهم بالصمت كي يزدرد ريقه فصاح به :
أجب يا وضيع.
وجدت لها رغبة في الإطلاع على الوصية و ظننت أن ذلك لن يضر أحداً .
فحدجه باحتقار شديد و قال :
وهكذا انصعت إلى خيانة من فضلك على من هم خير منك .
فقال أدهم بصوت كالأنين :
لأن يسعفني دفاعي عن ذنبي , لكن مغفرتك أكبر من الذنب و الدفاع .
تتآمر علي مع إدريس , الذي طردته إكراماً لك ؟
لم أتآمر مع إدريس , لقد أخطأت , ولا نجاة لي إلا بمغفرتك .
و هتفت أميمة بتوسل :
سيدي ..
فقاطعها قائلاً :
اخرسي يا حشرة
وجعل يردد عينيه بينهما عابساً , ثم قال بصوت رهيب :
اخرجا من البيت .
وهتف أدهم :
أبي ..
فقال الرجل بصوت غليظ :
غادرا البيت قبل أن تلقيا خارجا ً.
|