الصراع بين الليبرالية و الدين .
كي يمكننا رؤية الواقع و أن نصيغ أفكارنا عن المستقبل لا يمكن أن يتم ذلك بمعزل عن السياق التاريخي للأفكار و العلاقات التي صنعت الحاضر و تتأهب لصياغة المستقبل.
شهد القرن 16 و 17 إرهاصات التحرر الديني ، و قد تزامن ذلك مع بزوغ الأفكار المتحررة في السياسة و الاجتماع على السواء ،و كان ذلك كله تمهيدا لميلاد الحضارة الثالث في القرن الثامن عشر الذي عرف بقرن التنوير بعد الفجر الإغريقي الذي أنار العالم لوهلة صغيرة ثم خبا ، و بعد الميلاد الثاني في عصر النهضة . شهد القرن 17 ظهور فرانسيس بيكون ( 1561-1626 ) نبي المنهج العلمي الذي فجر عصرا جديدا قدر له أن يقضي على الفكر الكنسي المسيحي السائد منذ العصور الوسطى ،و أن يحرر أوروبا و العالم من الخرافات الدينية ، و فرانسيس بيكون هو أول من قال بوجود حقيقيتين : ( حقيقة علمية – موضوعية - تقوم على إعمال العقل ،و حقيقة دينية – ذاتية - تقوم على الوحي و الإلهام ) مع ملاحظة أنني أضفت كلمتي موضوعية و ذاتية لتوضيح الفرق بينهما ، فرانسيس بيكون هو أيضا أول من قرر أن الدين لا يستند على العقل ، و رغم أنه كان مؤمنا بوجود خالق ، إلا أنه أصر على استبعاد أي تفسيرات غيبية أو لاهوتية عند دراسة الظواهر الطبيعية ، نشر بيكون أهم أعماله ( في تقدم العلم ) عام 1605 إلا أن المسلمين لا يملكون الشجاعة حتى الآن كي يقرروا ما توصل إليه هذا المفكر منذ 400 عام . شهد القرن 17 أيضا أعلام كبار للفكر المتحرر أمثال رينيه ديكارت مؤسس الفلسفة الحديثة و توماس هوبز و جون لوك و بيندكت سبينوزا .
عند عرض العلاقة بين الليبرالية و الدين لابد أن أتوقف عند جون لوك ( 1632-1704 ) فهو أبو الفلسفة الليبرالية و العلم التجريبي في العصر الحديث ،وهو أيضا مؤمن بالخالق و فيلسوف التسامح الديني . كرس لوك حياته لهدم التقاليد و الموروثات العتيقة ،و الدعوة إلى تحرير العقل البشري من أي مسلمات أو أفكار سلفية تعطل مسيرته .كان لوك متحررا و وافق هوبز على أن الدولة تنهض على أساس عقد اجتماعي بين أفراده ، كما نادى أن للشعب الحق في تولية حكامه ، وفي الإطاحة بالفاسدين منهم .نادى لوك بضرورة امتناع الدولة و الكنيسة عن تلقين النشء، و آمن بقدرة العقل البشري على اكتشاف وجود الله بدون تنزيل عن طريق ملاحظة ما يحتويه الكون و الطبيعة من نظام و جمال و في هذا يقول لوك :( إن أعمال الطبيعة في كل مكان أبلغ دليل على وجود الله ) ،وهذا ما اصطلح الفلاسفة على تسميته بالدين الطبيعي ، و يؤكد أن الإنسان يمكنه الاستدلال على وجود الله بالبرهان المنطقي كما يفعل مع النظريات الهندسية ، وهكذا حاول لوك التوفيق بين العلم و الدين ، وهو في هذا قريب من المحاجة ذاتها التي ساقها العالم إسحاق نيوتن الذي يرى في الكون آلة رائعة لابد لها من صانع قدير . بالرغم من الدافع الإيماني خلف محاجات لوك العقلية ، إلا أن هذه المحاجات و أشباهها أدت في نهاية الأمر إلى نبذ الإيمان بالتنزيل و ظهور المذهب التأليهي Deism في القرن 18 ، وهو مذهب يؤمن بالله دون الأديان .
لا يمكن أيضا أن أتجاوز بيندكت سبينوزا ( 1632-1677 ) رغم أنه ليس معروفا على نطاق كبير كمفكر ليبرالي ، و لكنه صاحب العبارة البديعة التي استشهد بها كثيرا : " في دولة حرة يمكن لكل إنسان أن يفكر فيما يريد ، و أن يقول ما يفكر فيه " فهذه العبارة توجز حرية الفكر في المفهوم الليبرالي ، يرى سبينوزا أن لغة الكتاب المقدس استعارية و رمزية جريا على عادة الشرقيين في استخدام الأساليب الأدبية المبالغ فيها و المليئة بالزخارف ، كما أنها تعبر عن محاولة الأنبياء استثارة خيال الدهماء و التأثير على عقولهم بأعمال الحواة ، فالجاهل لا يدرك أن النظام في الكون أبلغ في الاستدلال على وجود الله من اختراقه .لقد آمن سبينوزا بوحدة الوجود و التحام الطبيعة و الله في كيان واحد ، وهو يرى أننا لو فهمنا الكتب المقدسة فهما حرفيا لوجدناها مليئة بالأخطاء و المتناقضات و الثغرات ، وه ينكر أيضا ألوهية المسيح رغم حبه للمسيح و تقديره له .
سيكون موعدنا مع القرن 18 عصر العقل و التنوير ، نصاحب فيه قادة الفكر الليبرالي في جدلهم التاريخي مع الدين .

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	كيف يرى السوريون مستقبل بلادهم؟ -- ممنوع دخول الجنس الثالث	الملكة	13	3,255	04-27-2012, 03:18 PM آخر رد: السلام الروحي
	كيف ترى مستقبل الحرية في العالم العربي ؟.	بهجت	20	6,940	03-12-2012, 05:58 PM آخر رد: بهجت
	مستقبل الجزيرة العربية في زمن الاحتكارات - عبد الله النفيسي	عبادة الشايب	2	1,297	12-22-2011, 09:47 PM آخر رد: Rfik_kamel
	سقوط العالم الإسلامي نظرة في مستقبل أمة تحتضر	vodka	6	5,016	07-25-2011, 01:36 AM آخر رد: بهجت
	هل الدين شر محض أم فيه خير ؟	Sniper +	6	1,753	11-20-2010, 05:15 PM آخر رد: ماجن