{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
ذاكرة غانياتي الحزينات لـ : غابرييل غارسيا ماركيز
قارع الأجراس غير متصل
عضو متقدم
****

المشاركات: 262
الانضمام: Dec 2005
مشاركة: #3
ذاكرة غانياتي الحزينات لـ : غابرييل غارسيا ماركيز
[CENTER]الفصل الرابع

في بداية العام الجديد، بدأنا التعرف أحدنا على الآخر، كما لو أننا نعيش معا، مستيقظين. فقد توصلت إلى العثور على نبرة صوت حذر تسمعه هي دون أن تستيقظ، وترد علي بلغة طبيعية من جسدها. كانت حالتها المعنوية تتبدى من خلال طريقتها في النوم. فمن حالة الإنهاك والنفور التي بدت عليها في البدء، راحت تتحول إلى حالة سلام داخلي تجمل وجهها وتثري أحلامها. صرت أروي لها قصة حياتي، وأقرأ في مسمعها مسودات مقالاتي ليوم الأحد، وكانت هي، وهي وحدها، موجودة فيها دون أن أقول ذلك.
في هذه الفترة تركت لها على الوسادة قرطين من الزمرد كانا لأمي. فوجدتها تضعهما في أذنيها في الموعد التالي، ولم يكونا مناسبين لها. فحملت لها بعد ذلك قرطين آخرين، أكثر ملاءمة للون بشرتها. وأوضحت لها: القرطان الأولان اللذان جئتك بهما لا يتناسبان مع شخصيتك وقصة شعرك. هذان يناسبانك أكثر. فلم تضع أيا منهما في الموعد التاليين، ولكنها وضعت في الموعد الثالث اللذين أشرت إليهما. وهكذا بدأت أفهم أنها لا تنصاع لأوامري، ولكنها تتحين الفرص لإرضائي. وفي تلك الأيام، أحسست أنني قد اعتدت على ذلك النمط من الحياة المنزلية، فلم أعد أنام عاريا، بل صرت أرتدي بيجامة من الحرير الصيني كنت قد توقفت عن استخدامها، لأنه لم تعد هناك من تنتزعها عني.
بدأت أقرأ لها (الأمير الصغير) لسانت إكزوبري، المؤلف الفرنسي الذي يقدره العالم بأسره أكثر من الفرنسيين. كان الكتاب الأول الذي أمتعها دون أن يوقظها، فكان علي أن أذهب يومين متتاليين كي أنهي قراءاته لها وواصلنا بقراءة (حكايات بيرول) وقصص (التاريخ المقدس) و(ألف ليلة وليلة) في طبعة مهذبة للأطفال. وبسبب الاختلافات بين كتاب وآخر انتبهت إلى أن لنومها درجات متفاوتة من العمق، حسب اهتمامها بالقراءات. وعندما كنت أشعر أنها لم تعد قادرة على تقبل المزيد، أطفئ النور وأنام وأنا أحتضنها إلى أن تصيح الديكة.
كنت أشعر بسعادة غامرة تدفعني إلى تقبيل رموشه، برقة شديدة، وحدث في إحدى الليالي، مثل نور من السماء، أن ابتسمت لأول مرة. وبعد ذلك ودون أي سبب، انقلبت في السرير وأولتني ظهره، وقالت باستياء: إيزابيل هي التي أبكت الحلزونات. ومبتهجا بوهم إقامة حوار، سألتها بالنبرة نفسها: ولمن كانت الحلزونات؟ فلم تجب. كان لصوتها أثر عامي، كما لو أنه ليس صوتها وإنما صوت شخص غريب تحمله في داخلها.
وعندئذ تلاشت كل ظلال الشك من روحي: إنني أفضلها نائمة.
كانت مشكلتي الوحيدة هي الهر. فقد كان ضعيف الشهية ونفورا، ومضى عليه يومان دون أن يرفع رأسه في ركنه المعهود، وقد وجه إلي ضربة مخلب ضارية عندما أردت وضعه في سلته الخيزرانية، كي تأخذه داميانا إلى البيطري. لم تتمكن من السيطرة عليه إلا بصعوبة،وحملته وهو يرفس في كيس من القنب. وبعد قليل، اتصلت بي من متجر الحيوانات، لتقول لي إنه لا وجود لوسيلة أخرى سوى التضحية به، وهم يريدون موافقتي على ذلك. لماذا؟ فقالت داميانا: لأنه هرم جدا. وفكرت غاضبا في أنهم قد يشوونني حيا أنا أيضا، في فرن لإحراق القطط. أحسست بأني أعزل بين نارين: فأنا لم أتعلم حب القط بعد، ولكن ليس لدي قلب كذلك، لأوافق على قتله، لمجرد أنه هرم وحسب. أين يقول الكراس ذلك؟
أثر في الحادث بعمق، حتى أنني كتبت مقالة ليوم الأحد بعنوان مسروق من نيرودا: (هل القط نمر صالونات مصغر؟) وتسببت المقالة في حملة جديدة، فسمت القراء، مرة أخرى، إلى مؤيدين ومعارضين للقطط. وخلال خمسة أيام تغلبت الأطروحة القائلة بمشروعة التضحية بقط، لأسباب لها علاقة بالصحة العامة، ولكن ليس لأنه هرم.
بعد موت أمي كان يؤرقني الرعب من أن هناك من يلمسني وأنا نائم. وذات ليلة أحسست بها، لكن صوتها أعاد إلي الطمأنينة، وهي تقول لي بالإيطالية: Figlio mio poveretto. وعدت إلى الإحساس به في فجر أحد الأيام، في غرفة ديلغادينا، فتلويت من البهجة، معتقدا أنها قد لمستني. ولكن لا: كانت روسا كاباركاس في الظلام. وقالت لي: ارتد ملابسك، وتعال معي، لدي مشكلة جديدة.
وقد كانت كذلك فعلا، بل أكثر جديا مما استطعت تخيله. فأحد كبار زبائن المحل قتل مطعونا في الغرفة الأولى من الجناح. كان القاتل قد هرب. والجثة الضخمة العارية، باستثناء الحذاء، كانت شاحبة شحوب فروج على البخار، في سرير مضمخ بالدم. عرفته على الفور: إنه خ. م. ب. مصرفي كبير، مشهور بوجاهته ولطفه وتأنقه في الملبس، وقبل ذلك بجمال منزله. كان هناك في عنقه جرحان بنفسجيان، مثل شفتين، وفجوة في البطن لم تتوقف عن النزيف بعد. وما أثر في أكثر من الجراح هو الواقي الذكري الذي بدا أنه لم يستعمل بعد، على العضو المنكمش بفعل الموت.
لم تكن روس كاباركاس تعرف مع من كان في الغرفة، لأنه كان يتمتع كذلك بامتياز الدخول من البوابة المطلة على البستان. ولم تستبعد الشكوك في أن من كان برفقته هو رجل آخر. الشيء الوحيد الذي كانت صاحبة المحل تريده مني، هو مساعدتها في إلباس الجثة ثيابها. بدت واثقة من نفسها. حتى أنني أحسست بالقلق من فكرة أن الموت في نظرها لا يعدو أن يكون مسألة مطبخ. قلت لها: ليس هناك ما هو أصعب من إلباس ميت ثيابه. فردت هي: لقد فعلت ذلك كثيرا. والأمر سهل إذا كان هناك سيثبت لي الميت. فلفت نظرها: هل تتصورين أن هناك من سيصدق الحديث عن جسد ممزق بالطعنات داخل بدلة جنتلمان إنكليزي سليمة؟
ارتعدت خوفا على ديلغادينا فقالت لي روسا كاباركاس: من الأفضل أن تأخذها أنت من هنا. فقلت لها بلعاب متجمد: أفضل الموت قبل ذلك. وانتبهت هي إلى حالتي، ولم تستطع مواراة ازدرائها: إنك ترتجف! فقلت: خوفا عليها، ولكن قولي لم يكن سوى نصف الحقيقة. وأضفت قائلا: اطلبي منها أن تغادر قبل أن يأتي أحد. فقالت: حسن، أما أنت فلن يحدث لك شيء باعتبارك صحفيا. وأنت أيضا لن يحدث لك شيء، قلت لها بشيء من الحنق، فأنت الشخصية الليبرالية الوحيدة التي تأمر وتنهى في هذه الحكومة.
المدينة المشتهاة، لطبيعتها السلمية، وأمنها الفطري، كانت تجرجر في كل سنة نكبة عملية قتل فاضحة ومروعة. لكن عملية القتل تلك لم تكن واحدة منها. فالخبر الرسمي الذي ظهر بعناوين بارزة وتفاصيل وفيرة يقول إن المصرفي الشاب تعرض للاعتداء والقتل طعنا، عرى طريق برادومار، لأسباب غير معروفة. لأنه ليس له أعداء. ويشير بيان الحكومة، كقتلة مزعومين، مزعومين إلى لاجئين من مناطق البلاد الداخلية، كانوا يقومون بموجة جرائم غريبة عن الروح المواطنية لسكان المدينة. وقد جرى خلال الساعات الأولى اعتقال أكثر من خمسين شخصا.
هرعت مستشيطا من الغيط مع المحرر القضائي، وهو صحفي نموذجي من صحفيي سنوات العشرينيات، يضع واقية شمس من السيلويلويد الأخضر، وربطتين على كميه، يتبجح بأنه يسبق الوقائع. ومع ذلك لم يكن يعرف إلا نسالات متفرقة عن الجريمة، فأكملتها له بقدر ما يتيحه لي الحذر. وهكذا كتبنا معا خمس صفحات لخبر ينشر على ثمانية أعمدة في الصفحة الأولى، منسوب إلى الشبح الأبدي الذي نسميه: مصادر تستحق ثقتنا الكاملة. ولكن يد رجل الساعة التاسعة البغيض –الرقيب- لم ترتجف لفرض الرواية الرسمية القائلة إنه اعتداء قطاع طرق ليبراليين. فغسلت ضميري بتقطيبة حزن، في أشد جنازات القرن صفاقة وأوسعها حضورا.
عندما رجعت إلى البيت في تلك الليلة، اتصلت بروسا كاباركاس لأستفسر عما حدث لديلغادينا ولكنها لم ترد على الهاتف طوال أربعة أيام. في اليوم الخامس، ذهبت إلى البيت وأنا أضغط على أسناني. كان الباب مختوما، ولكن ليس من الشرطة وإنما من قبل مصلحة الصحة. ولم يكن هناك في الجوار من يعرف شيئا. ودون أن يكون لدي أي مؤشر لمكان وجود ديلغادينا انطلقت في بحث ضارٍٍ، ومضحك أحيانا، خلفني لاهثا. أمضيت أياما بطولها أراقب الفتيات راكبات الدراجات، من مقاعد حديقة معفرة بالغبار، حيث الأطفال يلعبون بتسلق تمثال مقشر لسيمون بوليفار. كنت أرى مرورهن على الدراجات كالغزالات؛ جميلات، جاهزات، مستعدات لأن يمسك بهن في لعبة الدجاجة العمياء. وعندما نفدت آمالي لجأت إلى سلام ألحان البوليرو. كنت أشبه بمخمور مسمم: كل كلمة كانت (هي). لقد كنت أحتاج إلى الصمت دائما، من أجل الكتابة، لأن عقلي يلتفت إلى متابعة الموسيقى أكثر من الكتابة. ولكن الأمر انقلب آنذاك: لم أعد أستطيع الكتابة إلا في ظلال ألحان البوليرو. امتلأت حياتي بها. المقالات التي كتبتها في ذينك الأسبوعين كانت نماذج مشفرة لرسائل الحب. فطلب مني رئيس التحرير المعارض لذلك السيل من الردود أن أخفف من الحب ريثما نفكر في طريقة نواسي بها كل أولئك القراء العاشقين.
انعدام السكينة أجهز على صرامة أيامي. كنت أستيقظ في الخامسة، ولكنني أظل في عتمة الغرفة، متخيلا ديلغادينا في حياتها اللاواقعية، وهي توقظ إخوتها، وتلبسهم ملابسهم المدرسية، وتقدم لهم الفطور، إن وجد، وتجتاز المدينة على الدراجة لتقضي محكوميتها بخياطة الأزرار. تساءلت مذهولا ما الذي تفكر فيه امرأة وهي تخيط الأزرار؟ تراها تفكر في؟ هل تبحث هي أيضا عن روسا كاباركاس لتلتقي بي؟ أمضيت أسبوعا دون أن أخلع أفرهول المميكانيكي، في الليل والنهار، ودون أن أستحم، ودون أن أحلق ذقني، ودون أن أنظف أسناني، لأن الحب علمني في وقت متأخر جدا، أن المرء يتهندم من أجل احد، يلبس ويتعطر من أجل أحد، وأنا لم يكن لدي قط من أفعل ذلك من أجله. ظنت داميانا أنني مريض عندما وجدتني عاريا في أرجوحة النوم في الساعة العاشرة صباحا. رايتها بعينين معكرتين بالجشع، ودعوتها للتقلب معي ونحن عاريان. فقالت لي بازدراء:
- وهل فكرت فيما ستفعله، إذا قلت لك نعم؟
هكذا عرفت إلى أي حد أفسدتني المعانة. لم أكن أتعرف على نفسي في ألمي المراهق. ولم أعد أخرج من البيت كيلا أبتعد عن رصد الهاتف. فصرت اكتب دون أن افصله ولدى أول رنين أقفز إليه مفكرا في أنها قد تكون روسا كاباركاس. وأقطع أياما بطولها إلى أن أدركت أنه هاتف بلا قلب.
ولدى عودتي إلى البيت في مساء أحد الأيام، وجدت القط متقوقعا على نفسه عند أدراج البوابة. كان متسخا ومزريا، وفي حالة من الوداعة مثيرة للشفقة. أوضح لي الكراس أنه مريض، واتبعت تعليماته ليستعيد عافيته. وفجأة بينما أنا أتناوم في إفاءة قيلولة، أيقظتني فكرة أنه يمكن أن يقودني إلى بيت ديلغادينا. حملته في كيس مشتريات حتى حانوت روسا كاباركاس، فكان لا يزال مختوما، وبلا أي إشارة إلى وجود حياة فيه، ولكن القط تقلب في الكيس باندفاع شديد. تمكن معه من الهرب. قفز حاجز البستان، واختفى بين الأشجار. طرقت البوابة بقبضتي، فسألني صوت عسكري، دون أن يفتح: من هناك؟ أناس مسالمون، قلت ذلك كيلا أكون أقل منه، وأضفت: إنني أبحث عن صاحبة المحل. فقال الصوت: لا توجد صاحبة المحل. فألححت: افتح لي كي آخذ القط على الأقل. قال: لا يوجد قط. سألته: ومن تكون أنت؟ لا أحد، قال الصوت.
لقد أعتقد على الدوام، أن الموت حبا ليس إلا وسيلة شعرية. ولكنني في ذلك المساء، بينما أنا عائد إلى البيت، من دون القط، ومن دونها، تأكدت من أن الموت حبا ليس ممكنا وحسب، وإنما أنا نفسي، العجوز الذي ليس لديه أحد آخذ بالموت حبا. ولكنني انتبهت أيضا إلى أن الحقيقة المعاكسة تنطبق علي: لا يمكن لي أن أستبدل بغمي كل متع الدنيا. كنت قد أضعت ما يقارب الخمس عشرة سنة، في محاولة ترجمة أغنيات ليوباردي، وفي تلك الأمسية فقط أحسست بها بعمق: (آه لحالي، إذا كان حبا فكم هو معذب).
دخولي إلى الجريدة بالأفرهول، وبذقن غير حليقة، أيقظ بعض الشكوك حول حالتي الذهنية. المبنى المرمم، مع كبينات فردية من الزجاج، وأنوار سمتية، بدا كأنه مستشفى أمومة وتوليد. فالجو الصامت والمريح بتصنع يغري بالتحدث همسا والمشي على رؤوس الأصابع. في ردهة المدخل، ومثل نواب ملك موتى، كانت الصورة الزيتية للمديرين الثلاثة مدى الحياة، والصور الفوتوغرافية للزائرين المشهورين. وكان يتصدر القاعة الرئيسة الهائلة صورة ضخمة لهيئة التحرير الحالية، التقطت في مساء عيد ميلادي. لم أستطع تفادي المقارنة الذهنية مع الصورة الأخرى، الملتقطة وأنا في الثلاثين. وتأكدت مرة أخرى بذعر أن المرء يشيخ في الصور أكثر، وبصورة أسوأ، مما هو في الواقع. السكرتيرة التي قبلتني في مساء يوم عيد ميلادي، سألتني إذا ما كنت مريضا. وأسعدني أن أجيبها بالحقيقة كيلا تصدقني: إنني مريض بالحب. فقالت هي: مؤسف أنه ليس هياما بي! فرددت إليها المجاملة: لا تكوني واثقة إلى هذا الحد.
خرج المحرر القضائي من كبينته صارخا بأن هناك جثتي فتاتين مجهولتي الهوية في المشرحة البلدية. سألته مذعورا: ما هي سنهما؟ فقال هو: إنهما شابتان. يمكن أن تكونا لاجئتين من المناطق الداخلية، طاردهما قتلة النظام إلى هنا. زفرت براحة. وقلت: الوضع يداهمنا بصمت مثل بقعة دم. فصرخ المحرر القضائي وقد صار بعيدا:
- ليس مثل بقعة دم يا معلم، بل براز.
شيء أسوأ من ذلك حدث لي بعد أيام، عندما لمحت بصورة خاطفة فتاة تحمل سلة مثل سلة القط، مرت كأنها قشعريرة قبالة مكتبة موندو. لحقت بها أشق طريقي بمنكبي بين حشد في زحام الساعة الثانية عشرة ظهرا. كانت جميلة جدا، خطواتها واسعة وانسيابية في شق طريق لنفسها بين الناس، مما كلفني جهدا في اللحاق بها. وأخيرا تجاوزتها، ونظرت إليها مواجهة. فأبعدتني جانبا بيدها، دون أن تتوقف ودون استئذان. لم تكن من ظننتها، ولكن كبرياءها آلمني كما لو كانت هي. عندئذ أدركت أنني لن أكون قادرا على التعرف على ديلغادينا وهي مستيقظة ومرتدية ملابسها، ولا يمكن لها هي أن تعرف من أنا لأنها لم ترني قط. وفي تصرف جنوني، قمت خلال ثلاثة أيام بحياكة اثني عشر زوجا من الأخفاف الصغيرة الزرقاء والوردية لأطفال حديثي الولادة، محاولا بذلك منح نفسي الشجاعة على عدم سماع أو غناء أو تذكر الأغنيات التي تذكرني بها.
الحقيقة أني لم أكن قادرا على تحمل روحي، وبدأت أعي الشيخوخة من هواني في الحب. وجاءني دليل آخر أشد درامية، عندما صدمت حافلة نقل عامة فتاة على دراجة، في وسط مركز المدينة التجاري. كانوا قد حملوها للتو في سيارة إسعاف، وكان يمكن تقدير حجم المأساة من الخردة التي تحولت إليها الدراجة فوق بركة من الدم الطازج. ولكن تأثري لم يكن كبير بسبب تهشم الدراجة، وإنما بسبب ماركتها، وموديلها، ولونها. لا يمكن لها إلا أن تكون الدراجة نفسها التي أهديتها أنا نفسي إلى ديلغادينا.
اتفق من شهدوا الحادث على أن صاحبة الدراجة الجريحة، شابة فتية، طويلة القامة ونحيلة، لها شعر قصير وأجعد، وبارتباك ركبت أول سيارة أجرة مرت من هناك وطلبت أخذي إلى مستشفى الإحسان، وهو بناء قديم، لجدرانه لون أمغر قاتم، يبدو كأنه سجن جانح على شط رملي. احتجت إلى نصف ساعة من أجل الدخول، ونصف ساعة أخرى للخروج من فناء يعبق برائحة أشجار مثمرة، حيث اعترضت امرأة مدعية طريقي، نظرت إلى عيني وهتفت:
- أنا هي من تبحث عنها.
عندئذ فقط تذكرت أن ذلك المكان يعيش فيه، طليقين، نزلاء مشفى المجانين الوديعون. كان لا بد لي من التعريف بنفسي كصحفي، أمام إدارة المستشفى، كي يقودني ممرض إلى قسم الإسعاف. وجدت المعلومات عن الفتاة في سجل الدخول: روسالبا ريوس، ستة عشر عاما، بلا مهنة معروفة. والتشخيص: ارتجاج في الدماغ. التوقعات: تحفظ. سألت رئيس القسم إذا كان بإمكاني رؤيتها، وأنا آمل في أعماقي أن يقال لي لا. لكنهم أخذوني إليها بسعادة، على أمل أن أكتب شيئا عن حالة الإهمال المزرية في المستشفى.
اجتزنا قاعة تعبق برائحة حمض فينيك نفاذة، والمرضى فيها مكومون على الأسرة. وفي العمق في حجرة منفردة كانت من نبحث عنها ممددة على عربة نقالة. كان رأسها ملفوفا بالضمادات، ووجهها الذي لا يمكن تفسيره مشوها ونغطى بكدمات زرقاء داكنة، ولكن رؤية قدميها كانت كافية لأعرف أنها ليست هي. وعندئذ فقط، خطر لي أن أسأل نفسي: ما الذي كنت سأفعله لو أنها هي؟
وبينما أنا لا أزال متورطا في شبكة عنكبوت الليلة السابقة وجدت الشجاعة للذهاب، في اليوم التالي، إلى مصنع القمصان حيث أخبرتني روسا كاباركاس، ذات مرة أن الطفلة تعمل فيه، وطلبت من صاحبة المصنع أن يرينا منشآته، لتكون نموذجا لمشروع قاري ستقيمه الأمم المتحدة. كان لبنانيا سميك الجلد، وقليل الكلام، فتح لنا أبواب مملكته، على أمل أن تصبح نموذجا عالميا.
ثلاثمائة فتاة يرتدين بلوزات بيضاء، ورماد الأربعاء على جباههن، يخطن أزرارا في القاعة الفسيحة المنيرة، عندما رأيننا ندخل انتصبن واقفات كتلميذات، ونظرن إلينا بطرف عيونهن، والمدير يشرح لنا ويوضح مساهماته في فن تثبيت الأزرار العريق. كنت أتفحص وجه كل واحدة منهن، خائفا أن أكتشف وجود ديلغادينا مرتدية ثيابها ومستيقظة. غير أن واحدة منهن هي التي اكتشفتني، بنظرتها الخائفة من الإدارة التي لا ترحم:
- قل لي يا سيدي، ألست أنت من يكتب رسائل الحب في الجريدة؟
لم أتخيل قط أنه يمكن لطفلة نائمة أن تحدث مثل هذا الخراب. هربت من المصنع دون أن أودع، وحتى دون أن أفكر في أن من أبحث عنها هي واحدة من عذراوات المطهر أولئك، عندما خرجت من هناك، كان الشعور الوحيد الذي تبقى لي في الحياة، هو الرغبة في البكاء.
اتصلت بي روسا كاباكاس بعد شهر، بتفسير لا يصدق:
لقد ذهبت في استراحة مستحقة، إلى كارتاخينا دي إندياس، بعد مقتل المصرفي. لم أصدقها بالطبع، ولكنني هنأتها على حسن حظها وتركتها تتمادى في كذبتها قبل أن أوجه السؤال الذي يفور في قلبي:
- وهي؟
استغرقت روسا كارباكاس في صمت طويل، ثم قالت أخيرا: إنها موجودة، ولكن صوتها صار متهربا وهي تقول: لا بد من الانتظار لبعض الوقت. كم؟ ليست لدي أي فكرة، سوف أخبرك لاحقا. أحسست أنها ستفلت مني، فأوقفتها بجفاء: انتظري أعطيني نورا ما؟ فقالت: لا وجود لأي نور، وانتهت إلى القول: كن حذرا، يمكن لك أن تلحق الضرر بنفسك، وأن تسبب لها ضررا أكبر. لم أكن مستعدا لمثل هذا النوع من التمنع. توسلت إليها ولو مجرد فرصة لتقريبي من الحقيقة، وقلت لها إننا في نهاية المطاف شركاء في التواطؤ. ولكنها لم تقم بأي خطوة إضافية. بل قالت: اهدأ، الطفلة بخير، وتنتظر أن أستدعيها، ولكن ليس هناك ما يمكن عمله الآن، ولن أقول المزيد. وداعا.
ظللت ممسكا الهاتف بيدين دون أن أدري من أين سأواصل، فقد كنت أعرفها جيدا، وبما يكفي لأن أفكر في أنني لن أستطيع الحصول على أي شيء منها إلا بالحسنى. بعد الظهر قمت بجولة اضطرارية باتجاه بيتها، واضعا ثقتي في المصادفة أكثر من العقل، ووجدت الباب لا يزال مقفلا وعليه ختم مصلحة الصحة. فكرت في أن روسا كاباركاس قد اتصلت بي من مكان آخر، وربما من مدينة أخرى. ومجرد الفكرة ملأتني بنذر عكرة. ومع ذلك، في الساعة السادسة مساء، وحين لم أكن أنتظر ذلك، وجهت إلي عبر الهاتف، كلمة السر نفسها التي كنت قد قلتها لها من قبل:
- حسن، الآن أجل.
في الساعة العاشرة، وكنت أرتجف وأعض شفتي كيلا أبكي، ذهبت محملا بعلب شوكلاتة سويسرية، وحلوى لوز وسكاكر، وسلة أزهار متوقدة لأغطي بها السرير. كان الباب مواربا، والأنوار مضاءة، وكانت تنساب من المذياع بصوت متوسط الارتفاع، سوناتا الكمان والبيانو الأولى لبراهمز. وكانت ديلغادينا في السرير مشعة ومختلفة إلى حد تكلفت جهدا في التعرف إليها.
كانت قد كبرت، ولكن ذلك لم يبد في طول قامتها، وإنما في نضوجها المندفع الذي جعلها تبدو أكبر بسنتين أو ثلاث سنوات، وكانت أكثر عريا من أي وقت آخر. وجنتاها المرتفعتان، والبشرة المحمصة بشموس بحر مائج، والشفتان الدقيقتان والشعر القصير والمجعد، كلها كانت تضفي على وجهها بريق (أبو لو) براكستليس خنثى. ولكن لم يكن ثمة مجال للخطأ، لأن نهديها قد كبرا، حتى أن كفي لم تعد تتسع لهما، واكتمل تشكل ردفيها وتناسقهما للتو. فتنتني دقة الطبيعة الصائبة تلك، ولكن حيل الزينة بلبلتني: الأهداب الاصطناعية، أظفار اليدين والقدمين المطلية بلون صدفين والعطر الرخيص الذي ليست له أي علاقة بالحب. ومع ذلك فإن ما أثار حفيظتي هي الثروة التي تتزين بها: قرط ذهبي مرصع بالزمرد، وعقد من اللؤلؤ الطبيعي، وسوار ذهبي يتخلله بريق ألماس، وخواتم بأحجار ثمينة في كل أصابعها. على الكرسي كان فستانها كبنت ليل موشى بالخرز والتطريز، وكان هناك أيضا حذاؤها المخملي، صعد رعب غريب من أعماقي وصرخت:
- عاهرة.
فقد همس الشيطان في اذني بفكرة مشؤومة. وكانت كما يلي: لا بد أن روسا كاباركاس لم تجد، في ليلة الجريمة الوقت ولا صفاء الذهن اللازمين لتنبه الطفلة، فوجدتها الشرطة في الغرفة وحدها، قاصر وفي مسرح الجريمة. ليس هناك من هي مثل روسا كاباركاس في استغلال مثل ذلك الوضع: باعت بكارة الطفلة إلى أحد زبائنها المتنفذين الكبار، مقابل أن يخرجوها نظيفة من الجريمة. وكان أول ما فعلته طبعا هو الاختفاء ريثما تهدأ الفضيحة. يا للروعة! شهر عسل لثلاثة. هما الاثنان في الفراش، وروسا كاباركاس على شرفة فاخرة، تستمتع بنجاتها السعيدة من العقاب. أعماني غضب أهوج، ورحت أهشم على الجدران كل شيء في الغرفة: المصابيح، المذياع، المروحة، المرايا، المزهريات، الكؤوس. فعلت ذلك دون تسرع، ولكن دون توقف أيضا، وبضجة كبيرة، وبنشوة منهجية أنقذت حياتي. طفرت الطفلة في مكانها لدى الفرقعة الأولى، ولكنها لم تنظر إلي، وإنما تكورت مديرة ظهرها لي، وظلت على تلك الحال، مع تشنجات عضلية لا إرادية، إلى أن انتهت الضجة وزادت دجاجات الفناء وكلاب الفجر من الجلبة. وبوضوح الغضب المبهر جاءني الإلهام الأخير بإضرام النار في البيت، في الوقت الذي ظهرت فيه روسا كارباكاس هادئة عند الباب بقميص النوم. لم تقل شيئا. جردت بنظرها أضرار الكارثة، وتأكدت من أن الطفلة التي تتقوقع على نفسها مثل حلزون ورأسها مخبأ بين ذراعيها، مروعة ولكنها سليمة.
- رباه، هتفت روسا كاباركاس، ما الذي لم أكن مستعدة لتقديمه مقابل حب كهذا؟
تأملت كامل قامتي بنظرة مشفقة، وقالت لي آمرة: هيا بنا. تبعتها إلى بيتها. قدمت لي كأس ماء بصمت، وأومأت لي أن أجلس قبالتها، وطالبتني بالاعتراف. قالت لي: حسن، تصرف الآن كراشد، وأخبرني: ما الذي أصابك؟
أخبرتها بما أرى أنه حقيقة بينة. استمعت إلي روسا كاباركاس بصمت، دون استغراب، وأخيرا بدت مشرقة. قالت لي: يا للروعة، لقد كنت أقول على الدوام، إن الغيرة تعرف أكثر مما تعرفه الحقيقة. وأخبرتني عندئذ بالحقيقة دون تحفظ. قالت إنها في ذهول ليلة الجريمة نسيت الطفلة بالفعل نائمة في إحدى الغرف. وقد قام أحد زبائنها وهو محامي القتيل في الوقت نفسه، بتوزيع الهبات والرشى بسخاء، ودعا روسا إلى فندق استجمام في كارتاخينا دي إندياس، ريثما تتلاشى ضجة الجريمة. وقالت روسا: لم أتوقف طوال هذا الوقت لحظة واحدة عن التفكير بك وبالطفلة. وقد رجعت أول أمس، وكان أول ما فعلته هو الاتصال بك هاتفيا. ولكن أحدا لم يرد، أما الطفلة فجاءت فورا وكانت في حالة مزرية جدا حتى إنني حممتها لك وألبستها وأرسلتها إلى صالون التجميل، طالبة أن يجملوها كملكة، وقد رأيت كيف هي: على أكمل حال. الملابس الفاخرة؟ إنها من الفساتين التي أؤجرها إلى فتياتي الفقيرات، عندما يكون عليهن الذهاب إلى حفلات راقصة مع الزبائن. المجوهرات؟ إنها مجوهراتي، ويكفي أن تلمسها لتتبين أنها الماس من الزجاج، وحلي من الصفيح. وانتهت إلى القول: وهكذا كفاك إزعاجا، هيا اذهب لإيقاظها والاعتذار منها، وتول مسؤوليتها نهائيا. ليس هناك من هو أحق منكما بالسعادة.
بذلت جهدا خارقا لأصدقها، ولكن الحب كان أقوى من العقل. عاهرات! قلت لها معذبا بالنار المتأججة التي تحرقني من الداخل. وصرخت: هذه هي حقيقتكن: عاهرات براز! لا أريد أن أعرف أي شيء عنك أو عن أي عاهرة أخرى في العالم، وخاصة هي. أومأت إليها من الباب بإشارة وداع إلى الأبد، ولم يخامر روسا كاباركاس الشك في جديتي.
- ليكن الرب معك –قالت لي بتكشيرة حزن، ثم عادت إلى حياتها الواقعية لتقول:- على كل حال، سأرسل إليك فاتورة بالأضرار التي أحدثتها في الغرفة.

[CENTER]الفصل الخامس

بينما أنا أقرأ (إيدوس مارس) وجدت جملة مشؤومة ينسبها المؤلف إلى يوليوس قيصر: ( من المستحيل ألا ينتهي المرء إلى أن يكون مثلما يظنه الآخرون). لم أستطع التأكد من الأصل الحقيقي للجملة في كتابات يوليوس قيصر، ولا في أعمال كتاب سيرته، ابتداء من سيتونيو حتى كاركوبينو، ولكن معرفتها تستحق العناء، فانطباق قدريتها على مسار حياتي في الشهور الأخيرة التالية هو ما منحني التصميم الذي أحتاج إليه، ليس من أجل كتابة هذه الذاكرة فقط، وإنما لأبدأها حياء بحبي لديلغادينا.
لم أكن أجد لحظة من الراحة، وكنت لا أكاد آكل شيئا، وفقدت كثيرا من وزني حتى أن بناطيلي لم تعد تثبت على خصري. الآلام المتنقلة استقرت في عظامي، وكان مزاجي يتبدل دون سبب. أقضي الليالي في حالة انبهار، لا تسمح لي بالقراءة، ولا سماع الموسيقى، واقضي النهار بالمقابل، ورأسي يتثاقل في إغفاءات بلهاء، لا تنفع للنوم.
نزلت علي الراحة من السماء، ففي جندول لوما فريسكا المزدحم همست في أذني جارة في المقعد، لم أنتبه إليها حين صعدت: هل ما زلت تضاجع؟ كانت كاسيلدا أرمينتا. إنها حب قديم من غراميات ثلاثة بخمسة، تحملتني كزبون مواظب منذ كانت صبية متكبرة. وبعد تقاعدها، وهي نصف مريضة وليس لديها فلس واحد، تزوجت من بستاني صيني منحها اسما ودعما، وربما القليل من الحب. كان لا يزال لها اللون نفسه، وهي في الثالثة والسبعين من عمرها، ولا تزال جميلة وقوية الشخصية وتحتفظ بتدفق المهنة وطلاقة اللسان.
أخذتني إلى بيتها في بستان صنيين على رابية في الطريق على البحر. جلسنا على كراسي الشاطئ، على شرفة ظليلة، ما بين سراخس وشجيرات أسترومليا وارفة، وأقفاص طيور معلقة بأفاريز السقف. وعلى سفح الرابية، كان البستانيون الصينيون يظهرون بقبعاتهم المخروطية، وهم يزرعون الخضروات تحت الشمس المحرقة، ويظهر لنا كذلك البحر الرمادي عند بوكاس دي ثينيثا، مع سدين من الصخور يحددان ضفتي النهر، لعدة فراسخ داخل البحر.
وبينما نحن نتبادل الحديث رأينا عابرة محيطات بيضاء تدخل مصب النهر، وتتبعناها صامتين على أن سمعنا خوار الثور الكئيب الذي أطلقته في المرفأ النهري. فتنهدت هي: أتتذكر؟ منذ أكثر من نصف قرن، هذه هي المرة الأولى التي لا أستقبلك فيها في الفراش. فقلت: لقد صرنا آخرين. وواصلت هي دون أن تسمعني: كلما قالوا شيئا عنك في المذياع، يمتدحونك للمحبة التي يكنها الناس لك، ويسمونك معلم الحب، تصور، أفكر في انه ليس هناك من عرف ظرافاتك ونزواتك مثلما عرفتها أنا. وقالت: بجد، ما كان يمكن لأحد أن يتحملك خيرا مني.
لم أستطع المقاومة أكثر. وانتبهت هي إلى ذلك، رأت عيني المضمختين بالدموع، ولا بد أنها اكتشفت عندئذ فقط أنني لست الشخص الذي كنته. حدقت فيها بجرأة لم أتصور قط أنني قادر عليها، وقلت لها: المسألة هي أنني آخذ بالهرم. فتنهدت هي: بل إننا هرمنا. والمسألة هي أن أحدنا لا يشعر بذلك في داخله، فيما الجميع يرونه من الخارج.
كان مستحيلا ألا افتح لها قلبي، وهكذا أخبرتها بقصة ما يحرقني من الداخل كاملة، منذ مكالمتي الأولى مع روسا كاباركاس، عشية بلوغي التسعين، وحتى الليلة التراجيدية التي حطمت فيها الغرفة، ولم أرجع بعدها. استمعت إلي وأنا أفرج عن نفسي، كما لو أنها تعيش ما أرويه، ثم قلبته وفكرت فيه بتمهل شديد، وأخيرا ابتسمت، وقالت لي:
- افعل ما تشاء، ولكن لا تضيع هذه المخلوقة. فليس هناك نكبة أسوأ من موت المرء وحيدا.
ذهبنا إلى بويرتو كولومبيا، في القطار الصغير الشبيه بلعبة أطفال، والبطيء مثل حصان. تناولنا الغداء قبالة المرسى الخشبي المنخور الذي دخل منه الجميع إلى البلاد، قبل أن يتم تجريف مصب بوكاس دي ثينيثا. جلسنا تحت مظلة من سعف النخيل، حيث تقدم النساء الزنجيات السمينات، سمكا مقليا مع رز جوز الهند، وشرحات الموز الأخضر. غفونا في قيظ الساعة الثانية الشديد، وواصلنا الحديث إلى أن غطست الشمس الملتهبة الضخمة في البحر. بدا لي الواقع وهميا. انظر إلى أين تحقق شهر عسلنا، قالت هي ساخرة، ولكنها تابعت بجد: إنني أنظر اليوم إلى الوراء، وأرى صفوف آلاف الرجال الذين مروا على فراشي، وأقدم روحي لأنني بقيت ولو مع الأسوأ منهم، الحمد لله أنني عثرت على صيني في الوقت المناسب. إنني كمن هي متزوجة من عقلة الإصبع، ولكنه لي وحدي.
نظرت إلى عيني لتقدر رد فعلي على ما حدثتني به للتو، وقالت لي: اذهب الآن فورا، للبحث عن هذه المخلوقة البائسة، حتى وإن كان صحيحا ما تقوله لك الغيرة، ولتكن ما تكون، فما حدث لا يمكن لأحد أن يبدله. ولكن دون رومانسيات جد عجوز، أيقظها، ضاجعها حتى من أذنيها بعضو الحمار هذا الذي كافأك به الشيطان، بسبب نذالتك وخستك. وانتهت إلى القول من أعماق روحها: بجد، إياك أن تموت قبل أن تجرب روعة المضاجعة عن حب.
كانت يدي ترتجف، في اليوم التالي، عندما أدرت رقم الهاتف، سواء بسواء توتري من العودة للقاء مع ديلغادينا، أو من تشككي من الطريقة التي سترد بها علي روسا كاباركاس، كنا قد اختلفنا في نزاع جدي، بسبب تعسفها في تقويم الأضرار التي أحدثت في غرفتها. وكان علي أن أبيع لوحة محببة من لوحات أمي، تقدر قيمتها بثروة كبيرة، ولكنني في ساعة الحقيقة لم أحصل ولو على عشر أوهامي. فزدت المبلغ بما تبقى من مدخراتي، وحملته إليها بعبارة لا تقبل الاستئناف: إما أن تأخذي المبلغ أو تتخلي عنه. كان تصرفا انتحاريا، لأنه يمكن لها ببيع سر واحد من أسراري أن تقوض اسمي وسمعتي. ولكنها لم تتأثر بل احتفظت باللوحات التي كانت قد أخذتها كرهن، في ليلة النزاع كنت الخاسر المطلق في لعبة واحدة: فقد وجدت نفسي من دون ديلغادينا ومن دون روسا، ومن دون آخر مدخراتي، ومع ذلك سمعت رنين الهاتف مرة مرتين ثلاثا، وأخيرا جاء صوتها: نعم؟ لم يخرج صوتي. وأعدت سماعة الهاتف. استلقيت في أرجوحة النوم محاولة استعادة هدوئي بشعر زهدي غنائي لساتيه، وتعرقت إلى حد تبلل معه قماش الأرجوحة. ولم أجد الشجاعة للاتصال حتى اليوم التالي.
- حسن يا امرأة – قلت بصوت حاسم- اليوم أجل.
وكانت روسا كاباركاس، وكيف لا، قد تجاوزت كل شيء، تنهدت بحماسها الذي لا يهزم: آي يا عالمي الحزين، تختفي شهرين وتأتي لتطلب أوهاما وحسب. أخبرتني أنها لم تر ديلغادينا منذ أكثر من شهر، وبدا لها أنها قد استعادت توازنها من الرعب الذي سببه لها تحطيمي للغرفة، حتى إنها لم تتحدث عن تلك الأضرار، ولم تسأل عني. وكانت سعيدة جدا بعمل جديد أكثر راحة وأفضل أجرا من خياطة الأزرار. أحرقت موجة نار متقدة أعماقي. وقلت: لا يمكن لهذا العمل إلا أن يكون الدعارة. فردت علي روسا كاباركاس دون أن يرف لها جفن: لا تكن فظا، لو أنها عملت عاهرة لكانت هنا. فأين يمكن لها أن تكون أفضل؟ سرعة جوابها المنطقي زادت من شكوكي: وكيف أعرف أنها ليست عندك؟ فأجابت هي: في هذه الحالة، من الأفضل لك ألا تعرف شيئا، أليس كذلك؟ كرهتها مرة أخرى. وتعهدت هي، متجاوزة الضغائن، بتتبع أثر الطفلة. ولكن دون أمل كبير، لأن هاتف الجارة، حيث كانت تتصل بها، لا يزال مقطوعا وليس لديها أدنى فكرة عن مكان إقامتها. وقالت: ولكن هذا لا يعني أن تستسلم للموت، يا للعنة، سأتصل بك خلال ساعة.
كانت ساعة من ثلاثة أيام، ولكنها عثرت على الطفلة مستعدة وسليمة. رجعت خجلا، وقبلتها شبرا شبرا، كتكفير، منذ الثانية عشرة ليلا حتى صياح الديكة. اعتذار طويل عاهدت نفسي على مواصلة تكراره إلى الأبد، وكان ذلك كالعودة في كل مرة للبدء من الصفر. كانت الغرفة خربة، وكان سوء التصرف قد أجهز على كل ما وضعته فيها. لقد تركت روسا الغرفة على هذه الحال، وقالت لي إن أي تحسين يجب أن أقوم به بنفسي، مقابل ما أنا مدين لها به. ومع ذلك فإن وضعي المادي كان يلامس القاع. فنقود التقاعد لا تكفي إلا لأشياء أقل في كل مرة.و الأشياء القليلة القابلة للبيع مما تبقى في البيت –باستثناء مجوهرات أمي المقدسة- تخلو من أي قيمة تجارية، وليس هناك ما هو قديم جدا ليباع على أنه أثري. ففي أزمنة أفضل من هذه قدم لي المحافظ عرضا مغريا، لشراء كامل ما لدي من مؤلفات الكتاب الكلاسيكيين الإغريقيين واللاتينيين والأسبان، من أجل مكتبة المقاطعة، ولكن قلبي لم يطاوعني على بيعها. وفيما بعد مع التبدلات السياسية وتردي العالم، لم يعد هناك في الحكومة من يفكر في الفنون أو الآداب. ومتعبا من البحث عن حل مشرف، وضعت في جيبي المجوهرات التي كانت ديلغادينا قد أعادتها إلي وذهبت لرهنها في شارع شؤم يؤدي إلى السوق العام. ذرعت عدة مرات، بهيئة عالم ساه، زقاق الأوكار ذاك المزحوم بحانات سيئة السمعة، ومحلات بيع كتب قديمة، بيوت رهونات، لكن كرامة فلورينا دي ديوس، سدت الطريق أمامي: لم أمتلك الجرأة، عندئذ قررت أن أبيعها برأس مرفوع، في أقدم محل مجوهرات وأرسخها مكانة.
وجه إلي الموظف بعض الأسئلة وهو يفحص المجوهرات بنظارة المونوكل. كان له سلوك وأسلوب ورهبة الطبيب. أوضحت له أنها مجوهرات موروثة عن أمي. وكن يوافق على كل توضيح مني بهمهمة. وأخيرا نزع المونوكل عن عينه وقال:
- آسف ولكنه مجرد زجاج من قوارير.
وحيال مفاجأتي أوضح لي بعذوبة مشفقة: لحسن الحظ أن الذهب ذهب والبلاتين بلاتين. لمست جيبي لأتأكد من وجود إيصالات الشراء معي وقلت دون إساءة:
- لقد اشتريت المجوهرات من هذا المتجر السامي نفسه، قبل أكثر من مئة سنة.
لم يسبب له ذلك أي ارتباك. وقال: يحدث عادة في المجوهرات الموروثة أن تأخذ أثمن الأحجار بالاختفاء مع مرور الزمن؛ وتستبدل على يد ضالين من الأسرة أو على يد صائغين لصوص. ولا تكتشف الخدعة إلا عندما يحاول أحد بيعها. ولكن اسمح لي بثانية واحدة، قال ذلك، وحمل المجوهرات عبر الباب الذي في العمق. ورجع بعد دقائق، ودون أن يقدم أي توضيح، أومأ لي بان أجلس على كرسي الانتظار، وواصل عمله. تفحصت لمتجر. كنت قد جئت إليه مع أمي عدة مرت، وأتذكر كلمة كانت تتكرر: (لا تخبر أباك). وفجأة خطرت لي فكرة جعلت بدني يقشعر : ألا تكون روسا كاباركاس وديلغادينا، في اتفاق مشترك، قد باعتا الأحجار الثمينة الأصلية، وأعادتا لي المجوهرات بأحجار مزيفة؟
كنت تأجج في الشكوك، عندما دعتني سكرتيرة لمرافقتها عبر الباب نفسه الذي في العمق، إلى مكتب صغير، فيه خزانة طويلة تضم مجلدات ضخمة. نهض بدوي بدين من وراء المنضدة التي في صدر الغرفة، وصافحني قائلا على سبيل التحية دون كلفة، وبتدفق أصدقاء قدماء: لقد درسنا الثانوية معا. كان من السهل علي تذكره، فقد كان أفضل لاعب كرة قدم في المدرسة، وبطل مواخيرنا الأولى. كنت قد توقفت عن اللقاء به في لحظة غير مؤكدة، ولا بد أنه رآني هرما جدا فخلط بيني وبين أحد زملاء الطفولة.
كان هناك على زجاج منضدته مجلد مفتوح، من مجلدات أرشيف المحل، حيث سجل مجوهرات أمي، سرد دقيق، بالتواريخ والتفاصيل، يبين أنها هي نفسها من طلبت استبدال أحجار جيلين من نساء آل كارغامينتوس الجميلات والوقورات و باعت الأحجار الأصلية إلى المتجر نفسه. حدث هذا عندما كان أبو المالك الحالي يدير متجر المجوهرات، وكنا أنا وهو تلميذين في المدرسة، ولكنه طمأنني، فمثل تلك الحيل كانت شائعة بين العائلات الكبيرة المنكوبة، من أجل حل حاجة مستعجلة للمال، دون التضحية بشرفها. وحيال الحقيقة الفجة، فضلت الاحتفاظ بالمجوهرات كذكرى من فلورينا دي ديوس أخرى لم أعرفها قط.
في أوائل شهر تموز، أحسست بالبعد الحقيقي للموت، فقد قلبي وزنه، وبدأت أرى نذر النهاية المؤكدة، وأشعر بها في كل مكان. وكان أكثر تلك النذر وضوحا، الحفلة الموسيقية في قاعة الفنون الجميلة. فقد تعطلت أجهزة التكييف، وكان صفوة رجال الفنون والآداب يُطهون بعرقهم في القاعة المكتظة، ولكن سحر الموسيقى كان جوا سماويا. وفي النهاية، عند عزف Allegretto poco mosso ، هزني الكشف المبهر بأنني أستمع إلى آخر كونشيرتو يتيحه لي القدر قبل أن أموت، لم أشعر بألم ولا بخوف، وإنما بتأثر جارف، بأنني تمكنت من المواصلة إلى أن انتهيت من سماع الكونشيرتو.
وعندما تمكنت في النهاية من شق طريقي وأنا مبلل بالعرق وسط المعانقات والصور، وجدت نفسي وجها لوجه مع خيمينا أورتيث، مثل ربة عمرها مئة سنة، على كرسي متحرك، مجرد حضورها فرض نفسه علي مثل خطيئة مميتة. كانت ترتدي عباءة حريرية، وتضع عقد لؤلؤ أصلي من ثلاث لفات، وكان شعرها الذي بلون الصدف مقصوصا على موضة سنوات العشرينات، مع طرف منه على خدها، كجناح نورس، وعيناها الواسعتان الصفراوان تزدادان تألقا بالظل الطبيعي الذي يحيط بهما. كل شيء فيها يناقض ما يشاع عن أن عقلها قد مسح وصار بياضا، بفعل تآكل الذاكرة الذي لا مفر منه. وجدت نفسي متجمد وبلا مهرب في مواجهتها، فتغلبت على هبة النار التي صعدت إلى وجهي وحييتها بصمت، بانحناءة فرسائية. فابتسمت مثل ملكة، وأمسكت يدي، وانتبهت عندئذ أنها هي أيضا مستهدفة من القدر، ولم أضيع الفرصة كي انتزع شوكة تؤرقني منذ الأزل، فقلت لها: لقد حلمت سنوات طويلة بهذه اللحظة. بدا عليها أنها لم تفهمني، وقالت: صحيح! ومن تكون أنت؟ لم أدر قط، إذا كانت قد نسيتني حقا أم أنه انتقام حياتها الأخير.
أما اليقين بأنني خالد بالمقابل، ففاجأني قبل قليل من بلوغي الخمسين، في مناسبة كتلك، في ليلة كرنفال، رقصت فيه تانغو أباتشي مع امرأة عجيبة، لم أر وجهها قط، أضخم جسدا مني بما يقارب الأربعين ليبرة، وأطول قامة بشبرين تقريبا، وتتيح أن تحمل مع ذلك مثل ريشة في مهب الريح. كنا نرقص متلاصقين جدا، حتى إنني أحسست بدوران دمها في عروقها، ووجدت نفسي كالمنوم تلذذا بأنفاسها اللاهثة، ورائحة أمونياك عرقها وثدييها اللذين كثديي منجمة عندما هزني لأول مرة جؤار الموت، وكاد يطرحني أرضا. كان ذلك على شكل نبوءة فظة في الأذن: افعل ما تشاء، ففي هذه السنة أو بعد مئة سنة ستكون ميتا إلى أبد الآبدين. ابتعدت المرأة عني مذعورة: ماذا أصاباك؟ لا شيء، قلت لها ذلك وأنا أحاول تثبيت قلبي، وأضفت:
- إنني أرتعش هياما بك.
منذ ذلك الحين، بدأت أقيس الحياة بالعقود وليس بالسنين، فخمسينياتي كانت حاسمة، لأنني وعيت فيها أن الجميع تقريبا، أصغر مني سنا، وسنوات ستينات حياتي كانت الأكثر زخما بسبب شكوكي بأنه لم يبق لي متسع من الوقت للخطأ. وكانت سنوات السبعينات مرهوبة بسبب خوفي من أن تكون الأخيرة. ومع ذلك عندما استيقظت حيا في صباح اليوم الأول من سنوات تسعيناتي في سرير ديلغادينا السعيد، اخترقتني الفكرة السارة بأن الحياة ليست شيئا يمضي مثل نهر هيراقليط. وإنما فرصة وحيدة لقلبنا على الشواية ومواصلة شوائنا جانبنا الآخر لتسعين سنة أخرى.
صرت سهل الدمع، فأي إحساس له علاقة بالحنان، يسبب لي عقدة في حلقي لا أتمكن دوما من التحكم بها، وفكرت في التخلي عن متعة السهر على نوم ديلغادينا، ليس ذلك لعدم يقينية موتي، بقدر ما هو ألم من تصورها من دوني في بقية حياتها. وفي أحد أيام الالتباس تلك رحت أجوب ساهيا شارع (الكتبة بالعدل) بالغ النبل، وفوجئت بأنه لم يعد يوجد هناك إلا أنقاض فندق الغراميات القديم، حيث أدخلت ُ عنوة ً إلى عالم فنون الحب، قبل قليل من بلوغي الثانية عشرة من عمري. لقد كان منزلا لأصحاب شركة ملاحة، لا يضاهيه في الروعة إلا قلة من البيوت في المدينة، بأعمدة مغطاة بصفائح المرمر. وأفاريز ملمعة بماء الذهب، يقوم حول فناء داخلي ذي قبة زجاجية من سبعة ألوان، تشع ببريق دفيئ. في الطابق السفلي ذي البوابة القوطية المطلة على الشارع كانت هناك لأكثر من قرن مكاتبة توثيق العقود الاستعمارية، حيث عمل والدي وازدهر وأفلس على امتداد حياة كاملة من الأحلام الخيالية. راحت العائلات التاريخية تهجر، شيئا فشيئا، الطوابق العليا التي انتهت إلى أن يشغلها جيش من بنات الليل المنكوبات اللواتي يصعدن وينزلن حتى الفجر، مع زبائن يصطدنهم، ببيزو ونصف، من حانات المرفأ النهري القريب.
في الثانية عشرة من عمري وكنت لم أزال أرتدي بنطالي القصير وجزمة المدرسة الابتدائية، لم أستطع مقاومة إغواء التعرف على الطوابق العليا، فيما والدي يجادل في واحد من اجتماعاته التي لا تنتهي، فوجدت نفسي في مشهد سماوي، النساء اللواتي يهدرن أجسادهن حتى الفجر يتنقلن في البيت منذ الحادية عشرة صباحا، عندما يشتد حر قبة الزجاج الملون بصورة لا تطاق، ويكون عليهن ممارسة حياتهن المنزلية بالتنقل عاريات في كل أنحاء البيت، وهن يتبادلن الحديث بأصوات صارخة عن مغامراتهن الليلية. وقفت مرعوبا. والشيء الوحيد الذي خطر لي هو الهروب من حيث دخلت، ولكن احتضنتني من الخلف إحدى العاريات. كانت متينة اللحم، تعبق برائحة صابون ريفي. وحملتني إلى حجرتها كرتونية الجدران، دون أن أتمكن من رؤيتها وسط صراخ وتصفيق النزيلات العرايا. ألقت بي على ظهري فوق سريرها الذي يتسع لأربعة أشخاص، ونزعت بنطالي بحركة بارعة، وامتطتني، لكن الهلع الجليدي الذي كان يبلل جسدي حال دون أن أتلقاها كرجل. في تلك الليلة وأنا مؤرق في فراشي في بيتنا، من خجل ذلك الانقضاض. لم أستطع النوم أكثر من ساعة، وأنا متلهف للعودة لرؤيتها. ولكنني في صبح اليوم التالي، فيما أهل السهر لا يزالون نائمين، صعدت مرتجفا إلى حجرتها، وأيقظتها وأنا أبكي بصوت عال، في حب مجنون استمر على أن عاثت به دون شفقة رياح الحياة الواقعية. كان اسمها كاستورينا، وكانت ملكة المحل.
كانت غرفة الفندق تؤجر ببيزو واحد للغراميات العابرة، ولكن قلة هم الذين يعرفون أن قضاء أربع وعشرين ساعة، يكلف السعر نفسه. أضف على ذلك أن كاستورينا أدخلتني في عالمها التعس، حيث اعتادت النزيلات دعوة الزبائن الفقراء إلى فطور احتفالي، وإعارتهم الصابون، ومعالجة آلام أسنانهم، وفي بعض الحالات المستعجلة، يقدمن لهم الحب إحسانا.
ولكن في أمسيات شيخوختي الأخيرة لم يعد هناك من يتذكر كاستورينا الخالدة، الميتة منذ وقت لا يعرفه أحد، والتي ارتقت من نواصي المرفأ النهري البائسة لتصل إلى العرش المقدس للقوادة الأم الكبرى، بعصبة قرصان على عينه المفقودة في نزاع حانة. وكان حاميها الأخير المناوب زنجيا سعيدا من كاماغوي، يسمونه يونس المجذف، وقد كان عازف ترومبون من الكبار في هافانا، إلى أن فقد الابتسامة الكاملة في كارثة قطارات.
لدى خروجي من تلك الزيارة المرة، أحسست بوخزة في القلب لم أستطع التخفيف منها، طوال ثلاثة أيام، بكل أنواع مشروبات النباتات البيتية المغلية. الطبيب الذي لجأت إليه على عجل، وهو فرد من سلالة أطباء مشهورين، كان حفيدا للذي فحصني وأنا في الثانية والأربعين، وقد أفزعني شبهه به، فقد كان هرما جدا مثل جده السبعيني، بفعل صلعة مبكرة، ونظارة قصر نظر لا عودة عنه، وكآبة لا عزاء لها. أجرى لي فحص دقيقا لجسدي بكامله، بتركيز ِ صائغ ٍ، تنصت إلى صدري وظهري، وفحص ضغطي الشرياني، وحركة ركبتي الانعكاسية، وعمق عيني، ولون الجفن السفلي. وخلال الوقفات وأنا أبدل وضعي على منضدة الفحص، كان يوجه إلي أسئلة شديدة الإبهام، وبسرعة يكاد لا يتيح لي معها المجال للإجابة. وبعد ساعة من الفحوص نظر إلي بابتسامة سعيدة وقال: حسن، أظن أنه ليس لدي ما أفعله لك. ما الذي تعنيه حضرتك؟ أعني أن وضعك في أحسن حال في سنك هذه. فقلت له: يا للغرابة، لقد قال لي جدك الشيء نفسه، حين كنت في الثانية والأربعين من عمري، يبدو كما لو أن الزمن لا ينقضي. فقال: سوف تجد دوما من يقول لك الشيء نفسه، لأنه ستكون لك سن ما في كل مرة. فحاولت أنا استفزازه لإصدار حكم مرعب بالقول له: السن الوحيدة الحاسمة هي الموت. فقال هو: أجل، ولكن ليس من السهل الوصول إليه في حال جيدة مثل حالتك. يؤسفني حقا أنني لا أستطيع خدمتك.
لقد كانت ذكريات نبيلة. ولكنني في عشية التاسع والعشرين من آب، أحسست بالثقل الهائل للقرن الذي ينتظرني، وأنا أصعد بخطوات حديدية أدراج بيتي. وعندئذ عدت لأرى مرة أخرى فلورينا دي ديوس، أمي، في سريري الذي كان سريرها حتى موتها. ومشوشا بالتأثر، فهمت تلك الذكرى على أنها الإنذار الأخير، فاتصلت بروسا كاباركاس كي تستدعي لي الطفلة، في تلك الليلة بالذات، خوفا من ألا يتحقق موتي بالبقاء على قيد الحياة حتى النفس الأخير من سنواتي التسعين. وعدت للاتصال بها في الساعة الثامنة، فكررت لي مرة أخرى، أن ذلك غير ممكن. فصرخت بها مرعوبا: يجب أن يكون ممكنا بأي ثمن. أغلقت الهاتف دون وداع، ولكنها عادت للاتصال بعد خمس عشرة دقيقة:
- حسن، هاهي هنا.
وصلت في العاشرة وعشرين دقيقة ليلا، وقدمت إلى روسا كاباركاس آخر أوراق حياتي، مع ترتيباتي بشأن الطفلة بعد نهايتي الرهيبة. ظنت هي أنني قد تأثرت للتجريح، وقالت لي بمزاج ساخر: إذا كنت تريد الموت فلا تفعل ذلك هنا، تصور. ولكنني قلت لها: قولي إن قطار بويرتو كولومبيا، ذلك الخردة البائس المحزن غير القادر قتل أحد، قد صدمني، ومستعدا لكل شيء في تلك الليلة، استيقظ على ظهري بانتظار الألم النهائي، في اللحظة الأولى من سنتي الواحدة
03-05-2006, 10:11 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
ذاكرة غانياتي الحزينات لـ : غابرييل غارسيا ماركيز - بواسطة قارع الأجراس - 03-05-2006, 10:11 AM

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  ذاكرة مصر المعاصرة اسحق 0 809 08-05-2009, 01:04 PM
آخر رد: اسحق
  صديقي ماركيز، أنت في البال دائما إبراهيم 4 1,051 09-06-2007, 06:20 PM
آخر رد: مالك
  غابريل ماركيز - قصص قصيرة ابن نجد 10 3,723 02-09-2007, 05:50 AM
آخر رد: ابن نجد
  ذاكرة الجسد-أحلام مستغانمي حسينو 11 2,731 01-17-2006, 05:19 PM
آخر رد: شاذلي

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS