بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
أخي الفاضل " جقل " .. تحية طيبة ..
يعجبني موضوعك و أتفق معك في بعض النقاط و أختلف معك في الكثير .. و كنت قد تناقشت مع الزميل شهاب الدمشقي في منتدى اللادينيين حول تلك القضية من قبل و كان له رأي مشابه لرأيك إلى درجة كبيرة ..
فدعني أضع بعض الملاحظات حوله ..
و لكن قبل أن أبدأ أبين لكَ موقفي من إعجاز القرآن الكريم ..
فالقرآن الكريم بالنسبة لي أساس إعجازه هو عجز العرب على الإتيان بمثله .. و لا أقول بلاغته و سبقه لمعلومات علمية و تشريعاته و و .. و كل هذه الأوجه المعجزة بل أقولها تحديدًا .. إن أكبر أوجه الإعجاز في القرآن الكريم هي عجز العرب الأقحاح على أن يأتوا بمثل هذا القرآن الكريم .. و لن أتكلم الآن عن دلالة المثلية و غيره ..
بل سأطرح سؤالًا ربما يساعدك في فهم وجه الإعجاز هنا .. و قد تعرض له الأخ " حاتم " في مقال له بمنتدى التوحيد من قبل بعنوان
... واحــتارت قـــــريش..
وهو .. هل القادر على هدم دين بصياغة نص و معارضة غيره .. يسير الجيوش تلو الجيوش ؟!
هل القادر على هدم دعوة و كلام شخص ما بمجرد معارضته لقصيدة أو غيره .. هل يسيِّرُ هذا الرجل الجيوش فيُقتل الأهل و الأصحاب و الأحباب ؟!
فها هم العرب معاصرو القرآن لم يعارضه أيهم .. رغم أنه قد بلغ بهم الغيط مبلغه من تحديه حتى تركوا راجح عقولهم و واجهوه بكل قبيح و لقوه بكل أذي و مكروه و وقفوا له بكل طريق و كادوا له أسوأ صنوف الشرور .. و فضلوا على معارضته أن يكتوا بنار الحرب حتى قتل صناديدهم و كبارهم و سبي ذراريهم و اولادهم ..
أوليس هذا دليل عجز ؟!
هذا مؤكد ! ..
طيب ..
قد يسألني سائل : و هل هذا دليل على إعجاز هذا النص ؟! .. لربما كان الشخص المُتحدى جاهلًا بالعربية أو بالبلاغة .. !
أقول له قد يصح كلامك لو كان العرب القدامى ليسوا من أهل اللغة و البلاغة ! .. و لكن العرب القدامى كانوا قد ملكوا خيوط اللغة فنسج بها سفهائهم ما ننظر نحن إليه بأنه قمة الأدب و البلاغة ! ..
و يحضرني قول قلته للزميل الختيار عندما كنت أناقشه .. فقلت له أنك تدعي أنك قد أتيت بما عجز عنه قوم كان ارتجال الشعر بينهم حاضرًا كمثل ما تشعل السيجارة حين تشعر بالغضب ! .. فقد ملكوا مفاتيح اللغة و عرفوا أسرارها .. بل كانوا يقيمون الأسواق للتباري في الشعر ..
و لكن دعنا نقرأ أقوال العلماء حتى لا نتهم بالمبالغة الكاذبة ..
هذا خالد بن صفوان يقول : ((
كيف نجاريهم و إنما نحكيهم ؟ أم كيف نسابقهم ، و إنما نجري على ما سبق إلينا من أعراقهم ؟ )) ..
و هذا الجاحظ يدعي للعرب الفضل على الامم كلها في الفصاحة و البلاغة و يناظر في ذلك الشعوبية و يجهلهم و يسفهم و يرميهم بالتعصب و يطيل في ذلك و ينيب ثم يقول : ((
و نحن ابقاك الله إذا ادعينا للعرب الفضل على الامم كلها في أصناف البلاغة ، من القصيد و الأرجاز ، و من المنثور و الأسجاع ، و من المزدوج و ما لا يزدوج ، فمعنا على أن ذلك لهم شاهد صادق ، من الديباخة الكريمة ، و الرونق العجيب ، و السبك و النحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم و لا ارفعهم في البيان أن يقول مثل ذلك ، إلا في اليسير و الشيء القليل )) البيان و التبيين ج3 ص29 .. و الامر في ذلك أظهر من أن ينكره إلا جاهل او معاند ..
فتأمل ! ..
فهل يمكن تفسير الأمر ؟ .. هل يمكن تفسير عجز شعراء العرب القدامى على معارضة سورة واحدة من كلام شخص أمي لا يقرأ و لا يكتب إلا بأنها معجزة ! ..
في أي خانة يمكنك تصنيف ستة آلاف آية و نيف ليس من بينها ثلاث آيات فقط تصلح للمعارضة ( و هي حجم سورة قصيرة من سور القرآن الكريم ) بل آية واحدة .. ( و هي حجم أصغر سورة في القرآن الكريم ) ..
أتعلم أخي أنه من الصعب جدًا أن تأتي بكلمة في موقف ما فتدعي أنها بليغة و تضمن أن غيرك من علماء اللغة لن يأتي بما هو أبلغ ؟؟
فما بالك بستة آلاف آية و نيف ليس من ضمنها آية واحدة عارضها أو انتقدها أحدًا من كفار قريش أو أرباب اللغة من العرب القدامى ؟! .. و هم الذي سيّرو الجيوش تلو الجيوش و قتل الحبيب و القريب ! ..
بل و ما بالك أن الذي قد أتى بهذا لم يشتهر عنه و لم يقل عنه أحدًا من خصومه أنه كان يحضر المباريات الشعرية أو يلقي شعرًا و لو سيئًا !! .. بل كان أكره ما عليه أن يقال عنه أنه شاعر أو مجنون ! ..
بل وأن خير دليل على ذلك إن راود أحدهم الشك في التاريخ .. أن يقرأ في القرآن الكريم نفسه .. فالله سبحانه و تعالى يقول في سورة الشعراء " و الشعراء يتبعهم الغاوون " ...
فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم يقول شعرًا أو يسمع للشعراء و يتبعهم .. فلماذا لم نسمع بأحد كفار قريش يعايره بأنه كان كذلك قبل القرآن الكريم ؟! لماذا رغم أنهم اتهموه بكل التهم التي لا تُعقل ؟! ..
و هل لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كذلك بالفعل من قبل و هو على زعمك يا أخي جقل " مؤلف القرآن الكريم " .. فهل كان سيرضى بأن يقول تلك الآيات و هي قد تفتح مجالًا للنقد و السخرية من قومه ؟!
لا شك أن ذلك لن يكون أبدًا ! ..
فإذن نحن أمام شخص لم يشتهر عنه إلقاء الشعر أو حتى مصاحبة الشعراء و يأتي بكلام على درجة من البلاغة بحيث لا يستطيع أحدًا من بلغاء العرب على كثرتهم و مهارتهم أن يعارضه ! ....
و المشكلة أنه لا يكتفي بتأثير تلك الكلمات على نفوسهم و قريحتهم .. و شهرتهم في تذوق الكلام و معرفة بلاغة .. فيؤمنوا به ..
بل إنه يتحداهم بأن يأتوا بمثله و يجعل هذا الأمر هو معجزته الرئيسة و حجته الظاهرة !!!!!!!! ..
كانت الآيات تنطق بلغتهم "الم"... كهيعص" .. وكان من المعروف بأن العرب من أشد الناس تفاخرا وكبرياء بلغتهم .. بالإضافة إلى رغبتهم المحمومة في وأد دعوته منذ أن بدأت ..
و لكن تخيل أن التحدي نفسه يأتي متدرجًا من الأصعب إلى الأسهل .. !! .. فصاحب الكلام لا يكتفي بتحديه الأول الذي يوضع في بند المستحيلات بل و يتدرج في تحديه ليُعلم الله سبحانه و تعالى للناس جميعًا حجته و معجزته القاهرة ..
فتحداهم الله بأن يقولوا كلاما مثل هذا القرآن فقال متحديا العرب:
"قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " (سورة القصص، 49)
فعجزوا عن ذلك فجاء التحدي بصورة أخرى ... أسهل من الأولى :
"قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ " (سورة هود، 13)
فعندما انقلبوا خائبين جاء التحدي الفاضح الدال على عجزهم:
"فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ " (سورة البقرة، 23)
و لم يكتف بكل ما سبق بل و زاد الأمر إلى حد يستفز كل من له بعض من كبرياء .. فما بالك بقوم وضعوا كبريائهم كله بين أفكاكهم ..!!
فأثبت الله سبحانه و تعالى عجزهم التام في هذا..
" قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً " (سورة الإسراء، 88)
فكيف يمكنك تفسير هذا الأمر ؟ .. رجل لم يشتهر عنه أنه يلقي الشعر أو يصاحب الشعراء طيلة عمره حتى بلغ سنه الأربعين فبدأ فمه ينساب بكلام لا يوجد فيه منظومة واحدة تصلح للمعارضة و عجز أن يعارضه كافة أهل اللغة و الفصاحة من بين قومه الذين هم بشهادة أهل العلم " أرباب اللغة و الفصاحة ! " ..
هل هذا كل شئ .. ؟
بل دعني أزيد عليك الأمر صعوبة .. !
هذا الرجل " أمي " لا يقرأ و لا يكتب !! ..
بل و أن القرآن الكريم نفسه نزّل مفرقًا .. ! .. بل و أن التحدي نفسه لم يظهر إلا في بعد فترة من الدعوة و من نزول القرآن الكريم و نجد أن التحدي يضم ما نزل من قبل من آيات إلى هذا التحدي .. و لم يصرح محمد صلى الله عليه وسلم لقومه أبدًا قبلها أن معجزته هو أن يأتوا بسورة من مثله ! .. أي أن فكر الإعجاز لم يكن موجودًا لدى الشخص الذي تنساب من فمه تلك الكلمات أصلًا وقتها ليدقق و يمحص هذا الأمر الذي يصل تمحيصه و تدقيق قدر صغير منه إلى درجة الاستحالة !! .. فما بالك بستة آلاف آية و نيف ! ..
قل لي كيف يمكننا تصنيف تلك الظاهرة ؟! .. هل يمكننا أن نصنفها تحت أي تصنيف آخر إلا بأنها ..
معجزة ! ..
هذه هي معجزة القرآن الكريم الظاهرة بالنسبة لي أخي الفاضل جقل .. و هي معجزة ظاهرة لكل الناس مع اختلاف ألسنتهم و هوياتهم و أجناسهم ..
هي آية ظاهرة لكل من يتدبر و يعلم بأمر القرآن الكريم ..
و لعل هذا يرد على تساؤل الختيار من قبل عندما قال :
ما هي الآية الظاهرة لغير العرب ؟ ..
و لعل هذا يرد على كلامك الذي لا اتفق معك فيه حين قلت :
اليقين الديني حالة نفسية و ليست حالة معرفية, فما يراه المؤمن في القرآن ليس مجرد عبارات و تعاليم مكتوبه عمادها اللغة العادية,ما يراه المؤمن معجزة متكاملة يظن أنها كتاب فيزياء و جغرافية و دستور و قانون و لا تعدم من يرى فيها كتاب في الطب و الحكمة, و الإقتراب منه كالإقترب من منقطة عسكرية يطلق النار على من يمس سياجها,و في هذه الحالة يتحول مقلد القرآن الى مجرد شخص يحاول السخرية أو التحقير أو الإهانة ,و قد ينظر الى محاولته كمن يريد صنع مركبة فضاء من طشت الغسيل و اسياخ شوي اللحمة.
فنحن أولًا لا نبني يقيننا على حالة نفسية في المقام الأول .. بل إن للدليل العقلي الحجة و البرهان المقام الأول لدينا .. و ثانيًا .. نحن لا نعتبر معارضة الختيار للقرآن الكريم سبة للقرآن الكريم .. و لا نسخر منه لمجرد السخرية .. بل لأنه كما بينت أنا من قبل لثلاث أسباب كجهل الختيار باللغة و قد صرح هو بذلك غير مرة .. و جهل المحاورين و رفض الختيار لمحاورة أهل العلم في المنتديات الأخرى لأنه يريد سماع التصفيق فقط .. و كتابته لعدة " صور " من قبل يشعر هو أنه فشل فيها .. و إلا فما جدوى كتابته لواحدة أخرى إن كان الله سبحانه و تعالى قال " سورة من مثله ؟ .. و هو ما تتفق أنت معي فيه ..
هذه هي الآية العقلية الواضحة التي لا تحتاج مني أن أكون ضليعًا باللغة العربية و أسطون من أساطين اللغة كي أتبينها و أؤمن في قرارة نفسي بإيمان راسخ لا يتزعزع أن القرآن الكريم معجزة و أنه هو كلام الله سبحانه و تعالى حقًا .. !
و هنا .. بعد أن بينت لك أخي الفاضل مفهوم الإعجاز القرآني عندي انتقل لمناقشة بقية كلامك الذي لا أتفق معك فيه .. و سوف أقتبس من كلامك حسب الموضوع لا أسبقية القول .. فكل جزء اعترض عليه قد يسبق بعضه بعضَا ..
و الذي يحتوي في مضمونه نقد لكلامي بطريقة أخرى مختلفة ..
فأنت تقول أخي الفاضل ..
أن تقليد النص القرآني فعلا مستحيل, و اضع من عندي تحدي جديد يضاف الى تحديات القرآن نفسه في إستحالة الأتيان بمثله,التحدي الذي اضعه يأتي من باب إستحالة محاكاة الأشياء محاكاة كاملة , فإذا حاول أحدهم تقليد لوحة مشهورة,فليس هناك ضمانة مثلا أن يأتي التدرج اللوني موافقا أو وضعية الأشياء في الرسم متوافقة و إن نجح الرسام في هذه الأشياء فقد تختلف نوعية القماش أو الورق الذي يرسم عليه لأن الرسم الأصلي وجد في زمن مختلف و إن وفق في كل هذه الأشياء مجتمعة فعندها لا يكون الرسم الجديد محاكاة بل يكون سرقة فنية و بدلا أن نقول أن الشخص الذيس نقل هذه اللوحة فنان سنقول أن هذا الرجل اللص و تنتفي عنه كل صفة إبداعية. الأمر ذاته ينطبق على القرآن, فلا يمكن محاكاة التراكيب الجاهلية و لا ترادفها و قد يخلق توظيف كل مفرده مشكلة جديدة في وجه من يريد تقليد القرآن الطامة الكبرى في مراعاة مزاج كاتب النص القرآني,أو لنقل التباعد الزمني الذي يفصل موضوعات السورة الواحدة و ثم تأتي التوصيفات الفريدة لحالات إنسانية في مواجهة الجنة و النار و الحساب و هو توصيفات خاصة بالقرآن لا بد لمقلد القرآن أن يستعير منها و إن فعل وصم فورا بالسرقة
و هنا لي سؤال ..
من الواضح كما أن تلك الحالة النقدية لا يملكها الكثير من الناس .. أقصد شعور " جقل " حيال معارضة القرآن الكريم عمومًا أو المعارضات بوجه عام .. و هذا ربما لأن لديه حس فني معين ..
و من المعروف أن هذا الحس يرتقي لدى الإنسان كلما نشأ في بيئة تعني بهذا الحس و تنميه ..
و من المعروف أن البيئة العربية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم - كما ذكرت سابقًا - هي من أنسب البيئات لتنمية الحس الفني الشعري لدى أدباء هذا العصر ..
فلعلي أتسائل عن السبب في أن الكفار على زمن محمدٍ صلى الله عليه وسلم لم يتفوه أحد منهم بما تفوه به أخونا " جقل " ؟؟ !!
رغم أنه من المنطقي - إن كان كلام الأخ " جقل " صحيحًا - أن يصرح أحدهم بذلك فينقلب السحر على السحرة فيثبتون أنها ليست معجزة أو ما شابه ! ..
الطريف حقًا أن الله سبحانه و تعالى عندما أنزل آيات التحدي الدامغة المبينة لعجز قريش و على أن القرآن الكريم معجزة خالدة في قوله سبحانه و تعالى " فإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله " ..
لم نسمع أن أحدهم أحتج بأن البلاغة نسبية .. و أن كله محكوم بصفة " مزاجية " خاصة بالمتلقي !! ..
و إن كنت ترى أخي " جقل " أن محمدًا صلى الله علية و سلم هو مؤلف القرآن الكريم .. و أنه صلى الله عليه و سلم أفضل من نطق بالضاد مما يحتم أنه يعلم أنه لا يوجد قاعدة بلاغية تصلح كأساس للمعارضة كقول الملحد - العالم !! - فلماذا تحدى قريشًا بأمر كهذا أصلًا ؟؟؟!!
و هل أنتظرنا لنرى الملحدين بعد 1400 سنة ليكتشفوا تلك - الحقيقة !! - الناصعة .. و التي يجعل التحدي في هذا الشأن - على حد زعمهم - عبثية ؟؟!!
و قد حاورت الزميل " شهاب الدمشقي " في تلك المقولة من قبل .. و هو من أشد القائلين و المتمسكين بها .. و قلت له وقتها أنه بقوله هذا يقول أن شعبان عبد الرحيم هو أكثر بلاغة من أحمد شوقي !!! ..
و لكنه لم يرد حتى الآن للأسف .. !
و هنا أضطر لنقل بعض جوانب ردي عليه .. و الذي يوضح حقيقة أن للعرب أسلوبًا نقديًا سليمًا في النقد الأدبي عمومًا .. و هو أمر ليس لي حاجة لذكره لأنه معلوم و معروف .. لأن من يطالع تاريخهم يجدهم يقيمون أسواقًا للتباري في الشعر .. فلو كان الأمر مزاجيًا و خاضع للمصالح لاكتفى أصحاب المصالح بالجلوس في بيوتهم ..
و لكن قبل أن أنقله أحب أن أوضح أن المشكلة القائمة عند الكثير من الإخوة الذين يقولون بهذا القول هو أنهم لا يعرفون دلالة المثلية ..
و قد فصل الدكتور الفاضل هشام عزمي مسألة المثلية و دلالتها في منتدى التوحيد بشكل يضطرني لنقلها هنا .. فلن أكتبها بأسلوب أفضل ..
فيقول ..
تحدى القرآن العرب بان يأتوا بمثله ، فماذا كان مقصودًا بهذا المثل ؟
هل كان المقصود المفردات القرآنية ؟ هذا من المحال لأن القرآن نزل عربيا و بنفس المفردات العربية و بنفس معانيها عند العرب و إن كان جدد معاني بعض الكلمات مثل الحمد و اليوم و الملك و الدين .. و هذا لو كان التحدي به لكان في غاية الشناعة و البعد عن العقل !
هل كان المقصود به ترتيب الحركات و السكنات ؟ هذا بعيد أيضًا لأن وضع كلمات متوالية على إيقاع و وزن كلمات القرآن ليس من المعجز في شيء ، و ها هو مسيلمة الكذاب قد تعاطى بعضه في (( إنا اعطيناك الجماهر ، فصل لربك و جاهر )) و (( الطاحنات طحنًا )) و كذلك الكثير مما تتعاطاه المواقع و المنتديات التنصيرية و الإلحادية على الشبكة .
هل كان المقصود به المقاطع و الفواصل ؟ هذا أيضًا بعيد لأن الفواصل في الآيات كالقوافي في الشعر ، و قد علم الناس كيف كان اقتدار العرب في القوافي .. فلو كان الإعجاز هو تأليف كلام مفصل له أواخر كأواخر الآيات مثل (( يعلمون )) و (( يؤمنون )) لما عجز العرب عن ذلك .
إذن ،، فيم كان الاعجاز الذي دوخ العرب و جعلهم يبتعدون عن تحدي القرآن إلى مطاولة المسلمين في القتال حتى قتل أبنائهم و أعزائهم و انتهكت عشائرهم و غنمت أموالهم ؟؟
هذا سؤال مهم جدا :-
هل قال الوليد بن المغيرة عن القرآن : (( إن له لحلاوة ، و إن عليه لطلاوة ، و إن أسفله لمعذق ، و إن إعلاه لمثمر )) بسبب ترتيب حركاته و سكناته ؟ أو لفواصل أواخر آياته ؟ و كيف يليق هذا الوصف بذلك ؟
و هل قال ابن مسعود : (( إن هذا القرآن لا يختلف ، و لا يستشن ، و لا يتفه لكثرة الرد )) من أجل أوزان الكلمات ؟ أو الفواصل في أواخر الآيات ؟
و هل قال الجاحظ : (( و لو أن رجلاً قرأ على رجل من خطبائهم و بلغائهم سورة واحدة ، لتبين له في نظامها و مخرجها ، من لفظها و طابعها انه عاجز عن مثلها ، لو تحدى بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها )) على سبيل اللغو و اللغط ؟
إذن فيم كان الاعجاز و ما هو المثل الذي تحدى القرآن العرب للإتيان به ؟
قبل أن نجيب على السؤال سأضع مثالا واحدًا على تحدي العرب بعضهم البعض في الجاهلية و كيف كانوا ينظرون إلى التحدي اللغوي و كيف يفهمونه .
تناشد علقمة الفحل و امرؤ القيس ، فقال امرؤ القيس : (( أينا أشعر ؟ )) ، فرد علقمة بلا اكتراث : (( أنا )) حتى قال امرؤ القيس : (( فقل و انعت فرسك و ناقتك ، و أقول و أنعت فرسي و ناقتي )) . فقال علقمة : (( إني فاعل ، و الحكم بيني و بينك المرأة من ورائك )) يعني أم جندب امرأة امرئ القيس .
فقال امرؤ القيس :
فللزجر ألهوب ، و للساق درة :::: و للسوط منها وقع اخرج مهذب
و قال علقمة :
إذا مـا ركـبنـا لم نخـاتل بـجنـة :::: و لكن ننـادي من بعيد ألا اركب
و تحاكما إلى المراة فحكمت لعلقمة و قالت : (( قلت : فللزجر ألهوب .. إلخ ، لو فعل هذا باتان لعدت ))
فانظر كيف وصف كل منهما سرعة و خفة فرسه ، فكان وصف علقمة ابلغ و ابرع في المعنى لأنه بلغ معنى السرعة و الخفة بلا حتى مخاتلة بخلاف من يزجر و يسوق و يضرب بالسوط .
و هذا هو معنى التحدي القرآني : أن يبلغ المعنى بأبرع وصف و اقرب كلمات حتى أنه لا يوجد من يستطيع ان يخبر عن نفس المعنى بأبلغ منه .
انظر كيف كان العرب يقولون : (( قتل البعض إحياء للجميع )) و يرون أنها قمة الفصاحة و البلاغة في المعنى ، فجاء القرآن ليقول { و لكم في القصاص حياة } فما فتحوا فاها أمام هذه الصفعة لما كانوا يفخرون به من بلاغة و بيان .
و من تامل كلام الله وجد أنه قد بلغ الغاية في البلاغة و البيان التي لا يستطيع أحد أن ياتي على منوالها أبدًا .. فمن يستطيع أن ياتي بمثل هذا المعنى { فما ربحت تجارتهم } أو { و اشربوا في قلوبهم العجل } و { خلصوا نجيا } و { فاصدع بما تؤمر } و { ذات ألواح و دسر } و { اشتعل الرأس شيبًا } و غيرها من تعبيرات القرآن ؟
و إذا كان الامر كذلك ، فاعلم أن هذا هو سبيل لفظ القرآن و نظمه ، و ان هذا هو سبب عجز العرب عن أن ياتوا بمثله .
و كذلك الصوت و الايقاع والفواصل واللفظ .. كل أولئك يندرج تحت الإعجاز البلاغى .
فهذه أخي الكريم هي المثلية المقصودة و هي أمر معروف لكل من له إتطلاع في علوم اللغة و البلاغة ..
و لهذا كنت أنظر لما يُسمى بــ " صورة " العاصفة على أنها نكتة سقيمة لا ترتقي لأن يحاور حولها أحد ..
و لذلك أرى أن أي تحليل لتلك الـ " صورة " هو مضيعة للوقت .. فلسنا في منتدى أدب ليتم تقسسم مشاركات الأعضاء اللغوية !
و أضيف أن من يطالع كتاب " تاريخ النقد الأدبي عند العرب من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري " لطه أحمد إبراهيم .. سوف يعلم أن للعرب منهج نقدي سليم في نقد النصوص ..
و قد نقل الأخ " رحيم " و قد كان زميلًا لنا هنا في السابق .. موضوعًا بهذا الشأن تحديدًا بعنوان "
هل انتقد العرب بلاغة القرآن الكريم ؟! " .. و هذا الموضوع منشور هنا بالمناسبة ..
و جاء فيه ..
وصل العرب مرتبة عالية من التذوق الأدبي والحذق اللغوي ،
وكانت لهم أصول نقدية ينقدون على أساسها أي نص سواء كان شعراً أو نثراً..
وهم أدركوا عيوب اللفظ وانتقدوها ( كالإقواء ) مثلاً في قول النابغة :
أمن آل أمية رائح أو مغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزَوَّدِ
زعم البوارح أن رحلتنا غداً ... وبذاك حدثنا الغداف الأسودُ
هنا إقواء : البيت الأول قافيته مجرورة ( مزودِ ) والثاني مرفوعة ( ألأسودُ ) .
ولم يقتصر نقدهم على اللفظ ( الزخرف كما يحلو للبعض أن يسميه ؟؟ ) ولكنهم كذلك انتقدوا المعنى :
أنشد الملتمس :
وقد أتناسى الهم عند ادِّكاره .... بناجٍ عليه الصيعرية مكدم .
فقال طرفة بن العبد : استنوق الجمل .
لأن الصيعرية سمة تكون في عنق الناقة لا في عنق البعير .
وتفاخر حسان بن ثابت أمام النابغة بأنه أشعر منه .. فطلب منه النابغة أن يختار أي بيتين يتفاخر بهما أكثر فقال حسان :
لنا الجفنات الغرُّ يلمعن بالضحى .... وأسيافنا يقطرن من نجدة دماً
ولدنا بني العنقاء وابني محرق .... فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما
قال النابغة :
- قلت: " الجفنات " : ولو قلت الجفان لكان أكثر .
- قلت : " يلمعن بالضحى " : ولو قلت يُبرقن بالدجى لكان أبلغ بالمديح .. لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً .
- قلت : " يقطرن من نجدة دماً " : فدللت على قلة القتل ولو قلت : يجرين لكان أكثر .
- فخرت بمن ولدت ، ولم تفخر بمن ولدك .
- قلت : " أسيافنا " . فقللت أسيافك ولو قلت سيوفنا لكان أكثر .
فقام حسان منكسراً منقطعاً.
لاحظ أيضًا أخي أن الله سبحانه و تعالى عندما أنزل القرآن الكريم .. دخل فيه الكثير من الناس منهم الشعراء ! .. فعندما يدخل الشعراء فتنزل آية التحدي و يدعو الله سبحانه و تعالى الكفار أن يأتوا بشهدائهم .. فهذا معنى أن هناك مناظرة ما ستحدث بينهم للتحكيم .. أي قواعد متفقة ..
و بصرف النظر أن هذا لم يحدث ( و هذا من دلائل الإعجاز القرآني لأن الشعراء أصلًا لم يروا في أنفسهم و لو كذبًا القدرة على تحقيق المثلية أو المعارضة ) فإن ذلك يعني أن هناك قواعد سيتم ثابتة سيتم تحكيمها ..
و لمزيد من التبيين أدراج ردي على الزميل شهاب في تلك النقطة في منتدى الملاحدة ..
فقد قلت له ..
زميلى إن تقديمك للفن البلاغي بتلك الصورة لهو ظلم فادح لتلك الفنون ... أنصحك بقراءة كتب في هذا النوع من الفن بالذات لتعرف ما هى الأسس التى يقوم عليها هذا الفن ..
و لو كان الأمر كما تقول لقاله كفار الجاهلية قبلك و العلماء و الجهال من بعدهم ..
فأنت وقعت فى مطب فكرى شنيع .. فلا تفرق بين التذوق الفنى ( و الذي يتأثر كلما ابتعدنا كأشخاص في لهجتنا أو اقتربنا من أصل اللغة ) و البلاغة كعلم له أسس و مقاييس .. و لقد ضربت لما أقوله مثلًا من أشعار الجاهلية .. فأنت إن أعطيت قصيدة من تأليف شعبان عبد الرحيم لشاب ثم أعطيتة قصيدة لأمير الشعراء .. فإن الشاب قد يفضل مثلا قصيدة شعبان ..
فبمنطق السيد المحترم شهاب .. فإن شعبان عبد الرحيم كلامه أكثر بلاغة من أحمد شوقي !!!!!!!!!!!!!
و أضرب لك مثلا آخر ...
سأل إبراهيم بن إسماعيل من كتاب الوزير الفضل بن الربيع و من جلسائه، سأل أبا عبيدة معمر بن المثني عن قول الله تعالى: «طلعها كأنه رؤوس الشياطين» كيف وقع هذا التشبيه و المشبه به غير معروف؟ و إنما يقع الوعد و الايعاد بما عرف مثله، فقال أبو عبيدة: إنما كلم الله العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرىء القيس:
أيقتلني والمشرفيُّ مضاجعى * * * و مسنونة زرق كأنياب أغوال
و هم لم يروا الغول قط و لكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أو عدوا به ... وعزم أبو عبيدة منذ ذلك الحين أن يضع كتابا في القرآن، في أشباه هذا، و ما يحتاج إليه من علمه، ثم وضع كتابة (المجاز) فكان أول كتاب ألف في فن البلاغة ....
أي أن ذلك العلم كان معروفا بالفعل على عهد القدامى و لم يعتنوا به ( تدوينًا و تفصيلًا ) إلا عندما جاء القرآن لما فية من فنون شتى أحتوت كل فنون العرب البلاغية و بلغت فيها ذروة الكمال ...
و يقول الشيخ على العمرى فى مقاله " البلاغة العربية و قضية الإعجاز " تفصيلا لعلم البلاغة ...
" الدراسة في علوم البيان اتخذت مناهج ثلاثة:
الاول: الطريقة النقدية: و هي طريقة تعني بالشواهد و تحليلها: و يمثلها عندى كتاب الوساطة بين المتنبي و خصومه، و كتاب الموازنة بين أبي تمام و البحترى.
الثاني: الطريقة التقعيدية، و هي طريقة تعني بوضع الضوابط، و التدقيق في تحديدها، و يمثلها عمل السطاكى ومن
تابعه.
الثالث: الطريقة الوسطي، و هي تجمع بين الطريقتين السابقتين، فهي تعني بالشواهد، كما تعني بالقواعد، و إن كانت لا تدقق في الضبط كطريقة السكاكى، و يمثلها كتاب «الصناعتين» و ما أشبه. "
و لكن للجرجانى رأى أن القرآن رغم تفردة فى تحدى قواعد العرب البلاغية المعروفة على ازمنتهم .. فإنة أيضا قد أنشأ قواعد بلاغية جديدة فريدة في القرآن عن الشعر العربى ..
لذا فإن ما تقوله فى اعتقادى هو سقطة بكل لمقاييس للاسف فكما قلت لك أنت لا تفرق بين التذوق الفنى و القواعد البلاغية ...
انتهي ...........
و على كل حال ...
فإن خاتمة الأمر في تلك النقطة - بعون الله سبحانه و تعالى - أخي " جقل " و إن كنت لا أدعي أني شديد البراعة في فنون البلاغة و اللغة عمومًا .. فإن سؤالي الأول يلخص أن مسألة القول بأن العرب كان في تحكيمهم للشعر يعتمد على المزاجية البحتة هو أمر غير صحيح و هو أبعد ما يكون عن الصحة ..
و الذي ينسف إدعائات المنكرين في هذا الشأن - بغض النظر عن إتفاقهم معنا في مسألة الأسس و المعايير أو عدم اتفاقهم - فإن السؤال الذي يفضح عور ذلك الإستدلال هو سؤالهم عن الحكمة في عدم احتجاج الكفار بحجتهم - و هم أرباب اللغة - و كذلك سؤالهم عن أنة لماذا تحداهم محمدًا صلى الله عليه و سلم بذلك - على فرض اعتقادهم بأنه صلى الله علية و سلم مؤلف القرآن الكريم - رغم أنه لا توجد أي قاعدة بلاغية للتحكيم ؟!
( مع تسليمهم بأنة صلى الله عليه و سلم أفضل من نطق بالضاد !! أي أنة صلى الله علية و سلم حتمًا يعلم تلك القاعدة الفنية !! )
فأرجو أن تتعرض لتلك النقطة بالتعليق ..
يقول الأخ " جقل " ..
هناك الحالة النصية التي تقف في المنتصف بين ما هو شعر و ما هو نثر ,فقد تقرأ مقطعا موزونا مقفى ثم تنتقل في نفس السورة الى نص مختلف الوزن أو حتى غير موزون بالمره بدون أي تمهيد و هذه تثقة مفرطة من النص بنفسه لن تجدها في شخص يحاول تقليد القرآن بحرصة على الأسجاع و الأوزان و ترادف المعاني.بالإضافة الى أن للقرآن سمة و أجرء أن اقول توقيع يميز نصه و يعزلة عما يشابهه نشأت بفضل أربع عشر قرنا من التلاوة يحس بها حتى غير المسلم أو غير المؤمن هي حالة كالتي نحس بها عند دخولنا الى قلعة اثرية أو متحف قديم لا بد أن تسري في أوصالنا "رعدة التاريخ", هي حالة موجودة فينا طبعا و ليس في المكان الأثري و لكنها حالة إنسانية تميز البشر,الأمر السابق طبعا ينطبق على اصحاب الثقافات العربية و من ضمنهم المسيحيين بالطبع.
أنت الآن أخي انتقلت إلى ما يخالف قولك الأول .. فبدأت تحاكم النص حسب معايير أدبية .. و لا أريد هنا أن أدلل أن نقدك الأدبي خاطئ فهذا نتركه لعلماء اللغة .. و إنما أبين لسيادتك أنك هنا تخالف ما قلته منذ بضعة أسطر أن الأمر مزاجي بحت ..
بالنسبة لسمة القرآن الكريم و قولك أنها مميزة .. فأنا أتفق معك في هذا الأمر .. و لكن أختلف معك في أمرين ..
الأول .. أنت تقول أن هذا يصعب المهمة على صاحب الموضوع بإعتبارها نكهة مميزة للقرآن الكريم .. في حين أنك لم تفطن أن هناك نكهات مميزة نعرفها حين نسمعها كأغاني شعبان عبد الرحيم مثلًا و نشعر بشعور ( أيًا كان هذا الشعور سواءً كان قميئًا أم لا ) بداخلنا .. !! .. و لكن التحدي هو في أن تقوم بمعارضة النص بنكهة تحقق ذات الرعشة و الشعور الجميل بشكل أفضل !! ..
و هو ما شرحه أخي الحبيب العائد " الزعيم رقم صفر " .. (( و الذي أرحب به من كل قلبي آملًا أن يكون بخير صحة و عافية )) ..
حين قال ناقدًا لموقف اللوحة :
للاسف فإن المثال المطروح ينقصه أن اللوحه المقلده يمكنها ان تكون افضل من الاصليه
فيمكنك استخدام نوعيه ألوان افضل و استخدام نوعية قماش اقوى و احسن و يمكنك تلافى اخطاء وقع فيها الرسام الاول فتحصل على لوحه افضل من الاولى و اطول عمرا
فى حالة القران فالأدوات ما زالت متاحه كما هى و ما من جديد
و هذا الأمر أدركه العرب .. فما استطاع أحدهم أن يحضر نصًا له نفس التأثير ( و أقول التأثير لأنهم لم يهدفوا بهذا معارضته أبدًا بل كانوا يرجون صرف الأنظار عن مدى تأثيره في نفوس السامعين ) ..
فلو أنك طالعت قصة النضر بن الحارث عندما كانوا يقعدوه عند النبي صلى الله عليه وسلم وكلما أراد أن يتكلم صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم .. يقاطعه ويبدأ بسرد القصص والأساطير التي واجهها في أسفاره وترحاله..
و قد نجحت تلك الخطة في صرف أنظار الناس عن محمد صلى الله عليه و سلم بعض الشئ .. إلا أنه مع مرور الوقت بدأ الناس بالتملل !! .. و أقبلوا على القرآن الكريم لأنهم أدركوا أن في هذا الحديث تأثير في النفس يختلف عن أقاصيص رستم و غيره .. تأثير تألفه الأذن من اول وهلة و تشد انتباهها و تثير داخلها فيض ساحر من الأحاسيس يفوق سحر أحاديث رستم و غيره ..
حتى و أنهم بعد أن فشلوا في ذلك قالوا للناس ألا يستمعوا للقرآن الكريم .. فقد ذعر كل من فى قريش ذعرا شديدا من قوة تأثيره ونفوذه على النفوس على رغم صدهم عنه واضطهادهم لمن أذعن له.. فتواصوا على ألا يسمعوه .. وتواصوا على أن يلغوا فيه إذا سمعوه .. حتى أنزل الله تعالى .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ...
" و قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه " فصلت ..
ليداروا تأثير ذلك السحر .. !!
و لقد وصل بالأمر من سحر القرآن فى نفوس العرب أن أنزل الله تعالى ... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ...
" وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه "
!! ...
فانظر و تأمل .. !
و لعل هذا يرد على ما أعتبره قولك
الثاني الذي أخالفك فيه .. فالقرآن الكريم ليس كمثل حدث قديم تشعر معه بالألفة أو الرهبة .. فالقرآن الكريم كان عند هؤلاء القوم حديث العهد و لم يختلط بما تدعيه أنت بأنه مثل شعورك عند دخول متحف أو منزل قديم محبب لك .. !!
و لعل هذا يكون واضحًا حين نقرأ القصة التالية ..
جاء في سيرة ابن هشام 2 / 156 :
" أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته. فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه.
فباتوا يستمعون له
حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا .
حتى إذا كانت الليلة الثالثة، أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود على ذلك ثم تفرقوا " ..
أرأيت كم أن تأثير القرآن الكريم نافذ منذ القدم و لا علاقة له بالشئ القديم المحبب ؟
ما زلت أذكر أن أول سورة وعيتها في قلبي هي سورة " مريم " .. و ما زلت أذكر حلاوة وقعها على قلبي أنا الطفل الذي لم يتعد سنوات قليلة و أنا في العاشرة أو التاسعة .. رغم أني لم أكن أفهم شيئًا و لم يكن عندي شئ قديم أشعر معه بالألفة و الراحة !! ..
و لكن بلغ هذا الإحساس مرتبة من التواتر تجعل كل شخص غير مكابر يدرك أن هناك سر عجيب وراء هذا النص ..
كان الوليد بن المغيرة المخزومي ، يتحرى سماع القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويعلن إعجابه ببلاغة القرآن حتى ضجر أبو جهل منه وخاصمه ، وسعى إليه ليثنيه عن إبداء إعجابه ببلاغة القرآن ، فقال الوليد في صراحة ناصعة : ((
والله ما في قريش من رجل أعلم بالشعر أو رجزه أو قصيده مني ، ولا والله ما يشبه الذي يقول محمد شيئاً من هذا الشعر أو ذلك الرجز والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه يحطم ما تحته )) " راجع د. محمد بيومى البيان القرآنى "
حديث عتبة بن ربيعة .. و قال فية عن القرآن : (إني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة .. )....
و أيضا إسلام عمر رضى الله عنه فقط عند سماعة للآيات الأولى من سورة " طه " في رواية ... و في رواية أخرى عند سماعه للنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن عند الكعبة .. و من العلماء من قال بأن الرواية الأولى صحيحة و الثانية أيضًا .. و كلها عوامل أدت إلى أسلامه .. بالسمع فقط ..أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ..
"طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *َلََهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى "
و أيضا إسلام ضماد رضي الله عنه ... إذ قال "
والله لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات فهلم يدك أبايعك على الإسلام فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له وعلى قومك فقال وعلى قومي " ...
و أيضا إسلام أبي ذكر وأخيه أنيس .. وقوله عن القرآن كلاماً قريباً من هذا .. يمكنك أن ترجع بالتفصيل إلى قول الجرجانى فى هذا الأمر ..
فهذا هو القرآن الكريم و تأثيره النافذ في نفوس كل من يسمعه .. ذلك التأثير الذي تشعر به و يشعر به كل صادق .. و لكنك تفسره بأنه مجرد شعور متأصل نتاج كونه نص قديم أو جزء من تراثنا المحبب لنا و له نكهة مميزة تسري في أوصالنا رعدة التاريخ !! .. بالتأكيد عزيزي تفسيرك ليس صحيحًا ..
تقول عزيزي ..
لا أنكر أنه بجهد بسيط يمكن كتابة آيتين أو ثلاثة لا يفرق الكاتب العادي بينها و بين القرآن
و لماذا لا تقوم بمعارضة القرآن الكريم إذن .. ففيه من السور ما هو أقصر من ثلاث آيات !! .. الله سبحانه و تعالى جعل التحدي نافذًا لكل شئ بحيث لا يجد أحدًا مخرجًا منه ..
قم بهذا و لنعرض الأمر على أهل العلم و لنرى .. و أعرف الكثير منهم في منتدى التوحيد على سبيل المثال ..
تقول عزيزي ..
ما ابتغيه مقثارنة نص بنص من حيث الأسلوب و البناء و الأغراض و المفردة و التماسك النصي و الصور و البديع البياني, و القافيه و طول الآية..و أشياء أخرى اذكرها في حينها..لن أحاول أن اثبت في حواري التالي أن نصوص القرآن أفضل من نصك و أن نصك متهالك..ألخ.."سأحاول" أن أبين أن نصك "مختلف" عن النص القرآني و ليس لي دخل بالمستوى الفني لا للقرآن و لا للعاصفة.
بل من الأفضل أخي " جقل " أن تلتزم بنقد ما يسمى بــ " صورة " العاصفة بشكل منفصل لا علاقة له بالقرآن الكريم .. لتبين له مدى ضعف ذلك الكيان .. فلا علاقة لتلك الكلمات المسجوعة بالتحدي القرآني .. و هي بالتأكيد لم تحقق دلالة المثلية في التحدي القرآني .. لذا فإن نقدك لها من هذا المنطلق لن يكون لها أي أهمية أخي ..
و كنت أتمنى أن أناقش " الختيار " فيما كتبته أنا لك الآن .. و لكن طبعًا الختيار لم يكن يريد الحوار الجاد بالشكل المطلوب ..
و أشكر الله سبحانه و تعالى و أحمد فضله أن أمكنني من مناقشة هذا الأمر معك بأسلوبك المحترم ..
و شكرًا لك أخي .. و أعتذر عن الإطالة :97:
و الحمد لله رب العالمين ..