جسور


"لكي تكون شاعراً عظيماً في أي بلد عربي يجب أن تكون صادقاً. ولكي تكون صادقاً يجب أن تكون حراً. ولكي تكون حراً يجب أن تعيش. ولكي تعيش يجب أن تخرس".

كلمة قالها الشاعر والكاتب السوري محمد الماغوط، عكست بصدقها وبساطتها حالة من التوازي لبعدي المأساة والتحدي في آن، مأساة التبدد في ظل هجاس استنزافي حتمته سلطة الحقبة، وقسوة الراهن، وكآبة ثنايا الوطن المنسحبةعلى كآبة ثنايا "العصفور الأحدب" في مأزمية الحضور بوطن "ملايين الجدران" .. وتحدي الغوص في أعماق اللغة لاستخراج رحيقها الصافي وهجا، وكنوز لب عصارتها وحيا، بصدق المتسكع على قارعة الزمن، المجاوز لحرقة الواقع والتاريخ والنظريات والملاحم، الساخر من ربقة القيد، ووطأة الخرس، لينبئ بيراع الحرقة وحبر الدم والدموع عن مذكرات مدينة ووطن، مدينة أحب .. ووطن عشق.

رحل الشاعر والأديب والمسرحي والناقد السياسي السوري محمد الماغوط يوم 3- 4 – 2006، عن عمر يناهز 72 على إثر تعرضه لهبوط حاد في القلب. ولد الماغوط في السلمية محافظة حماه عام 1934، لأسرة فقيرة، لم يتيسر له متابعة دراسته الثانوية، ولم يلتحق بالجامعات أو المعاهد، بل استقى فيض الألم اجتهادا، وثمار التجربة عمادا لقصيدة.. سجن عام 1955 بتهمة الانتماء إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي . غادر دمشق العاصمة التي أحب، ليحط مقام رحاله في بيروت عاصمة شعره، ليناجي قمرها بحزنه في كتابه "حزن في ضوء القمر" الصادر بتاريخ 1959، ليترنم انشودة معاناته في "غرفة بملايين الجدران" الصادر بتاريخ 1961، ليعلن بحشرجة الصوت عام 1970 أن "الفرح ليس مهنتي"..

كتب الماغوط مسرحيات عدة منها "العصفور الأحدب"، "المهرج"، "غربة"، "ضيعة تشرين"، وغيرها.. وحاز على العديد من الجوائز العربية منها وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى (منحه إياه الرئيس السوري بشار الأسد)، وجائزة "سعيد عقل" وجائزة "النهار" لقصيدة النثر.

يعتبر الماغوط من أعمدة الشعر النثري ورواده، الأمر الذي دفع بعضهم للظن أن قصيدة النثر قد ابتدأت مع الماغوط، حيث استطاع الرجل أن يؤسس من خلال كتبه لمدرسة خاصة قوامها التجربة الحية المتمردة، والموهبة الفذة المتميزة المضمخة بعبق أريج نبل الشقاء. تميزت قصيدته بالمباشرة والعفوية والوحشية وقوة النزق والمجون عند انجبالهما بتجسدات الحقيقة والواقع بأوضح وأوقح صورهما، ليصدح من خلال هذه القصيدة رجل من لحم ودم، رجل من ألم وحزن، احتوى الشموخ لبوسا بعيدا عن الأقنعة، متعففا عن الحذلقات وأحاجي الرموز.

رحل الماغوط عن سماء الابداع تاركا بصمات لن تنسى أبدا، رحل بعينيه الزرقاوين اللتين كانتا عنوانا لحزنه عبر عنهما يوما "عيناي زرقاوان من كثرة ما نظرت إلى السماء .. وبكيت"... رحل شاعر الابتسامة المكسوة بالانكسار والرفض ..

هل أدى له من أحبهم حقه؟؟

:rose:


جسور