هناك نوعان من التفسير التاريخي ، كلاهما لا أميل إليه : الأول ، يركز في شخصية القائد ، ليرفعه خارج الزمان والمكان ، محولا إياه لأسطورة .. ومقتصرا عليه فقط في صنع الأحداث . الثاني - وهو الذي تفضلت به غرامشي ، تفسير الحدث بكل الأحداث المرهصة له ، مهمشا دور الإنسان تماما في صنع الحدث.. مما يجعل الأمر وكأنه حتمي الوقوع . وكلا النوعين من التفسير ، لا يبدآن من التاريخ ، بل ينتهيان إليه . فالأول يبدأ من الشخص ، من محمد .. لكنه لا يتسائل : أي محمد ؟ هل هو محمد الفتى الذي عاد من ديار بني سعد ؟ ام محمد الذي يرعى لقريش الغنم بدراهم معدودات ؟ ام محمد الذي يذهب بمال خديجة متاجرا به في الشام ؟ ام محمد قبل أن يموت بلحظات ؟ فهو حين يتكلم عن تاريخ محمد يضع نصب عينه فكرته الأخيرة عن محمد .. فتكون نظرته للتاريخ محددة بحدود هذه النظرة .

أما الثاني ، فهو يبدأ مما حدث نتيجة دعوة محمد ، ومن خلال هذه النتيجة ينظر للأحداث التي "حتمت " مثل هذه النتيجة ، فتحدث هنا عمليات إزاحة .. وتحوير وتهميش لوقائع أساسية .. وإبراز لوقائع ثانوية .

وحتى لا نغرق في التنظير ، ساعطيك مثالا واحدا من كلامك . فانت كي تظهر الأسباب التي " حتمت " انتصار محمد ، قمت بإرجاع جزء كبيرمن هذه الأسباب إلى كون محمد من مكة ، قبلة العرب ومركزهم التجاري . ووقعت في عملية إزاحة مكانية لبدء انطلاق الدعوة المحمدية ، من " يثرب " إلى " مكة " .

بل إنك في تعليلك لتلك " الحتمية " لم تتطرق ليثرب أبدا ، التي آوت محمدا بعد أن طردته مكة ، ونصرته وآزرته .. حتى سمو " الأنصار " .

أخيرا ، لو كان العرب مع مكة .. حيث ذهبت ذهبوا ، لكانوا معها حين رفضت محمدا .. ولم يفدوا عليه في عام الوفود الذي سبق فتح مكة .


شكرا لك