تفكيك الإسلام
هاي فقرة من كتابات محمد أبو القاسم الحاج :
توفي الفيلسوف (جاك دريدا) دون أن يكتشف (معنى) الموت و بعد أن قضى حياته كلها في التفكيك و حتى دون أن يصل إلى (العدمية) ليكون من (المبطلين). فالمبطلون هم (الدهريون) (1) و لكن دريدا فكك الدهرية نفسها دون أن يصل إلى (التركيب) فالتركيب لا يتم خارج (رؤية كونية) (2) تحلق فوق فضاءات الأرض و موضعيتها.
و يبقى حيا في المغرب فيلسوف التركيب, بعد أن أعياه العقل التفكيكي (المجرد) فصرعه باتجاه (العقل المسدد) (3) الذي يستجمع في الإنسان بين قراءتين, قراءة علمية استقرائية بالقلم تهيمن عليها قراءة عقلية استدلالية تعطي الوجود بما فيه الإنسان (معنى). ثم يحمل (العقل المؤيد) هذا المعنى ليكتشف الوجود في معنى الوجود. و ذلك هو (طه عبد الرحمن) في معراج (التركيب) .
كلاهما متصل بالأخر, و لكن من على بعد, دريدا و هو يمضى إلى اللامتناهي في الصغر تفكيكا, و طه الذي يمضي إلى اللامتناهي في الكبر تركيبا, ثم يفترقان في معنى (الموت), إذ يمضي طه إلى الموت بخطى (سرمدية مطمئنة) فيها البقاء, فيما يمضي دريدا إلى الموت بخطى (لاأدرية) قلقة فيها معنى الفناء.
قد تألمت لرحيل دريدا –الذي يدرك الآن قطعا أنه في مرحلة العبور إلى الدار الآخرة- موهبته الفلسفية التفكيكية هامة جدا (لاختبار) الإيمان في عصر العلم و العالمية حيث نشهد بدايات الاتحاد الثنائي بين (مطلق) الإنسان و مطلق (الكون), فكلاهما يعيش اللامتناهيات في التكوين (4) و عظمة الخالق (الأزلي) في خلق مطلقية الإنسان و الكون فيها (مكر خير) كبير (5).
فالأزلي إذ يرفض (النقص) في الخلق و التكوين حيث (يحسن) كل شيء خلقه (6) جعل (الفتنة) في كمال الإنسان و كمال الكون, فإن تحقق في علم الإنسان بالقلم, كما يرد في سورة العلق, اكتشافه لمطلق ذاته و مطلق الكون, ثم اتحدا تم (استغناء) الإنسان عن الله, و تحولت المختبرات العلمية إلى بديل عن المساجد و البيع و الصلوات (7).
هذه المطلقية التي حبا بها (الإله الأزلي) (8) الإنسان و الكون فتنة و مكر إلهي جعلت البعض يصلون إلى حد القول بموت الإله, و لم يشيعوه و لم يترحموا عليه, على الأقل وفاءا لذكرى أبائهم الذين عبدوه. و ليس لهم أن يقولوا ذلك إلا لأن في تراثهم من صلب الإبن قبل ذلك! فموت الله –سبحانه- له خلفيات في أدهانهم.
و التفكيكيون لا ينتهون إلى دريدا فقط, فالحفر المعرفي بكافة مضامينه و أشكاله, و المنطقية المعاصرة حتى في نقدها لدغمائية الوضعية الكلاسيكية و تحريرها لفلسفة العلوم الطبيعية منها, و دخول الجميع مجالات التاريخانية و الألسنية إلى تحليل النصوص و المقدس منها بالذات. كل ذلك يشكل أزمة اختبار للفكر الديني و لمفهوم الإله, فتغييب الإله يمضي تدريجيا, و أحسن المثقفين أحيانا من يرجئ اللقاء به في الآخرة مع وصفه في مكان جانبي في الدنيا و هو (القلب) أما (العقل المبدع) فللحياة, حيث يتجلى هذا العقل إما في مراكز الدراسات الإستراتيجية أو في المختبرات العلمية خصوصا و نحن في غمار الثورة الفيزيائية الفضائية التي تحقق نجاحاتها التطبيقية و فوائدها العلمية إن لم نقل بالاستنساخ البايلوجي دون أن تقول (إنشاء الله)
و قد طلب مني أحد الأصدقاء المحاضرين في ندوة (مؤسسة خالد الحسن) حين كنا نناقش في الرباط فكر الحسيني حول (مفهوم العودة) إلى فلسطين (9/10/2004) ألا أنظر إلى السماء كثيرا (9), و أكتفي بطرح أفكار (جمال حمدان) و (عبد الوهاب المسيري) و (طارق البشري) و (حامد ربيع), و أعلم أن هؤلاء مؤمنون و يصلون بما في ذلك المحاضر صديقي (سيف الدين عبد الفتاح), حيث تساءلت (ببراءة محضة) إن كان تمة علاقة بين السماء و بما أوجبته هذه السماء من (تقديس) للأرض, سواء بهيكل سليمان أو المسجد الأقصى لنبحث سويا في نوع من المكر الإلهي, و لكني أسكت فسكت. و نظر إلي الدكتور طه عبد الرحمن نظرة لا أعلم إن كانت تحمل (الرثاء) أو (العزاء) !
و للمؤمنين أيضا مشكلة (يخفونها) مع الله بحكم الآداب الإيمانية أو الخشية من أن ينعكس عليهم ما يمكن أن يبدوه على مصيرهم في الآخرة. فهؤلاء المؤمنون لا يرون أن الله يمارس تدخلا و حضورا بما فيه الكفاية لحل التحديات التي تواجههم في العالم و في فلسطين خاصة, فهناك (عتب إيماني مكبوت), و لكنه ينتهي إلى الشعور بالعدمية مما يدفع للبحث أيضا عن وسائل عملية لحل الإشكاليات و التحديات بما تتجاوز في كثير من الأحيان توجيها ت الله و وصاياه ثم (تأويلها) بكيفية ما تجعلها لائقة مع نصوصهم الدينية بكيفية فهمهم لها, و مع مصالحهم المناقضة لهذه النصوص, و هناك مختصون بمفهوم (الوسطية) يماثلون مهمة (المحلل) للنكاح مجددا بعد الطلقة الثالثة.
مع ذلك فإني أنظر للمناهج التفكيكية بعين التقدير و بالذات حين تطرح إشكالياتها في إطار (العقل المجرد) الذي فصله صديقي الدكتور طه عبد الرحمن, و كم نصحت طلبتي في المنهجية التركيبية عبر مطلق القرآن (10) أن يستوعبوا جيدا خلاصات (حلقة فيينا) في فلسفة العلوم الطبيعية و مقالات مجموعة مدرسة (فرانكفورت) و كتابات (فوكو) و طروحات (محمد أركون) و أن يستعينوا بأبحاث (عبد السلام بنعبدلعالي) و (سالم يفوت) و (محمد وقيدي) و (كمال عبد اللطيف) و غيرهم. فالمعرفة الحقيقية بالله لا تختبر إلا عبر هذه المناهج التفكيكية و الإشكاليات التي تثيرها.
كما طلبت منهم فهم (إبليس) نفسه بطريقة أفضل في إطار المكر الإلهي الذي أحسن كل شيء خلقه, فلإبليس أيضا (مطلقيته) و مداركه (الكونية) و لهذا ظل على (التزامه الإيماني) بأفضل من كثير من المؤمنين (11), فهو يتحدى البشر بعزة الله و ليس بالكفر و هو سريع الخذلان للبشر من أنصاره في اللحظة الحاسمة, و هذا ما يندرج في إطار (التركيب) من بعد التفكيك. فإبليس نفسه يشعر بالراحة كثيرا حين يكون الفهم البشري له فهما أسطوريا و خرافيا (12) أو أن يتم اختصار نشاطه على السحر و الوسوسة فقط, و نسب كل الشرور له في حين أن الإنسان يمكن أن يتفوق عليه في هذا المجال إذ لا يؤمن أكثرهم إلا و هم مشركون (13), و يستغنون عن الله بالقلم و يعلنون موته. بل إن بعض البشر رأى ضرورة مشاركة إبليس بفهم خرافي له فيما رفضه بعضهم, فتم تسهيل مهمته في الحالتين.
سلام
|