[CENTER]تابع: ما هو العلم. و هل العلم نوع من الأيديولوجيا؟

لماذا إنتصر العلم على التحالف الديني / الطبقي ؟

شفافية العلوم للنقد - بل و نسبية يقينها هي سر الصرامة الشديدة و القوة فيها.

كلنا جرب في صغره أن يوقن - و بنسبة مطلقة - أن أباه أقوى رجال العالم؟ كلنا جربنا اليقين الطفولي المطلق - و كلنا جربنا أن نعلم و نعترف بخطأ هذا اليقين أحيانا. و هل تتذكر كيف فقدت هذا اليقين؟ لعلك مثلا رأيت بعينك من هم أقوى من أبيك.و في كل مرة كنت تزداد خبرة بالواقع كان يسقط عن كاهلك الكثير من اليقين المطلق.
و كلنا خبر أو سمع عن القبائل البدائية بخلفياتها المعرفية الخرافية - تنقلب أفكارها بل و كامل منظوماتها رأسا على عقب بعد مدة ليست بالطويلة من بدء إحتكاكها بالعالم الخارجي (في أفريقيا و استراليا و الأمريكتين مثلا). لقد سقطت الكائنات الخرافية التي طالما حكمت هذه القبائل و رحلت فجأة بدون عودة - تاركة إياهم للوحدة في العالم الجديد.

لعل حالنا باليقين الطفولي المطلق كان أشد سعادة و رضا من حالنا بعد ذلك - و لعلنا خبرنا بالمثل حال القبائل البدائية و هو ينقلب لتعاسة و عزلة و هموم بعد التجربة الفارقة بإختلاطهم بالعالم الخارجي.

لماذا إذن تحولت عقولنا عن يقينها المطلق الجميل لآخر - نعترف جميعا بأنه ليس بأكثر راحة منه؟ و لماذا لا نستطيع العودة لليقين الأكثر نفعا من الناحية النفسية و البراجماتية؟
لماذا لم تظل تلك القبائل على إعتقاداتها - و تحملت بعدها عذاب الضياع و الوحدة - مع علمنا بالإنخفاض الحاد بدرجات الرضا العام لأفراد هذه المجتمعات و و تعرض الكثير منها للضياع و التشتت؟( و هذا بعد إستبعاد الضياع و الإنقراض بواسطة القوة الغازية).

يوجد و على المستوى الفردي ميكانيزم دفاع نفسي - حين يتعرض الطفل في مرحلة عمرية معينة لضغوط أكبر من إحتماله - تسمى النقوص - و هي محاولة عقل الطفل للرجوع زمنيا لمرحلة عقلية أصغر و أجمل - و لكن هذه الحالة / المحاولة - نعتبرها جميعا مرض يستلزم علاجه - و هذا ببساطة لأنها متلازمة و الألم مع من يعانيها. فالنكوص محاولة فاشلة للرجوع بالزمن هروبا من واقع قاهر. و هي فاشلة لأننا لم نخبر بعد الرجوع الفعلي بالزمن - و هي فاشلة أيضا لأنها لا تواجه مشاكل الحاضر الضاغطة بل تحاول الهرب المستحيل للماضي - و في النهاية يبقى الألم.
و على مستوى المجتمعات توجد حالات من النكوص حين يعجز المجتمع عن مواجهة الواقع القاهر و مواجهة وضعه الجديد و التخلي عن معتقداته و يقيناته المطلقة و التي خبر زيفها أو زيف البعض منها - فيحاول هذا المجتمع المريض العودة المستحيلة بعجلة الزمن لماضي - قد لا يكون موجودا إلا في مخيلته - فرارا من مواجهة زمنه. و لعل القاسم المشترك مع حالات النقوص الفردي هي المرض و الألم. و لا نحتاج أن نرشح مجتمعاتنا كمثال لهذه الحالة بفشله و ألمه العام و مرض جميع منظوماته.

إن تغيير اليقين الخرافي ليقين علمي - نسبي - هو تغيير عقلي قاهر - لأنه ببساطة العلم هو الوسائل الموجودة مسبقا ببني الإنسان لكي يفكر بها و يستقي يقينه و يأخذ قراراته. بلا فارق بين الأجناس و لا العقائد كما نحب أن نعتقد. و هو قاهر بالرغم من إحتمال مخالفته للمصالح العامة و العوامل النفسية و البراجماتية.

فالقضايا (1+1=2) و (يوجد كلب داخل الغرفة) و (مرض الملاريا ينقل بواسطة البعوض) ....إلخ. هي قضايا صارمة و قاهرة و رفضها من أنواع الفصام.
إن وضع الشخص الرافض لقضايا من النوع السابق - إن لم يكن مختل عقليا - هو وضع عقلاني غير مستقر و مستحيل إستمراره - فهو وضع مرضي متناقض ذاتيا بل و رافض لذاته و للإنسانية جمعاء.

[U]أي أن نسبة اليقين الذاتي في الإيمان بقضية ما - و مهما بلغت من قوة - لا تعتبر دليلا على صحة هذه القضية بالمرة. و لا مؤشرا على إمكانية صمود هذا اليقين بالعالم الخارجي و بين الأشخاص الآخرين.

كلنا جرب اليقين الذاتي الزائف - مطلقا كان أم لا - و بغض النظر عن طبيعة هذا اليقين - فتحطيمه جاء من العالم الخارجي و تحديدا من التجريب و المشاهدة.
و بالرغم من علمنا التام بأن ما يصلنا من العالم الخارجي نسبي اليقين - أي أن خبرتنا تزداد به مع الزمن - و الذي لا نراه بأعيننا اليوم نراه غدا بالمجهر - ثم نراه أكثر وضوحا بمجهر إلكتروني و هكذا - إلا أننا لا يمكن أن نظل نؤمن بأن الأمراض تسببها الشياطين بعد تحطيم هذا اليقين بالواقع الخارجي (و هذا بالرغم من أن إيماننا بهذا التفسير الميتافيزيقي كان مطلقا).

و لطالما سعدنا بمفكرينا و مشايخنا العظماء و هم يدفعون بقصور العلم بسبب نسبية يقينه - و كأنه يقابل تلك النسبية يقينا آخر مطلقا نمتلكه نحن.
و الإجابة نعم فالعلم نسبي اليقين بالتأكيد - لكن من أي مستوى يتحدث الناقد؟ و ماذا يملك بالمقابل؟
فالناقد يقحم يقينه الذاتي (المطلق) في المقارنة مع يقين موضوعي بالعالم الخارجي يمكن لأي مخلوق بما فيه الناقد ذاته أن يختبره - و بينما يمتلك العلم نسبة لليقين أكبر من الصفر - فاليقين الذاتي للناقد لا يوجد إلا بداخل ذاته و يمثل صفرا بالعالم الخارجي - لا يمكن بأي حال التأكد منه و إختباره بواسطة أي مخلوق و لا حتى الناقد.

فأن أوقن يقينا مطلقا بأن الجن يسبب الإيدز - فهذا من حقي الشخصي - و لكن المضحك أن أقارن يقيني هذا الذاتي و الذي لا يخص إلا أياي - بيقين موضوعي نعلم أنه غير مكتمل عن طبيعة فيروس الإيدز.

و يوجد قبائل بدائية تؤمن يقينا أن سبب الحمل و الولادة ليست في العلاقة الجنسية بل بنزول المرأة للبحر حيث تتحد بها مخلوقات ما و تسبب الحمل - هلا جربت أن تناقش هذا اليقين المطلق مع أحد أفراد تلك القبيلة؟
لعلنا نضحك عندما نسمع عن هذا الإيمان الزائف و أشباهه - و لكن لماذا نضحك؟ لأننا نعلم الآن و بالرؤية و التجربة من العالم الخارجي أن الحمل يسببه إتحاد الحيوانات المنوية مع البويضات .. إلخ. - لكننا لم نكن لنضحك لو كنا من أفراد هذه القبيلة - بل و أجزم أننا كنا سندافع بإستماتة عن هذه القضية.

الدين و العلم غير متوافقان كما نتشدق - و هذا في أفضل الفروض - و متناقضان بشدة في أساسهما و نتائجهما في أسوأها.

ما هي العلاقة بين الدين و العلم؟ تناقض أم إتفاق أم لا يتقاطعان أبدا؟ و هل يمكن جمع كافة الأديان بسلة واحدة؟