رفعت السعيد
في ليلة 23 يوليو ,1952 قرر ضباط الثورة اعتقال أقطاب النظام الذي انقلبوا عليه. في سيارة جيب عسكرية انطلق الرائد كمال الحناوي لينفذ أمر القيادة باعتقال نجيب الهلالي باشا رئيس الوزراء الذي تقرر خلعه.
جنود الشرطة العسكرية انتشروا في سراي الباشا يفتشون، او بالدقة يقلبون كل شيء رأسا على عقب. حضرة الرائد فتح دولاب ملابس وبدأ في البحث، يده أمسكت برزمة أوراق تأملها فإذا بها بيانات ونشرات شيوعية صادرة عن تنظيم سري.
الرائد كمال الحناوي كان شيوعيا، وأسقط في يده، من أين أتى الباشا بالمنشورات الشيوعية، وتساءل عن رد فعل زملائه الضباط المعادين للشيوعية الذين قد يعلنون ان الشيوعيين كانوا على علاقة بالنظام، تلفت ليجد الفتى ابن الباشا الذي بادر قائلا: ان الاوراق أوراقه ولا علاقة لها بالباشا.
وببساطة لملم كمال الحناوي الأوراق وأعادها مكانها. واصطحب الباشا الى المعتقل وخرج تاركا الفتى الشيوعي في دهشة تفوق دهشة الضابط الشيوعي.
حكى لي كمال الحناوي هذه الحكاية بعد حوالى ربع قرن من وقوعها.
وفي سجن القلعة عام 1977 وبعد أحداث انتفاضة الخبز أغلق باب الزنزانة الرقم 2 على سجينين هما نبيل الهلالي وأنا. امتدت حبال حديث كان يجب ان يكون طويلا بطول الزمان الذي يعزلنا معا عن العالم لعدة ايام قرروا بعدها عزل كل منا عن الآخر.
حكيت له حكاية كمال الحناوي.. فضحك تلك الضحكة التي تقطر سخرية وأكد صحتها ثم أكمل: ان الوالد عندما علم ان ابنه الوحيد قد أصبح شيوعيا (وكان قد أصبح كذلك منذ منتصف الاربعينيات) حاول اقناعه بالعدول عن هذا الطريق فأبى، فأبلغه الباشا بقرار حازم جازم إما التخلي عن هذه المبادئ وإما ان يقاطعه مقاطعة أبدية.
وقد كان. عناد الأب تصادم مع اصرار الفتى الأكثر عنادا والأكثر تمسكا بالمبدأ:
<أرى العنقاء تكبر ان تصادا
فعاند ما استطعت له عنادا>.
ويواصل الأب عناده حتى رحيله، ويبقى الفتى متمسكا بالمبدأ والمعتقد ويخوض غمار نضال لم يهدأ حتى آخر لحظات الحياة.
لكننا نخطئ اذ نتصور ان في الأمر عناداً شخصياً.
فالأب ظل الى آخر يوم معتقدا ان الابن قد تخلى عن قيم الأسرة وعن طموحاتها وتخلى عن طبقته التي التزم الأب بأن يمثلها وان يدافع عنها. والابن كان قد قرر بحزم وإصرار ان يترك <جحيم> الاغنياء لينعم في <جنة> الفقراء.
والفارق اللغوي بين الكلمتين لم يكن يعني شيئا عنده. فثراؤهم وقصورهم وأملاكهم وسهراتهم كانت جحيما عنده، أما عرق الفقراء وبؤسهم فهما ذلك الدرب الممتع المؤدي الى <جنة> نضال لا ينتهي. هو مرير نعم، لكنه كان حلو المذاق، هو صعب وشائك وتنبت في كل خطوة منه سجون ومعتقلات وعذاب وتعذيب.. لكنه النعيم بذاته.
وتحول المناضل الشيوعي الى ما يشبه الوجد الصوفي، وكما يفعل الصوفيون قرر ان يهاجر بعيدا عن كل ما كان في زمن الارستقراطية، انه ما يسمى عند الصوفيين بالهجرة الشعورية. ترك الطبقة التي نشأ فيها والتي شعر بأنها امتصت دماء أصدقائه الجدد.. ترك لها كل شيء. القصر، والأراضي والأملاك والميراث. تجرد من كل ما تصور أنه يمت بصلة لهذا القديم.. وعاش كما أراد هو مكتفيا وفقط بابتسامة دائمة لكنها تقطر سخرية لاذعة. عاش محاميا شهيرا جدا لكنه يكتفي بقروش تكاد تسد الرمق فهو فقط محام للفقراء والعمال، او متطوع للدفاع في قضايا الحريات. ومحامي الفقراء يبقى على الدوام فقيرا.
ويمضي نبيل الهلالي عبر الدرب الذي أراد.
واصل مسيرة بالغة الصعوبة لكنها كانت بالنسبة له حلوة المذاق.. وعاش مع فاطمة زكي رفيقة دربه حياة متقشفة وفقيرة لكنها كانت هانئة وجميلة. وكما منح نفسه حرية الاختيار، منحها للآخرين. فللجميع كمال الحق في الاختيار. حتى خصومه الألداء. وفي ساحات المحاكم دافع عن كل سجين رأى ومهما كان اختلافه معه.
وأما في حياته الحزبية فقد عاش ذات الحياة الصوفية. لكنه صوفي عنيد.. شديد العناد، يتمسك برأيه الى أقصى المدى، ولا يغضب منك إذ تختلف معه.
ثم... أضحى التنائي بعيدا عن تدانينا.
وتبقى الصداقة الحميمة والنكات المتبادلة والمحبة المقيمة...
وفي ليلة وفاته تحدثت معه تليفونيا. عاتبته ضاحكا: قم فورا فلن أسمح لك بأن تتهم جيلنا بأنه بعد السنين الطوال قد تحول الى زمن الشيخوخة.. رد ضاحكا: لا تخش شيئا فنحن لم نزل في سن الشباب وطريق مشاكساتنا لم يزل ممتدا.
لكنه خدعني.. فبعد ساعات معدودات رحل..
ترجل فارس لا يمكن تعويضه. لكنه لم يترجل نزولا.. بل تألق صعودا... فإلى لقاء يا عزيزي وصديق الزمان الجميل، ورفيق أحلى أيام العمر.
(?) الأمين العام لحزب التجمع التقدمي الوحدوي في مصر. يُنشر مقاله في <السفير> باتفاق خاص مع صحيفة الحزب <الأهالي>.
السفير