اقتباس: Gramsci كتب/كتبت
ويواصل الأب عناده حتى رحيله، ويبقى الفتى متمسكا بالمبدأ والمعتقد ويخوض غمار نضال لم يهدأ حتى آخر لحظات الحياة.
لكننا نخطئ اذ نتصور ان في الأمر عناداً شخصياً.
فالأب ظل الى آخر يوم معتقدا ان الابن قد تخلى عن قيم الأسرة وعن طموحاتها وتخلى عن طبقته التي التزم الأب بأن يمثلها وان يدافع عنها. والابن كان قد قرر بحزم وإصرار ان يترك <جحيم> الاغنياء لينعم في <جنة> الفقراء.
والفارق اللغوي بين الكلمتين لم يكن يعني شيئا عنده. فثراؤهم وقصورهم وأملاكهم وسهراتهم كانت جحيما عنده، أما عرق الفقراء وبؤسهم فهما ذلك الدرب الممتع المؤدي الى <جنة> نضال لا ينتهي. هو مرير نعم، لكنه كان حلو المذاق، هو صعب وشائك وتنبت في كل خطوة منه سجون ومعتقلات وعذاب وتعذيب.. لكنه النعيم بذاته.
وتحول المناضل الشيوعي الى ما يشبه الوجد الصوفي، وكما يفعل الصوفيون قرر ان يهاجر بعيدا عن كل ما كان في زمن الارستقراطية، انه ما يسمى عند الصوفيين بالهجرة الشعورية. ترك الطبقة التي نشأ فيها والتي شعر بأنها امتصت دماء أصدقائه الجدد.. ترك لها كل شيء. القصر، والأراضي والأملاك والميراث. تجرد من كل ما تصور أنه يمت بصلة لهذا القديم.. وعاش كما أراد هو مكتفيا وفقط بابتسامة دائمة لكنها تقطر سخرية لاذعة. عاش محاميا شهيرا جدا لكنه يكتفي بقروش تكاد تسد الرمق فهو فقط محام للفقراء والعمال، او متطوع للدفاع في قضايا الحريات. ومحامي الفقراء يبقى على الدوام فقيرا.
ويمضي نبيل الهلالي عبر الدرب الذي أراد.
السفير
برغم أن رفعت السعيد هو أكذب الكذابين. إلا ان ما جاء في روايته صحيح تماماً. وأضيف أن نبيل الهلالي, الذي أخبره أبوه بنيته لحرمانه من الميراث, لم يسعفه الوقت لتسجيل وصيته. لذلك أبى النبيل أن يستلم قرش واحد من ميراثه الضخم, إحتراماً لرغبة ابوه وتأكيداً لثباته على قناعته بلأفكار الماركسية.
الأجمل في نبيل الهلالي, ليس هجرانه لعائلته الأرستقراطية وإصراره على النضال من المقهورين من البشر وفقط.
ولا في كونه مناضلاً شيوعياً راديكالياً ثابتاً على مبادءه وقادر تماماً على الدفاع عنها.
قدم لنا الهلالي نموذجاً فريداً من البشر, لم تلوثه الحياة كما لوثت الآخرين لأن فائض إنسانيته ومحبته للبشر منعته من ذلك.
قال لي أبي ذات مرة, طريق الشيوعية "ضيق" حقاً, لأنك تختبر مدى إنحيازك لإختياراتك كل يوم مئة مرة ومرة. مع كل خطوة تخطوها, وكل فكرة تطرأ على بالك, أنت تختار. إما أن تنتمي لثقافة القطيع, فتخون نفسك قبل أفكارك, أو تملك ما يكفي من القوة والثبات لمواجة سطوتها. يدور هذا الصراع داخلك وليس فقط أمام المحقق أو ضابط الشرطة.
لم يلقبه الشيوعيون الملحدون بالقديس لأنه كان رومانسياً ثورياً كما يختزله ويسطح تجربته البعض, كان النبيل قديساً لأنه نجح في كل إختبار يومي لإنسانيته.
إختار الهلالي أن يكون مناضلاً شيوعياً حقيقياً لأنه إنسان وليس العكس.
الهلالي, قدوتنا وابونا وطريقه الصعب هو منارة طريقنا.. مثله لا يموت أبداً.