[CENTER]
التغيير الجذري يحتاج إلى تحالف لليسار المناضل

يتميز حال مصر السياسي بالاحتقان الشديد تحت السطح. ما رأيناه يومي 20 و21 مارس الماضيين لا يمكن أن يُفهم إلا في هذا السياق. فعندما احتشد عشرات الآلاف من الطلاب والفقراء والعمال في قلب المدينة في هذين اليومين، انطلقت حناجرهم تهتف بكل حماسة وغضب ضد النظام ورموزه وسياساته. في دقائق معدودات تحولت حركة جماهيرية ضد الإمبريالية إلى نضال مباشر ضد سلطة الاستغلال والاستبداد.
النضال الطبقي في مصر إذن يتسم بالاحتدام الهائل تحت غلالة خارجية من الهدوء الخادع. فعلى مدى حوالي عقدين من الزمان رسمت الليبرالية الجديدة، بقيادة نظام الطاغية مبارك، مصائر عشرات الملايين من الكادحين على ضفاف النيل. وفي الأعوام الأخيرة وصلت هذه السياسة إلى طريق مسدود. فلا هي قادرة على انتشال الرأسمالية المصرية من وضعية الركود شبه المزمن، ولا هي قادرة على رفع مستويات معيشة الجماهير العريضة، ولا هي حتى قادرة على خطب ود الإمبريالية ووكلائها في البنك والصندوق الدوليين.
في ظل وضع كهذا لا يعود الحديث عن التغيير مجرد رطانة مثقفين. العواصف والأنواء التي تجتاح المنطقة والعالم، وتصاعد الاستقطاب في الصراع الطبقي العالمي، يشيران إلى أن التغيير قادم. وفي هذا السياق يصبح السؤال المنطقي: أي تغيير ولمصلحة من؟
من هنا تولد أهمية خلق بديل يساري كفاحي واضح المعالم. السياسة كما نعلم عدوة للفراغ. فإذا كنا نعيش في حال احتقان، وإذا كانت الحركة الجماهيرية معرضة لأن تنطلق في أي لحظة، وإذا كان سيناريو الأرجنتين أو إندونيسيا قابلاً للتكرار، فإن المعركة الطبقية المفتوحة المتوقعة ستخلق رجالها وساستها. لن ينتظر التاريخ اليسار المصري حتى يسوي أموره ويحل مشاكله ويصبح قادراً على طرح نفسه في الساحة السياسية. سيدهس التاريخ المتلكئين ويزيحهم عن الطريق.
كيف نتجنب هذا المصير؟ لا شك أن تنظيماً كـ"منظمة الاشتراكيين الثوريين" (التي تصدر هذه الجريدة) لا يمتلك اليوم الحجم أو النفوذ اللذين يمكنانه من ملء الفراغ على اليسار. هذا على الرغم من أنه بالفعل هناك فراغ على اليسار. فكل المؤشرات تثبت أن طبيعة الاحتقان السياسي اليوم، على خلاف الوضع في مطلع التسعينات، يمهد الطريق لبديل يساري جذري. فقد دار التاريخ دورته وأظهرت الطنطنة الراديكالية للجماعات الإسلامية المسلحة، التي تولت قبل عقد من الزمان دور حامل مشعل التغيير الجذري، إفلاسها وحدودها البرجوازية الصغيرة الرجعية. ثم أن الإخوان المسلمين سقطوا في كل امتحان دخلوا فيه على مدى العقود التي تلت عودتهم للساحة السياسية على يد السادات في مطلع التسعينات. أما الناصريين، وهم أكثر القوى المؤثرة راديكالية اليوم، فإن حدودهم القومية، وتوجسهم من النضال الطبقي ومن ثورة الجماهير، سوف تكشفهم وتعزلهم ما إن تحين ساعة الجد.
اليسار الثوري، نظرياً، هو الأقدر على التعبير عن مطامح الجماهير ـ حتى الإصلاحية منها. ففي كل موجة صعود للحركة (أكتوبر 2000، أبريل 2002، مارس 2003) يبرز اليسار الثوري على رأس النضال الجماهيري بمستوى من التأثير أكبر بما لا يقاس من حجمه التنظيمي الحقيقي. هذا ليس صدفة. فاليسار الثوري بالفعل هو القوة الوحيدة القادرة على مواصلة النضال حتى النهاية؛ هو القوة القادرة على خوض المواجهة ضد الرأس وليس ضد الذيول والأطراف.
ولكن اليسار الثوري صغير وربما مفتت ويفتقر للجذور الفكرية والتنظيمية. لابد إذن من حل لهذه المعضلة. لابد من حلقة وسيطة تمكن اليسار الثوري من لعب دور ومن التأثير. من هنا بالتحديد ولدت فكرة تحالف اليسار. هذه الفكرة تختلف بالقطع عن الوحدات التنظيمية البائسة والمشوهة التي دخلها الشيوعيون على مدار تاريخهم الطويل في مصر. المطروح ليس وحدة تنظيمية، وليس تكوين حزب من مجموع تنظيمات وأفراد لم يحسموا معاً قضايا استراتيجية جوهرية ولم يخوضوا سوياً معارك مشتركة كافية لصهرهم في النضال. المطروح تحالف سياسي مفتوح بين قوى مستقلة تنظيمياً وسياسياً. تحالف ينبني على الفرز النضالي الذي حدث بالفعل على مدى أكثر من عامين من المعارك في اللجان الشعبية والوطنية وغيرها.
ما يشبه الحزب في هذا التحالف هو أنه يمتلك تصوراً سياسياً توافقياً يتحرك على أساسه ويخلق لنفسه جذور في الواقع على أساسه. ولكن ما يفترق عن الحزب هو كونه يسمح بوجود تيارات منظمة مستقلة بداخله، وكونه ـ وهذا هو الأهم ـ لم يحسم القضايا المركزية في النضال السياسي: إصلاح أم ثورة؟ وأي ثورة؟ وأي حزب؟ من هنا فإن سقف "الوحدة السياسية" لتحالف اليسار هو أقل من السقف المفترض وجوده في حزب قادر ـ بدون تمزقات ـ على خوض المعركة الطبقية بصلابة حتى النهاية. ولكنه سقف كاف لخوض معركة مؤقتة مشتركة تطرح اليسار بصفته تيار كفاحي منافس لكل من التيارين الإسلامي والقومي.
إلى أي مدى يمكننا توقع إمكانية خلق هذا التحالف اليساري. لن نكون متفائلين بلا عقلانية. ولكن هناك فرصة حقيقية. فوراء اليسار الراديكالي والثوري في مصر تجربة نضالية مشتركة أذابت كثير من الحساسيات وحطمت كثير من الأوهام. وأمامه معركة حاسمة تفرض مسئولية لن نكون متجاوزين إذا قلنا أنها تاريخية. فمن ينظر إلى واقع الحال في الشارع المصري. من ينظر إلى بؤس الكادحين وغضبهم وتطلعهم إلى تقويض النظام العفن الراهن. من ينظر إلى إفلاس البرجوازية، وإلى توحش الإمبريالية، وإلى ميلاد الأمل الجماهيري العالمي مجدداً، يمكنه أن يفهم عم نتحدث حين نقول أنه قد آن الأوان لميلاد بديل سياسي يساري راديكالي غير مهادن يرفع راية التغيير الثوري الجذري في واقع متعطش إلى التغيير وتواق إلى العدل والحرية.