[CENTER]تابع: متى و كيف بدأت الأزمة الحالية؟ و ما السبب المباشر فيها؟

تابع: المنظومة الأخلاقية الإجتماعية

كان نجاح المنظومة الأخلاقية الإجرائية الغربية في كونها منظومة متحركة - غير ثابتة و غير مقدسة - وضعها الإنسان و ليس الله - و لصالح الإنسان و ليس الله. و بالتالي فهي تمتلك خاصية ذاتية هائلة العبقرية على بساطتها و بداهتها - و هي القابلية للتجريب و التكذيب و التعديل - أي المرونة الكافية في طريقها الصعب لتمثل القيم الأخلاقية العليا لصالح أكبر قدر ممكن من البشر.

لقد تغير إذا جوهر المنظومة الإجرائية الأخلاقية تماما لصالح الحركة و ليس الثبات - فيما هو مناف و مضاد لطبيعة منظوماتنا الأخلاقية تماما.

و لكن لماذا تغير جوهر تلك المنظومة؟ و من هو الأب الشرعي لهذا التغيير؟

تغير جوهر المنظومة الأخلاقية القانونية لصالح الحركة و ليس الثبات و متخذا أكبر صالح ممكن لأكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع هدفا و لم يعد صالح الله و كتابه و كهنوته هدفا لهذه المنظومة.
لم يحدث هذا التغيير الجوهري هكذا بين عشية و ضحاها و من تلقاء نفسه. لم يحدث أن قرر المجتمع و فجأة التخلي عن كلام الله - لصالح ما يرى هو لنفسه.
بل حدث أن واقع سقوط كلام الله من عليائه - قد فتح الطريق للإنسان لكي يتكلم هو و يحدد مصالحه التي طالما هدرت لصالح الإله و كلامه شكلا و كهانه و الحاكمين بأمره فعلا.

لقد تتابع إنهيار الفرعيات و الأساسيات بالمنظومة المعرفية الدينية تحت معاول الإكتشافات العلمية المتتالية.
لقد إنهارت التفاسير و النظريات الدينية حول العالم الخارجي تحت معاول علوم الفلك الحديثة بدءا من جاليليو و غيره و علوم الفيزياء الحديثة.
و إنهارت نظرية الخلق تحت وطأة إكتشافات علوم البيولوجي و التقدم في علوم الحفريات و التاريخ.
و إنهارت حتى قدسية الأخلاق الدينية تحت معاول علوم النفس متمثلة حينئذ في مدارس التحليل النفسي و العلوم الإجتماعية.
و إنهار زيف المنظومة الإجتماعية الإقتصادية تحت التأثير الضاغط للماركسية و خلافها.
هذا بناهيك عن التأثير غير المباشر للعلوم و التي سبق توضيحه بهذا الشريط.

لم يعد من الممكن الإبقاء على المنظومة الأخلاقية الدينية حال إنهيار المنظومة المعرفية من تحتها.
و هذا لكون البنية الدينية تابعة بطبيعتها لقانون (الكل أو لا شئ).(*)
حيث تتراص منظوماته جنبا لجنب في نسق لا يقبل الإنتقاء - فالكل سليم أو الكل خاطئ. و سقوط أي منظوماته أو جزء منه يتبعه و بالضرورة سقوط الباقي.
فأخطاء الإله العلمية كانت كفيلة بسقوط أحكامه الأخلاقية تباعا. ناهيك عن تهافت هذه الأحكام أو عدم مناسبتها للأوضاع التي إستجدت حينئذ و لا تنفك تتغير للآن.

لم يحدث أن إنهارت المنظومة الأخلاقية بعامة للمجتمع الغربي بإنهيار المنظومة الأخلاقية الدينية. و هذا برغم التخوف المتحفظ من هذا الوضع. الذي يسمى بدوار الحرية.
لم يفلح هذا التحفظ المدفوع بالخوف من التغيير في الإبقاء على المنظومة المحتضرة - لأن مجرد الخوف المتحفظ لا يمثل دافعا في الإبقاء على منظومة اخلاقية فاشلة و غير مناسبة قد سبق و فقدت شرعيتها مع باقي المنظومات الدينية.
و في الواقع فلم يكن هذا التخوف بمحله - حيث أنه و على الأعم الأغلب بقيت القيم الأخلاقية العليا شبه ثابتة و ما تغير دائما هو المنظومة الإجرائية التي تتمثل تلك القيم.
أي أن الذي إنهار هو المنظومة الدينية الأخلاقية الإجرائية فقط و ليس القيم الأخلاقية بتاتا.
و قد كانت المرجعية العلمية جاهزة تماما لملئ الفراغ الذي تركته المنظومة الدينية الأخلاقية القانونية - و على أساس أشد ثباتا من ذي قبل - بل و غير مسبوق نهائيا.
لقد أخذت المنظومة الأخلاقية القانونية نفس أساس المنظومة المعرفية العلمية و هي المصلحة دافعا و التجريب لتحديد صحتها من عدمه هدفا.
لم يتم ربط المنظومة الأخلاقية القانونية هذه المرة بخطاب مقدس ثابت لتسقط بسقوطه و أصبح التغيير و الحركة فضيلة و ليس خطيئة - في عبقرية تجاوزت مشكلة الثبات المقدس و آثاره المدمرة.

كانت الحقيقة الموضوعية العارية هي الهدف للعلوم منذ البدء - بطبيعة ميكانيزم منهجها - و هذا بغض النظر عن أي تأثيرات أخرى.
و تباعا أصبحت الحرية (البحث و التعبير و .. إلخ) هي حصن العلوم و أكبر قيمة حماية لبنياته.

و تباعا ورثت المنظومة الأخلاقية القانونية الجديدة هذه الدوافع و الأهداف و القيم كأساس و دستور عام لمنظومتها الإجرائية.

الحق الموضوعي المجرد و الحرية تباعا هما دستور المنظومة القانونية الإجرائية و وسيلتها الناجحة لتمثل باقي القيم الأخلاقية العليا.

و بقدر نسبية الحق في العالم الحقيقي و العلم و السعي الدؤوب لزيادة نسبة اليقين منه مع الزمن - جاءت أيضا نسبية الحق في تلك المنظومة الأخلاقية الجديدة.
لم يعد هناك إذا حق مطلق - كل ما قاله فهو حق و إن كان خطأ صريح.

التغيير الحادث بين المنظومة الأخلاقية ذات المرجعية الدينية و الجديدة ذات المرجعية العلمية هو تغيير نوعي و جوهري شامل. على مستوى مجموعة القوانين و الإجراءات المنظمة للمجتمع - و لا يجب أن يغرنا أبدا وحدة القيم الأخلاقية العليا التي طالما كانت ثابتة.

فبينما كرست المنظومة الأخلاقية الدينية مجموعة تعاليمها و قوانينها الإجرائية لخدمة هدف حق مطلق ثابت لا يمكن أن يأتيه الفساد - بغض النظر نهائيا عن صحة تلك القوانين و ملاءمتها للواقع - بل و الكارثي بغض النظر عن كون نتيجة تطبيق هذه القوانين لم يخدم أبدا الغرض الذي تدعي سنها له - فكون الحق المطلق هو من سن هذه السنن - ففشلها يجب أن يعزى تباعا لمن تحكمه السنن و ليس لمن سنها. أو لإعتبار إختلاف الظروف التاريخية و المادية - فالقوانين و السنن ثابتة أيضا مع ثبات الحق المطلق الذي سنها.
و تباعا وجب قتل حرية البحث أو التغيير بهذه المنظومة أو خلفيتها.
و بتعبير آخر فالقدسية كلها أصبحت في المنظومة الإجرائية و ليس في هدفها السامي و هو القيم الأخلاقية العليا - حتى و لو أخل تطبيق هذه المنظومة الإجرائية بهدفه السامي في النهاية. فثبات المنظومة الإجرائية بثبات الحق المطلق لصاحب النص من خلفها هو الهدف.

نجد على العكس التام من ذلك - فالمنظومة الأخلاقية ذات الخلفية العلمية كرست مجهودها في إبتكار و تجريب مجموعتها القانونية غير الثابتة و التي تخدم - و بعكس المنظومة الدينية - الحق الموضوعي الخالص و بغض النظر عن أي إعتبار آخر - ناهيك عن عدم وجود أي قدسية من أي نوع في نصوصها - و تباعا فالحرية هي قدسها بعد الحق.
و بتعبير آخر فالقدسية في الهدف الذي تسعى لتمثله هذه المنظومة الإجرائية (القيم الأخلاقية العليا) و ليس في المنظومة الإجرائية ذاتها غير المقدسة و لا الثابتة - بل على العكس فالحركة من خصائصها في طريق تمثلها لتلك القيم.

أي أن كل من المنظومة الأخلاقية الدينية و المنظومة الجديدة ذات الخلفية العلمية يمثلان طرفي النقيض - و لا يمكن جمعهما بأي حال.
لقد إنخدع رواد التنوير الأوائل بوحدة الأهداف و القيم الأخلاقية العليا الواحدة - شكلا - بين منظومتنا الأخلاقية الدينية و المنظومة البراقة الوافدة الجديدة - و حاولوا ترويج المنظومة الواردة كمنتج نهائي مستقل و مقطوع عن سياقه على خلفية لا تقبل ذلك نهائيا كمن يخلط الزيت بالماء.

يتبع ,,