[CENTER]تابع: متى و كيف بدأت الأزمة الحالية؟ و ما السبب المباشر فيها؟
المنظومة المعرفية العلمية و كيف حاول الأوائل تمريرها

كان من الضروري تمرير المنظومة المعرفية العلمية الجديدة لمجتمعاتنا بالرغم من التناقض الصارخ - و الذي أفرد له مداخلات منفصلة بهذا الشريط - بين الخلفية المعرفية الدينية و المنظومة العلمية - إلا أن تلك العملية قد شابها تشوهات مازلنا نعاني آثارها لليوم:
و للأمانة فالموقف كان و مازال شديد التعقيد - فالمنظومة الوافدة قاهرة - و غير قابلة للنقد أو النفي إلا من داخل نفسها - أي لا يمكن بحال الإكتفاء بنقدها أو نفيها من فكر ديني في عملية أشبه بفقدان العقل أو إنكار الرؤية و إنكار العالم من حولنا.
و في نفس الوقت فهي تصطدم مع منظومتنا الدينية على مستويات عدة منها المباشر و غير المباشر - كما تم توضيحه مسبقا أيضا.

أي و بإختصار فإن إنكار المنظومة الجديدة من المستحيلات - كما أن المنظومتان لا يتعايشان بعقل جمعي واحد بأي حال.

و بنفس منطق و آليات محاولات تمرير المنظومة الأخلاقية الإجتماعية تمت محاولات تمرير تلك المنظومة الجديدة و هذا بغض النظر عن كون تلك المحاولات التلفيقية واعية أم غير واعية:

- كان من المهم أولا و على مستوى غير مباشر نسبيا تفريغ المنظومة العلمية من جوهرها و هو الروح المنهجية العلمية و ملاكها الحارس ثانية و هو قيمة الحرية متمثلة في حرية البحث العلمي.
فالروح العلمية كما تمثل الأساس للعلوم - فهي تمثل العائق الأكبر و الصدام الأقوى مع منظومتنا الدينية.
و تم تمرير العلوم - و مازال - كمنتجات نهائية - غير مفهومة المصدر تدرس حفظا و كأنها مواد إستهلاكية مثلها مثل ما نستهلكه من تكنولوجيا أو خطوة لطريق المستقبل المهني ليس إلا.
و في هذا المقام كان لا بد من تفريغ المفاهيم الجوهرية لمنهج العلوم من مضموناتها - ليس هذا فقط - بل و قلبها رأسا على عقب.
ألا و هي مفاهيم الحركة الديناميكية و النسبية للحقائق في العلوم في مقابل الثبات الإستاتيكي لليقين المطلق لخلفيتنا المعرفية.

فمن الواجب أن ينقلب مصدر قوة دفع العلوم الجبار و هو الحركة و اليقين النسبي إلى مصدر ضعف لها في مقابل مصدر المعرفة المطلقة الذي نمتلكه.

و كان من الطبيعي إذا تحت وطأة هذا الخلط ألا نستطيع فهم ميكانيزم تطور علم ما - فنتخيل أن إحتواء نظرية علمية ما بأخرى هي تدمير للأولى فيما يعني خطأها و يالسعادتنا حال ظهور نظرية جديدة تنقد الأقدم لكي تحتويها بغرض مقاربة الحقيقة بشكل أفضل - فمعنى هذا خطأ النظرية الأولى و سيأتي زمن تظهر فيها نظرية ثالثة لتثبت خطأ الثانية و هكذا دواليك - فلماذا نتعب أنفسنا مع هؤلاء الأشقياء و نحن نمتلك الحقائق المطلقة؟

تم الخلط العمدي بين الديناميكية العلمية و نسبية اليقين و بين الفوضى التامة و العبث.

و هو خلط عمدي بالتأكيد - كون قوانين نيوتن للحركة مازالت تعمل على المقذوفات في الظروف الطبيعية بعد إكتشاف نظرية النسبية. فالمقذوفات لم تتمرد على نيوتن بحجة ظهور النسبية و تسقط بعيدا عما حدده لها.
و هو خلط عمدي بالتأكيد كون التطور الحيوي مازال يعمل قوانينه بعد إكتشاف الجينوم و الهندسة الوراثية.

أصبح الخلط هو شغلنا الشاغل - بين النقد للإحتواء وصولا لمكان أقرب و أعم من الحقيقة - و بين النقض و هو الخطأ التام للمنقود و كأنه لم يكن.
بين النسبية الموضوعية للعلوم - و النسبية الذاتية العبثية.

لكن و كما هو دائما الواقع بقسوته - تذهب جهود خلطنا المتعمد دائما أدراج الرياح - و لا يمكن أن يمثل أكثر من مخدر يدغدغ حواسنا حينا لكي نفيق على واقع نجد فيه أنفسنا لا نمتلك من أمور حياتنا إلا إستجداء منتجات هذا الفكر النسبي الذي نستعلي عليه.
عندما نفيق و نجد أن المقذوفات لم تتمرد بعد النسبية و لا بعد نظريات الكم أو لنجد التطور مازال يعمل قوانينه - و لنجد أن يقيننا المطلق لم يحدد لنا أين تسقط تلك المقذوفة و لو على وجه التقريب - حينئذ يلزمنا جرعة أخرى من هذا المخدر لكي لا نواجه أنفسنا أبدا.

فعملية الخلط العمدي عملية مستمرة - يلزمها إعادة إنتاج دائم لتيقى قيد الحياة.

- و نجد على مستويات أخرى مباشرة نسبيا إستخدام نفس آليات التلفيق الموجودة سلفا لدينا مثل إبراز النصوص و المواقف و السير و الأحاديث التي تؤيد ما يراد تمريره في دائرة الضوء - و كبت و كظم أي ما قد يتناقض معه في الجانب المظلم من القمر.
فمجرد نظرة للأحاديث و السير و النصوص المتداولة و المعتمدة لدى مجتمعاتنا يوميا ممثلة جل معارفنا في فترة من مائة عام لمائتين فقط في الماضي ثم اليوم نجد معظمها و قد إنزوى في الظلام و تم السكوت عنه و كأن لم يكن - و ضعف الإسناد أو الرواية أو .. إلخ - جاهز أبدا لكظم ما قد يظهر منه ثانية.
و في المقابل نرى نصوص أخرى و قد ظهرت لدائرة الضوء بعد لي أعناقعها و تحميلها ما لا يمكن أن تحتمل لكي تتوافق مع المنظومة الجديدة - أو لكي تحتويها و تدعي السبق عليها - و لم لا؟

و كعادتنا دائما فخلط مفاهيم الألفاظ من آلياتنا المفضلة - فنجد كلمات مثل (علماء) و قد أستخدمت لتطلق على كل من العاملين بمجال العلوم الحديثة الواردة - و على المشتغلين بسلك الكهنوت و رجال الدين. و كأنه مجال واحد.
و نجد لفظا مثل (العلم) و قد إستخدم للمعارف الدينية على السواء مع العلوم الحديثة - و أصبح للغرابة طلب العلم (الحديث) فريضة دينية في نفس الوقت الذي يجرم فيه جوهر و منهج هذا العلم و يتحول ملاكه الحارس و هو الحرية لشيطان يجب قتله في نفوسنا منذ الصغر.

و لا عجب أن نسمي رجل دين مثل الشعراوي أو بن باز عالما - و أن نتقبل منه تباعا أي إفتاءا علميا أو دينيا - فلا فرق.
و لا عجب إطلاقا - أن ننخدع في الخلط المركب - من رجال يحملون شهادات علمية في الطب أو الهندسة و يتحدثون في الدجل و الشعوذة بما لا يخص مجالات شهاداتهم من قريب أو بعيد و لا العلوم التي يتحدثون عنها من قريب أو بعيد - بل و الأدهى و الأمر فيما لا يخص حتى الدين من قريب أو بعيد فيما يسمى بالإعجاز العلمي في الدين أو العلم و الإيمان ... إلخ.

لكن و لمرة ثانية و ثالثة .. إلخ - تذهب جهود خلطنا المتعمد دائما أدراج الرياح - فعلى مستوى الواقع - لم ينتج هؤلاء المنظرين أي نظرية علمية حديثة - و لم ينقد أي نظرية قائمة و أيضا لم يأت بأي تكنولوجيا جديدة - بل و الأدهى لم يأت بأي شئ في مجال الدين أيضا.

يتبع ,,