نظرة على الأغنية العراقية


لا مو حزن لكن حزين
مثل بلبل كَعد متأخر لكَه البستان كله بلايا تين
لا مو حزن لكن حزين
مثل ما تنكَطع جوا المطر شتلة ياسمين
لا مو حزن لكن حزين
مثل صندوكَـ العرس ينباع خردة عشكَـ
من تمضي السنين

مو حزن مو حزن
لكن حزين ..

ما رأيك لو تسمع لطمية بصوت صباح اللامي مثلاً ؟ ما رأيك لو تبكي و تشاهد رقصة مطرب روك آند رول ؟!! ..

هكذا هو الحال حين يهشم سعدون جابر الحزن العراقي ، حين يُفسد نكهة قصيدة مظفرية ، حين تسمع " مو حزن " ضمن شريط " الرمال " بألحان كما يبدو أنها لا تتناسب و الحزن ،
بل و تعودت على اصطناع الإيقاعات السريعة ( كاظم فندي ) .

كنت أبحث عن هذه الأغنية ، و أشعر بأنني سأجد نفسي معها ، و لم أعلم أن نفسي ستكون بهذه النكهة الباهتة ، كان أمامي خياران في محل التسجيلات : " بس تعالوا " لكريم منصور ، و " مو حزن " لسعدون جابر و اخترت سعدون لأنني ظننت الأغنية ستكون على مستوى جمال الكلمات ، كما تعودنا في الأغاني النوابية : " البنفسج ، روحي ، حن و آنه احن – ياس خضر ، و شمالية و العب العب لرياض أحمد ، و عودتني بصوت فؤاد سالم . أشعر بأن ثقتي الوهمية بصوت سعدون جابر مبنية على شيء معين ، على أغنيات زهير الدجيلي و التي لحنها الموسيقار كوكب حمزة مثل : الطيور الطايرة ، هوى الناس الخ .. كما لا نتناسى سرقة سعدون لأغاني كوكب التي قام بتلحينها و هي من كلمات زهير الدجيلي أيضا منها أغنية " لو رديت " ، منذ مدة طويلة و سعدون جابر يعتمد على الإيقاعات السريعة ، يرى فيها الروح الشبابية التي قد توصله لشهرة " كاظم الساهر " – و إن كنت لا أحبذ هذا الآخر - .

هنالك عدة نماذج عراقية تعتمد على الهدوء في الغناء و هي : حسين نعمة ، فؤاد سالم ، و سعدون جابر .
حسين نعمة ظهرت قدرته هذه في أغنية " يا نجمة " ، كما كان الأقوى في تمثيل الإرث الحسيني و هذا واضح في أغنية " يابن آدم " التي تشعرك بأنك في موكب حسيني ، إضافة لمرونته في غناء الأبوذيات خاصة تلك التي اشتهر بها الراحل حضيري أبو عزيز .
فؤاد سالم كذلك في أغنية " تانيني " و التي لحنها الأستاذ كوكب حمزة حملت الحس الحسيني ، إضافة لأغاني أخرى تشعر بأنها تلامس الروح قبل الأذن ، فؤاد صاحب أغنية " يا عشقنا " و التي حسب ما عرفت أنها من أوبريت " البيادر " الشهير على مستوى التاريخ الفني العراقي .
و هنا نصل إلى سعدون جابر ، سعدون الذي أحببناه في " الطيور الطايرة " و " هوى الناس " و " البارحة " و " جتني الصبح " . ثم كرهناه في " مو حزن " و " عشرين عام " و غيرها من أغاني لن تكون حديثة مادامت " كَذلة " سعدون جابر على قيد الحياة !!

إن المشهد الفني العراقي القديم بدأ يتساقط تدريجياً . . ياس خضر ذلك الصوت الذي يرمز بالنسبة لي إلى ثــُقــل اللهجة العراقية التي تمثل الصعوبة ، الحنين ، القوة و الموسيقى .
ياس خضر يملك قدرة رهيبة على التحكم في صوته ، أن يكون طفولياً هادئاً كما في بداية أغنية " حن و آنه احن " ، أو كما في المد الطويل في أغنية " دوريتك " و هو في مده هذا يتميز عن الجميع في مرونته على العكس من سعدون جابر الذي أشعر بنشاز صوته حين يصعد عالياً في إحدى أغنياته ، المصيبة الآن حين ترى ياس خضر يُهمش أصدقائه الفنانين كما في لقاءه مع الشرقية .. و يجعل نفسه الأول حين يُسأل عن ترتيبه بين فناني العراق من جيله و من بعده سعدون و فاضل عواد و رياض أحمد !! ( ذكر ذلك في لقاءه مع الرأي العام الكويتية ) .

المصيبة الكبرى حين يغني على قناة الديار و ينسى كلمات أهم أغنياته ( حن و آنه احن )
منشداً :
سكتاتك نبعة الريحان بالدلال ما تحمل ثكَل ..
بدلاً من :
سكتاتك تشكل خواطر بالقلب مالي عرف بيهن كَبل ..

ياس خضر بدأ يغني من أجل الغناء فقط !!

ناهيك عما يفعله سعدي الحلي و انتكاسة حسين نعمة أيام صدام فأصبح غناؤه أقل قوة مع تقديري الشديد لهذا الفنان الذي صمد طويلاً أمام لوحاته .

إننا لا نستطيع أبداً أن نعتمد على الموتى ، على رياض أحمد الذي يمثل ظاهرة ( الفنان ) ، عمق إنسانيته و حضوره على المسرح و في الأغنية ، رياض أحمد الذي خرج الآلاف لتشييعه و قد منع نظام صدام هذا الحشد اعتقادا ً منه أنه قد يكون انقلاباً عسكرياً !!
ففي رياض أحمد ما لا يوجد في تاريخ الفن العراقي سوى لمرة واحدة ، و هذه المرة تتمثل بناظم الغزالي ، حين أقول ظاهرة فنان لا أعني بذلك صوت جميل و وجه وسيم و أغاني قريبة إلى القلب ، بل في مدى الوفاق بين الموسيقى و الفنان ، رياض بإمكانه أن يقدم في أي وقت أغاني من الإرث الريفي العراقي أو غيره ، فهو صاحب ذاكرة قوية و صوت متمكن ، بالإضافة إلى ثقافته الموسيقية خاصة تلك التي تظهر في ملاحظاته لغيره من الفنانين بشكل دقيق ( استناداً إلى مقابلات التلفزيون العراقي معه ) رياض و ناظم و سيد مكاوي و غيرهم من فنانين عراقيين و عرب يملكون صلة رحم مع المسرح و الأغنية على خلاف قحطان العطار الذي يملك خجلاً في صعود المسرح ، رياض في أيامه الأخيرة حين كان يسكر طوال اليوم لاشتداد الألم عليه سجل أجمل أشرطته ، مثل شريط الكفر ، و التي غنى بها قصيدة يقال أنها لـ عبدا لأمير الحصيري :
أنا الإله و السكارى ملائكة ......... الخ

و الملفت في هذا الشريط كيف رد رياض احمد على استغفارات السكارى قائلا : " شنو استغفر الله ، وين الله هذا التركنا تحت رحمة كلب كل هاي السنين ؟ " ..

إنه على خلاف ياس خضر المغرور ، الذي يرتبك دون الأوراق التي أمامه . رياض يشطح من الأغنية أو الموال ، يتكلم ، ثم يعود ، يبكي ، يحزن ، يضحك و يتعارك ثم يعود أكثر جمالاً ..

المخيف في كل هذا أننا نفتقد لشباب يحافظ على إرث الأغنية العراقية من أبوذيات و غيرها ، كل الشباب يحفظ النتاج الستيني و السبعيني ، لكن ماذا عن الأكثر عراقة و قدما و جمالاً من كل برتقالة و مشمشة و رمانة و تفاحة ؟!!

لقد استمعت إلى تجربة واحد فقط ولكن يبدو أنها لا تجد الثناء أو التشجيع ، ألا و هو صوت سرمد عبد الجبار ، شاب في الثلاثين من عمره يغني بطريقة مشابهة لطريقة داخل حسن ، لدرجة أن هنالك من هجر صوت أبو كاظم لأجله !!

لا ننكر أن الغناء الشبابي بدأ يصل بقوة إلى المستمع العربي ، لكننا لا نستطيع إسقاط الأرضية التي عمدت كل الحناجر ، فماذا يساوي الغناء العراقي العريق دون ناظم و داخل و حضيري و عباد العماري و سليمة مراد و صديقة الملاية ، و عفيفة اسكندر الخ ..

منى كريم