بسم الله الرحمن الرحيم
التداولية في فكر وممارسات الإخوان (قراءة نقدية مقارنة)
بقلم: إسماعيل أحمد
نشر الكاتب القدير حكم البابا في جريدة القدس العربي بتاريخ: 26/8/2006 مقالا بعنوان: (المعارضة العربية بعد السلطة للأبد )
وموضوعيا يمكنني أن أتفق مع الأستاذ البابا فيما ذهب إليه من خطورة التعامل مع السلطة والمعارضة بمكاييل مزدوجة، فما هو مرفوض من السلطة مرفوض من المعارضة، والتجاوزات التي تأخذها المعارضة على السلطة حري بها أن تكون أسبق مبادرة في تطبيقها....
هذا كلام لا غبار عليه وإلا فقدت المعارضة مصداقيتها عند قواعدها قبل شارعها السوري ومحيطها الإقليمي!
وقبل أن أدلي بدلوي في تفسير هذه الخطوة الإخوانية فيما أتيح لي من معلومات، دعونا نعود سريعا لممارسة الجماعة كي نراقب الموقف مراقبة موضوعية ونحكم عليه من سياقه فنتأكد من أن هذه الواقعة ليست حكما مطردا في حياة واحد من أعرق الأحزاب السورية، لم يسبقه في الأحزاب التي لا زالت على قيد الحياة سوى الحزب الشيوعي...
وهنا سأتكلم سريعا في ثلاثة عناوين مهمة:
الأول: عرض سريع لممارسات جماعة الإخوان المسلمين في ما يخص التداول على القيادة للتأكد من عدم اطراد هذا السلوك، وحينها يمكننا أن ننفي عنه بأنه ظاهرة إخوانية بكل وضوح، لنعالج بعدها حيثيات هذا الإجراء الطارئ في الممارسة وظروفه بعيدا عن منهجية التبرير من أجل التبرير!
الثاني: مقارنة بين سلوك الإخوان وسلوك الأحزاب السورية الأخرى، بل والأحزاب العربية في المنطقة لنضبط مزاودة زيد على عبيد، فليس معقولا أن يرمي الناس بالحجارة من بيته من زجاج!!
أولا: فكرة التداول على السلطة:
تبنى الإخوان بوضوح لا لبس فيه آلية التداول على السلطة وطرحوها في مشروعهم السياسي على أنها المقابل الموضوعي التاريخي لحالة (الملك العضوض) الذي جاء بعد الخلافة الراشدة على أساس التعيين (ولاية العهد)، للابن أو الأخ بدلا من اختيار الأمة!
مثلما هي المقابل الموضوعي أيضاً لحاكم يقوم على أمر الأمة مدى الحياة، أحسن أو أساء، نجح أو أخفق!
وفهموها رفضا لمناهج فرضت نفسها بالقوة (الجبرية) على الأمة، وأعلنت وصايتها عليها تحت شعارات العلمانية أو شعار الحزب القائد. وطرحوها بأوسع مضامينها، فهي في مشروعهم تداولية المناهج والبرامج والرؤى والاجتهادات في إطار المرجعية العامة للأمة.
وبكل ثقة طرحوها تداولية بين القوى والأحزاب السياسية، التي يتم دعمها من الإرادة الوطنية العامة، عبر صناديق الاقتراع الحر والنزيه، وعلى أساس البرامج والشخصيات العامة التي تتقدم بها لجماهير الأمة.
وقبل أن نتجاوز هذه النقطة دعونا بكل شفافية نميز بين دولة مكونة من تنويعات ثقافية وفكرية وطائفية وقومية، وبين حركة معارضة من طيف واحد سرعان ما يفرز قياداته بطريقة مباشرة لا تكلف فيها، تمارس نشاطها بالنذر اليسير المتوفر لها من آليات، والمرشح للقيادة مرشح في ذات الوقت لاستهداف حقيقي من نظام دموي سبق وأن حاول اغتيال الأستاذ العطار يوما فاغتال زوجته! وهو لا يزال مشتبه به رئيسي في تحقيق دولي بعدة جرائم اغتيال، وجرائمه طالت فوق هؤلاء عدد من السوريين الذين لا بواكي لهم!! ة، و وبالتالي لايجوز أن نقرأ مسيرة الانتخابات الأخيرة خارج هذا السياق ..

ثانيا: التداول في قيادة الجماعة:
فكرة التداول تطورت في فلسفة الحركة وممارستها، فقد كانت الجماعة بادئ ذي بدء وبالرغم من طرحها المتقدم لسياسة الدولة حيث كانت تلح على المطالبة بحكم نيابي دستوري، وقد شارك السباعي شخصيا في توطيد دعائم هذا الحكم بعضويته في اللجنة الدستورية السباعية والتي دشنت لدستور سورية الشرعي إذا أبعدنا كل الدساتير الانقلابية التي وضعها العسكر بدون تفويض من المجلس النيابي السوري...

أقول: كان الإخوان على الرغم من تقدمهم في هذا الطرح بخصوص الدولة، غير أنهم في أجوائهم الداخلية كانوا أبناء بيئتهم!
نشأت جماعة الإخوان المسلمين من توحيد مجموعة من الجمعيات الإسلامية الدعوية في سورية، وهي جماعات كان يغلب عليها النزعة الصوفية نسبيا!
وفي أجواء هذه الجمعيات كانت الممارسة السائدة هي البيعة الأبدية للمرشد لاعتبارات واقعية لا تخرج عن سياق الثقافة الإسلامية التقليدية، حيث كان عدد الأتباع محدود، وآلية الولاء تعتمد على الثقة بشيخ الطريقة وأمير الجماعة والذي كان في الغالب يمتلك كاريزما مميزة، وأسلوبا خطابيا آسرا، ومكانة اجتماعية خاصة...
السباعي رحمه الله كان يمتلك كل ذلك، وتعداد الجماعة، وجذورها الصوفية التقليدية، وثقافة المجتمع التي لم تكن بذلكم النضج في الممارسة السياسية، كل ذلك جعل الجماعة وهي تنحاز لآلية الانتخاب منذ الزعيم المؤسس، غير أنها انتخبته انتخابا غير مؤقت، وأعطته بيعة أبدية!
هذه الانتخاب تحدد بشكل طبيعي! فبعد انتخابات 1956 التي شارك بها الدكتور السباعي رحمه الله ألم به مرض استدعى إعفاءه من مسؤولياته، ولكن الإخوان أبقوا عليه مراقبا عاما تكريما له، مع إناطتهم كل مسؤولياته القيادية للأستاذ عصام العطار (نائب المراقب العام)، وبقي كذلك سنة ونيف حتى حلت الجماعة استجابة لرغبة عبد الناصر أبان الوحدة...
بعد الانفصال عاد النشاط الحزبي، واستأنف الإخوان نشاطهم بقيادة الأستاذ عصام العطار، وبعد نفيه خارج القطر انتخبت الجماعة الشيخ أبوغدة ثم الأستاذ عدنان سعد الدين ثم الدكتور حسن هويدي فالدكتور منير الغضبان فالأستاذ عدنان سعد الدين والشيخ عبد الفتاح أبو غدة على رأس جناحي الحركة المنشقين، وفي أثناء فترة الانشقاق جرى التداول على القيادة في كلا الطرفين حيث أسلم الأستاذ عدنان سعد الدين القيادة بالانتخاب للأستاذ نعسان عرواني، بينما بذات الآلية الانتخابية أسلم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة القيادة للدكتور حسن هويدي...

الأستاذ العرواني والدكتور هويدي وحدا الصف بعد ست سنوات من القطيعة، وعاد صفا واحدا تحت قيادة الدكتور هويدي، حتى عام 1996 وفي أواخر هذا العام انتخب الأستاذ البيانوني لولايته الأولى، وكان النظام الداخلي يعطي للدورة القيادية مدة خمسة سنوات، ولكن عوائق النظام الأردني أخرت الانتخابات إلى عام 2002 فانتخب أبو أنس لولاية ثانية، وجدد له هذا العام للمرة الثالثة في سابقة إخوانية اضطرارية شرحت طرفا من ظروفها الواقعية...

إذن الحركة تمارس آلية الانتخاب (لا الاستفتاء!) منذ عهد المراقب العام الأول، ولا يزال جميع المراقبين العامين للجماعة على قيد الحياة حتى اليوم، يتعايشون مع بعضهم باستثناء رجلين اثنين، ألا وهما: الدكتور السباعي والشيخ عبد الفتاح أبو غدة..
وهذان الرجلان توفيا وهما خارج مناط المسؤولية القيادية، انتخابا وتداولا لا انقلابا وحركات تصحيحية!!
كم أود من الناقد القدير أن يعطيني اسم حزب سياسي، سوري أو عربي، تم التداول على المقعد الأول فيه بين ستة قيادات في مدى أربعة عشر عاما، وبعدها قارن بين الإخوان وبين غيرهم بما تشاء!!

فبين عامي 1982-1996 تم تداول هذه القيادات الإخوانية على منصب المراقب العام:
1- الشيخ عبد الفتاح أبو غدة
2- الأستاذ عدنان سعد الدين
3- الدكتور منير الغضبان
4- الدكتور حسن هويدي
5- الأستاذ نعسان عرواني
6- الأستاذ علي صدر الدين البيانوني
ليس بين قيادات من تولى الحكم بطريقة وراثية، حتى ولو على الطريقة الجملوكية...
الإخوان لم يزعموا أن البيانوني فلتة زمانه! ولا أنه الزعيم الملهم! ولا أنه القائد الخالد!!! ولكنه شخصية تداعت ظروف الشتات القهرية، وتضييق الأنظمة المتحرجة من علاقتها مع النظام السوري، وحرمان كثير من الإخوان من وثائقهم السورية الرسمية التي تتيح لهم التنقل هنا وهناك، كما والغطاء الدولي للنظام والتستر على جرائمه القديمة والحديثة إلا بحدود الابتزاز من بقرة حلوب لا تزال تثبت على طريقة صدام أنها أكثر تجاوبا مع الابتزاز والتهديد منها في نزولها إلى إرادة الأمة وتوحيد صفها لمواجهة أخطار الخارج!!
هذا الغطاء الدولي بعيدا عن كل خطاب استهلاكي ابتزازي مخالف، مثلا تحديا جعل العملية الانتخابية الإخوانية كلها تجري في ظروف خاصة اقتضت نوعا من التعامل الواقعي معها، ربما لأن ظروف الأستاذ البيانوني، وإقامته اللندنية تمهد لتحركات مرنة من الصعب أن تسمح بها النظم المضيفة لقواعد ونخب الإخوان المقيمين لديها...
نعم لو كان البيانوني يقيم في الأردن أو مصر أو لبنان لقلنا بأنه لدينا عدد ضخم من المرشحين لتداول هذا المنصب، وبعضهم يبز الأستاذ البيانوني يقينا بملكاته القيادية، ولكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، وقواعد الإخوان تسدد وتقارب لاختيار أصلح الممكن،
على أن فكرة تحديد الدورات الانتخابية بدورتين ليست قضية مطلقة لا تتغير تحت أي ظرف! ولا خرقها يعبر عن كفران بآلية التداول، فالتداول قائم ما دامت آلية الانتخاب هي الحكم، ويبقى التحديد بدورتين أو ثلاث محترما حين تسمح الظروف الواقعية لإنجازه، وما دام الإخوان يتداولون بالفعل والممارسة، وما دام لديهم رصيد من هذا التداول ليس لأحد غيرهم، وما داموا يحققون آلية تسلم القيادة بالانتخاب لا بالتوريث ولا حتى بطريقة (الاستفتاء) المزرية والتي تجعل الشخص يقول فقط: نعم أو لا
قبل المقارنة والمزاودة على الإخوان علينا ألأن نستدي ولو اسم حزب سوري واحد حقق ما حققه الإخوان!

ثالثا: موقف الأحزاب السورية من التداول على القيادة:
في سورية كما تعلمون خمسة أحزاب رئيسية انبثقت عنها مجموع الأحزاب الموالية والمعارضة في الداخل والخارج، وهذه الأحزاب بحسب العمر:
(الحزب الشيوعي، جماعة الإخوان المسلمين، حزب البعث العربي الاشتراكي، الاتحاد الاشتراكي (الناصري)، حركة الاشتراكيين العرب).
الحزب الشيوعي بقي رهينا للأستاذ خالد بكداش حتى توفاه الله، ثم ورثته زوجته وصال التي اختلفت مع صهرها قدري جميل ليؤسس فصيلا شيوعيا آخر (مجموعة قاسيون)، بينما الجناح الشيوعي الذي رفض الانضواء بالجبهة الوطنية بقي بضع وثلاثين سنة تحت قيادة الأستاذ رياض الترك حتى حدث الانشقاق الأخير، وتأسس حزب الشعب الديمقراطي الذي لايزال الوقت مبكرا للحكم على تداوليته القيادية...
الإخوان تحدثنا عن تداوليتهم في العنوان السابق...
حزب البعث بقي رهينا لقيادة تاريخية لم تنحى إلا بانقلاب عسكري، ومن قيادة يمينية ليسارية لحركة تصحيح لم تكن لدى البعثيين آلية للتداول خلا الانقلابات العسكرية والوفاة، ومعلوم أن الحزب ورث أمانته بشار كما ورث الدولة كلها من بابها لمحرابها، وبالتالي فالحديث عن تداول في الحزب صنو الحديث عن التداول في الرئاسة!!
الاتحاد الاشتراكي انتخب الأستاذ جاسم علوان في الخارج والأستاذ جمال الأتاسي في الداخل، بقي الأستاذ الأتاسي أمينا عاما للتنظيم بعد أن قرر علوان الإقامة شبه الدائمة بالقاهرة، ولم يترك منصبه حتى الوفاة، خلفه بعدها الأستاذ حسن عبد العظيم الأمين العام الحالي!
الاتحاد الاشتراكي المعارض كان له جناح موال دخل في الجبهة الوطنية بقيادة الأستاذ فوزي الكيالي وتوارث تركة الحزب في الجبهة (التقدمية الوطنية!) كل من أنور الحمادي فإسماعيل القاضي وآخرون وصولا إلى صفوان القدسي الأمين العام للاتحاد اليوم، فأين هو التداول على منصب القيادة في أ] من الجناحين؟!!
من بقي؟
حركة الاشتراكيين العرب التي أسسها الحوراني، ثم آلت بدعم النظام السوري إلى عبد الغني قنوت الذي انخرط في الجبهة الوطنية وبقي أمينا عاما حتى وفاته! بعد وفاة (عبد الغني قنوت) ، قبل ثلاث سنوات برزت مجموعة الدكتور عبد العزيز عثمان مع ابنه المهندس غسان عثمان التي انشقت في نفس العام مؤسسة حزب العهد الوطني الذي تأسس قبل عام ودخل بشكل مستقل في الجبهة الوطنية التقدمية. بينما احتفظ بالاسم الأمين العام المساعد (أحمد الأحمد) الذي أصبح أميناً عاماً رسمياً للحزب ، بعد اعتراف النظام به! يعني الحركة لم تمارس التداول يوما!!!
هذا هو واقع الحركات السياسية السورية الأساسية، ولو ذهبت بك إلى الجانب الكردي فالصورة لا تخرج عن هذا الإطار العشائري الوراثي كثيرا!! فتلك الأحزاب خرجت جميعا من شرنقة الحزب الشيوعي الذي تحدثنا عنه آنفا، وهي جميعا تكاد تتسمى باسم: (الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي)، بينما تداولها يترتب على اعتبارات عشائرية وانشقاقية صرفة فهذا حزب حميد حاج درويش وهذا حزب عثمان صبري) وهذا حزب دهام ميرو، وهذا حزب صلاح بدر الدين، وهذا حزب صالح كدو، وهذا حزب يوسف ديبو، وهذا حزب محمد موسى، ومافيهم واحد يمكنه أن يتداول قيادة الحزب حتى يتوفاه الله أو ينشق عنه أحد المغامرين!!!

من أجل هذا الواقع دعونا لا نغمط الحقيقة ونزاود على بعضنا، فالإخوان من حيث الممارسة يحق لهم أن يكونوا في طليعة الأحزاب السورية ممارسة ديمقراطية لأنهم الحزب الوحيد الذي مارس التداول، والحزب الوحيد الذي لا يزال خمسة من قياداته الأولى على قيد الحياة، وأربعة منهم ينتظمون في صفوف الجماعة تحت قيادة أخرى منتخبة بدون أي حساسية ولا انشقاق...