{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
الجحيم
Albert Camus غير متصل
مجرد إنسان
*****

المشاركات: 1,544
الانضمام: Jun 2004
مشاركة: #2
الجحيم
مات صابر

كانت وفاته سهلة وسلسة للغاية. وفاة تقليدية لا جديد فيها. كما يتوفى كل إنسان.
كانت سهلة له ولأهله وأقربائه كذلك. أصيب بمرض عادي مميت مثلما يصاب البشر عادة قبل موتهم. وقد كان أيضاً مؤمناً كبقية البشر العاديين.
عندما كان ممدداً على فراشه، والذي تحول الآن من فراش راحة ودعة وحياة ولذة إلى فراش مرض وألم وموت، كان أهله وأقرباؤه ملتفين حوله كعادة أي شخص يموت وله أقرباء وأهل.
لم يمض وقت طويل حتى فوجيء بمخلوقات عجيبة الشكل تنزل عليه من سقف الغرفة الذي كان مبحلقاً فيه بعينيه المتعبتين وابتسامته اللامبالية. كانت تلك المخلوقات بأجنحة، ولم تلبث أن أخذت مكانها على فراشه الضيق بطريقة لا يمكن تفسيرها بقوانين هذا العالم، كانت تلك المخلوقات بيضاء حسنة المنظر وتحمل معها أقمشة لامعة من الكتّان الذي لم ير صابر مثله من قبل في وسائل الإعلام ولا عند الباعة أثناء سني حياته السبعين على الأرض. تلك الأرض التي تجول فيها طويلاً خلال حياته القصيرة.
كان صابر يعلم جيداً من خلال قراءاته ومطالعاته العديدة أنّ تلك المخلوقات هي الملائكة التي تأتي لتأخذ روح الميت. ولهذا فرح واستبشر خيراً أن كانت أشكالها حسنة وألوانها بيضاء ورائحتها زكية كالمسك.

المسك؟

لم يكن صابر يحب المسك حقيقة. كان يختنق من رائحته، وعندما كان يدخل المسجد ليصلي، ويتصادف أن يكون عاثر الحظ بحيث يكون رفيقه على السجادة رجلاً يضع المسك، كان يعمد فوراً إلى التهرب إلى الصف الأمامي إذا وجد فيه فراغاً. وإذا كانت رائحة المسك فجة إلى حد الموت ولم تسعفه الظروف بمكان في صف أمامي، فقد كان يهرب إلى الصفوف الخلفية، ولا ينسى قبل أن يفعل ذلك أن يطرق جبهته بإحدى يديه ويغلق عينيه ليتعمد الظهور أمام الناس الملاصقين له وأمام رفاقه على السجادة وكأنّه قد نسي شيئاً هاماً في السيارة التي عقلها فوق الأسفلت خارج باب المسجد، ثم يتراجع وكأنّه خارج من المسجد، وما إن يصل إلى حدود يغيب فيها عن أعين رفاق السجادة الأمامية التي تراقبه بدهشة، حتى يعمد إلى الوقوف في مكان فارغ خلف الصفوف ويحمد الله على أن أعتقه من رائحة الموت المسكيّة تلك.
صحيح أنّه كان يتذمر بعد الصلاة ويشعر بغضب على نفسه وعلى النّاس لأنّهم وبكل قلة ذوق تسببوا في حرمانه من نوال أجر وثواب الصلاة في الصفوف الأولى، وهو الذي كان يعد لحجز مكانه في تلك الصفوف منذ ما قبل الصلاة بساعتين على الأقل، ومروراُ بإجراءات في غاية التعقيد ، تبدأ بإسباغ الوضوء ثم ارتداء الثوب النظيف ثم استعمال السواك ، ثم النزول من بيته ليتمشى على مهل في الشارع ليصل إلى المسجد ويحجز مكانه قبل نصف ساعة على الأقل من موعد الأذان !.
صحيح أنه كان حين كان يراجع جهده الذي أراقه وأضاعه ذلك القليل الذوق الذي كان يضع المسك كان يشعر برغبة قوية في تناول حذائه من خارج المسجد ليسحق به رأس الثعبان الذي وضع المسك بطريقة فجّة ويخبره كم أنّه شخص قذر وقليل الذوق لكي يعتدي على أنوف المصلين ويزكمها بهذه الرائحة الخانقة وبتلك الطريقة الوقحة.

وعندما كانت تواتيه تلك الأفكار كان يفزع من نفسه ويذهل من أمرها له بالسوء، ثم يلجأ إلى التسبيح من فوره، ويمسك بتلابيب الاستغفار وبخناق آية الكرسي حتى يغفر الله له وحتى يشكره على أنّه حفظه من تنفيذ مخططه الدنيء بضرب مؤمن على رأسه بالحذاء.

ولكنّه ما كان يلبث كثيراً حتى يفزع مرة أخرى حينما يتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع المسك حتى إذا كان قادماً من أول الطريق فإن الواقف آخره يشمه ويعرف أن رسول الله قد جاء ، وحتى أنّه كان إذا ما سلم على أحد بقي عبق المسك الخانق في يد المسلّم عليه أياماً لا يزول من أثر سلامه على النبي. صلى الله عليه وسلم!!

كان صابر إذا وصل به الفكر إلى هذا الحد يفزع ويشعر أنّه قد خرج من الملة وكفر بالله ورسوله، وعندها كان يبكي وينتحب غير آبه لوجود جمع كبير من النّاس في المسجد، والذين كانوا يغرقونه بنظرات تتفاوت بين الشفقة والخبث والغضب من إزعاجه والإعجاب بتقواه.
كان ينظر إلى تلك العيون أحياناً من خلال دموعه فيراهم كعفاريت متراقصة بيضاء تقول له بنظراتها المجنونة في آن واحد: يا لك من رجل تقي معذب مؤمن خبيث مزعج منكر الصوت كالحمير!.

ولكنّه لم يكن يأبه لذلك كله، وكان يستمر في بكائه بين يدي الله تعالى ويسأله سبحانه المغفرة والعفو عن فسقه وشركه الخفي الذي دب في قلبه كدبيب نملة سوداء على بساط أسود في ليلة متهببة !.

كان صابر يفضل عطر السي كي CK ، ويحب في ذلك العطر روحه الخفيفة ولطفه على الأنوف، والمشاعر الوردية التي يضفيها ذلك العطر في نفس الإنسان.

أما المسك فكان يذكره بالثيران والدخان يفور من أنوفها ويذكره بالغزلان النافرة في لهيب الصحاري، كان يذكره برجل بدوي يعدو خلف ثور أو غزال تارةً، ويعدو خلفه الثور والغزال تارةً ، في مشهد كارتوني سخيف، ومطاردة صحراوية كريهة تثير النقع وتملأ الحنجرة والخياشيم بالأتربة الخانقة ، ثم تنتهي تلك العبثية أخيراً بالثور أو الغزال ميتاً على الأرض، وبالرجل البدوي الملثم يفتح بطنه ويفشخ رجليه بسكين حاد لكي يستخرج منه الطيب.

الموت. هذا ما كان يعنيه المسك لصابر.

والآن تأكد له ذلك المعنى عندما رأى الملائكة الحسان الوجوه وهم يجلسون على فراشه الشبيه بعلبة الكبريت ويتكدسون فوقه كأعواد الثقاب بوجوههم النضرة، ذكره ذلك بمغامراته الكثيرة في الأوتوبيسات المزدحمة ، وبدا له من سخرية القدر أن تنتهي حياته بأن يتحول سريره إلى أوتوبيس ملائكي يكاد يضيق بإنسانيته كما ضاقت بها من قبل مواصلات الدولة الشيطانية.

نظر صابر مرة أخرى إلى الملائكة الذين كانوا يمسكون الأكفان الباهرة البيضاء في أيديهم، و يبتسمون له بجمال لا يضاهى.
وتخرج منهم رائحة المسك...
10-07-2006, 09:08 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-07-2006, 02:27 AM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-07-2006, 09:08 AM
الجحيم - بواسطة خوليــــو - 10-07-2006, 03:28 PM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-07-2006, 09:24 PM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-08-2006, 12:46 AM,
الجحيم - بواسطة Guru - 10-08-2006, 05:02 AM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-08-2006, 10:30 PM,
الجحيم - بواسطة salim - 10-09-2006, 02:57 AM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-09-2006, 04:12 AM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-09-2006, 04:28 AM,
الجحيم - بواسطة morgen - 10-09-2006, 11:31 AM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-09-2006, 12:52 PM,
الجحيم - بواسطة نزار عثمان - 10-09-2006, 09:27 PM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-10-2006, 12:01 AM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-10-2006, 09:31 AM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-11-2006, 04:27 AM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-12-2006, 02:36 AM,
الجحيم - بواسطة Guru - 10-15-2006, 11:14 AM,

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  سيجارتى الحبيبة .. اذهبى إلى الجحيم adoring_him 17 2,832 01-27-2005, 06:51 AM
آخر رد: المراقب

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS