{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
الجحيم
Albert Camus غير متصل
مجرد إنسان
*****

المشاركات: 1,544
الانضمام: Jun 2004
مشاركة: #15
الجحيم
عندما أفاق صابر وجد نفسه يتربع فوق كفنه على كوكب الأرض في جلسة ذكرته بالبوذا، ذلك الكافر الذي رأى رسوماته أثناء حياته. كانت الأرض تميد به يمنة ويسرة وظن لوهلة أنّه سكران من أثر المسك والإغماء ورحلة الفراغ.

إلاّ أنّه فور أن نظر حوله أدرك ما كان يجري ، فقد رأى رؤوساً، الكثير منها تحت مستوى بصره. كانوا يحملون كفنه فوق أكتافهم نحو صلاة الجنازة في المسجد. استطاع أن يرى أقرباءه من ضمن المشيعين، ورأى زوجته "جحود" تمشي في مؤخرة القافلة. أشعره ذلك بغبطة ملكية، لم يحلم أثناء حياته على الأرض أن يتكتل كل هؤلاء لتعظيمه على هذا النحو. إلاّ أنّ الفرح لم يدم طويلاً، لقد انتهى كل شيء عند وصوله إلى محراب إمام المسجد حيث وضعت جثته وهو معها متربعاً فوقها.

استطاع أن يرى كل شيء، كان يرى الشياطين تحاول إلهاء بعض النّاس عن صلاتهم، وإذا نجحوا في ذلك تبادلوا ضرب أكفهم بصفاقةٍ علامة الإنتصار. يالهم من تافهين.

رأى كذلك الكتبة من الملائكة، يتوزعون عن يمين وشمال كل رجل في المسجد وبأيديهم صحف وأقلام ضوئية ، ولا تكل أيديهم عن الكتابة، أمّا عيونهم فكانت شبيهة بعدسات كاميرا الفيديو، وفوق رأس كل رجل رأى ملكاً أبيض اللون يوسوس له في أذنه اليمنى وعلم أنّه ملك "اللمة الحسنة" ، ورأى شيطاناً يشبه صاحبه من الرجال تماماً في كل شيء فيما عدا ذيل طويل ، يوسوس في الأذن اليسرى لكل رجل. وهناك أيضاً ملائكة كثيرون يقفون ومعهم حراب وسيوف لا يحركون ساكناً وسط كل هذه الفوضى، وفهم أيضاً من خلال ما تعلمه في الدنيا أن أولئك هم الحفظة من أمر الله، أي من المصائب والكوارث التي تأتي ولا يكون مقدراً لها أن تميت أحداً.
علت بسمة ساخرة شفتيه حينها لأنّه شك كثيراً في جدوى هؤلاء الحفظة بالفعل.

كان عدد الملائكة والشياطين في المسجد أضعاف عدد البشر. لاحظ صابر أنّ قدرته على الإلمام بتفاصيل العدد والحساب أصبحت قوية أكثر من تلك الأيام التي عاش فيها في الجسد. ببساطة وبنظرة واحدة استطاع أن يحصي أنّ عدد الرجال الحاضرين في المسجد كان 71 مصليا . وفي جزء من الثانية دارت في رأسه الروحية هذه الأرقام :

71 مصلياً
142 ملكاً مسجلاً للحسنات والسيئات
71 ملكاً من ملائكة اللمة الحسنة
71 شيطاناً قريناً
300 من الحفظة
----------------------
584 مخلوقاً خفياً
عدد المصلين من البشر = 12% فقط من عدد المخلوقات الخفية داخل المسجد.

لقد أصبح البشر أقلية مضطهدة أمام ناظري صابر المكشوف عنهما الحجاب. جاء الإمام أخيراً وقال للناس أن قوموا لنصلي على أخيكم. فقاموا ومرت الصلاة اعتيادية وكان كل شيء ليمر بسلام لولا أن صدرت عن الإمام ضرطة لم يسمعها سوى صابر و الإمام و 584 ملكاً وشيطاناً.
اتسعت عينا صابر بغضب ودهش من انعدام الضمير عندما رأى الإمام مستمراً في صلاته. ولكنّه شعر بالرضا فور أن رأى الملك الذي عن يسار الإمام وقد انهمك في كتابة ملاحظاته حول هذه السيئة العظيمة.

فضيحة إمام.

( عنوان بالبنط العريض).

ينتهك عفة الغازات في صلاة الجنازة

( عنوان فرعي).

تمنى صابر لو أنّ صحيفة الإمام نشرت في ساعتها تلك حتى يقرأ الصفحة التي نشر فيها خبر جنازته.

استمر كل شيء بعدها على ما يرام وأخذت جثة صابر ومعها صابر ودفنا في اللحد وردم عليهما التراب وهو ينظر إلى آخر ما يمكن أن يراه من ضوء الشمس.

مع آخر حفنة تراب ردمت عليه سمع صابر صوت مياه ترش فوق سطح قبره ودعاء، ثم وقع أقدام كثيرة تبتعد عنه. وساد صمت مخيف وسط ظلام شديد.

مرت فترة شعر فيها بوحدة شديدة، أخذ فيها يتحسس جثته القابعة تحته ويتأسف على فراقها، ثم بدأ يسمع حفيفاً قادماً من بعيد، أخذ الحفيف يزداد رويداً رويداً حتى ظهرت أنياب تحفر في التراب، وكان شكلها مخيف.
ارتعب صابر وظنّها بعض الذئاب أو الوحوش العجيبة جاءت لتتخذ من جثته وجبة شهية. بدأت الأنياب تظهر أكثر وضوحاً كلما قرضت الرمال وبدأت شفاه تظهر من فوقها. ثم رؤوس ثم أيدٍ. وأخيراً زال الساتر الترابي الذي حجز صابر عن ضيفيه واستطاع الأطراف جميعاً رؤية بعضهم بوضوح.

كانا ملكين أسودين أزرقين يجران شعورهما على الأرض ولهما أنياب طويلة وشوارب حادة.

على خلاف ما توقع صابر من نفسه، فقد نظر إليهما وصدرت عنه ضحكة قوية، نظر الملكان إلى بعضهما بدهشة ونظرا إليه مرة أخرى، لم يشأ صابر أن يتحدث إليهما، لقد ذكره منظر الملكين بذلك اليوم الذي زار فيه حديقة الحيوانات وشاهد أنياب عجل البحر لأول مرة. وعلم طبعاً من هما، سار كل شيء روتينياً في علم صابر ومعرفته العميقة بالعالم الآخر.

اقترب الملكان ومدا أيديهما نحو جثة صابر وأقعداها وفكا عنها الأكفان، ولاحظ صابر أن روحه بدأت تندمج في جسده مرة أخرى، لقد أشعرته عودته إلى الجسد مرة ثانية بالبهجة. اتسعت ابتسامته وهو يقول بتهدج: شكراً لكما.
كشر الملكان عن أنيابهما في محاولة طفولية لإخافته، ونظر إليهما صابر بلا اكتراث، فقال أحدهما بخشونة:
- من ربك ما دينك من نبيك

توالت الأسئلة الروتينية وأجاب صابر عنها بروتينية مماثلة. بدأ الملكان يفتحان الدفاتر الخاصة بصابر ويسألانه عن كل صغيرة وكبيرة فيها، مع تركيزهما الشديد على الذنوب والسلبيات.
رغم أنّه كان يفترض أن يحزن صابر ويعض أصابع الندم على كل الخطايا التي ارتكبها أثناء حياته وتلاها عليه الملكان، إلاّ أنّ رد فعله جاء مخالفاً لكل توقعاته وتوقعات منكر ونكير، عجلي البحر.

ذكر له الملكان مثلاً تلك الواقعة التي قص فيها صورة غانية ذات جمال فاجر من مجلة جنسية عندما كان طالباً في المرحلة الإعدادية وأراها لأحد أصحابه الأغنياء البلهاء في المدرسة، مخبراً إياه أنّ تلك الفتاة تعيش في الشقة المقابلة لمنزله، وأخذ يمنّيه بها ويرغبه فيها ويخبره أنّ الفتاة رأت صورته وشغفت به حباً، وأخذ يستنزف نقود الأبله الغني مرة تلو الأخرى بحجة مختلفة كل مرة، فتارة يخبره أنّ الفتاة تريد شراء جيبة أعجبتها إلاّ أنّ والدها المتحجر القلب ضربها بقسوة وحبسها في غرفتها، ومرة يخبره أنّ الفتاة تبحث عمّن يهديها بعض المال لاقتناء قط شيرازي يؤنس وحدها، وكل مرة ومع كل قصة جديدة كان صابر يأخذ ما يحتاجه من نقود لينفقها على خروجات السينما مع أصدقائه الذي اعتمدوا عليه كلياً في شراء التذاكر وأكياس الفيشار.

جلجلت ضحكات صابر المقبرة وقال :
- يا له من حمار كبير، أتذكر ذلك اليوم كما لو أنّه بالأمس.

ارتعش الملكان بغضب وتحفزت أنيابهما لهبشه، ولكنّهما أحجما عن ذلك لأنّهما تذكرا أنّ الله سبحانه وتعالى قال كلمته التي لا راد لها، وبأنّ أبواب السماء السبعة الملقاة في الفراغ قد فتحت أمامه ليدخلها بسلام ويلتقي رب العزة جل وعلا.
توالت الخطايا وتوالت ضحكات صابر معها، وارتجافات الملكين المغتاظة الحاقدة، حتى وصل الأمر إلى ذنب المسك.

المسك؟

لم يرد صابر أن يتذكره في تلك اللحظات التي اجتر فيها ذكريات الطفولة الجميلة وسويعات الشباب المتهورة. غير أن الملكين ذكرا له حوادثه مع المسك ورفاق السجادة في المساجد. وكيف أنّه كان يتنازل بسهولة عن ثواب الصف الأول مضحياً به في سبيل مزاجه الشخصي.
اشمأز صابر وتقزز عند ذكر المسك ولم يتوان عن إخبار الملكين بقرفه من تلك الرائحة الفجة الكريهة، ولم ينتبه لهما في غمرة تقززه وهما يتبادلان نظرة خبيثة تحمل في طياتها مفاجأة قادمة في الطريق.

انتهى حساب صابر مع الملكين والذي استمر نحو عشر سنوات كاملة من عمر البشر، دون لقمة أو شربة ماء ليبلل بها ريقه. وكان جسده حينذاك يتحلل تدريجياً وينكمش ، وانحصرت روحه رويداً رويداً في قدر أقل من المادة المتحللة. وانتهت عظامه إلى الذبول وعبثت الديدان في لحمه أثناء تلك المدة كما تشتهي، ولم ينتبه إلى روحه التي تضاءلت في المادة حتى انحصرت في عجب الذنب، والذي أصبح كل ما تبقى منه ، ولم ينتبه إلى وقوف الملكين في فترة الحساب الأخيرة طوال الوقت بجسديهما المتبغلين وأنيابهما العجليّة لكي يخاطبا إنساناً محصوراً في عجب ذنبه.

أخيراً، أخرج أحد الملكين بطاقة صغيرة من كتاب صابر وقرأ عليه إعلاناً مناقضاً لكل ما كان يحاول ذلك الملك أن يثبته على صاير طيلة عشر سنوات مضت :

- " نم أيها العبد الصالح باسم الله تعالى وفي حفظه ورعايته ، نم كالعروس حتى تقوم الساعة".

تساءل صابر ببراءة:
- هل كان هذا الإعلان معك منذ البداية قبل عشر سنوات عندما بدأ حسابي؟.

رد عليه عجل البحر:
- نعم. هذا الإعلان هو مشيئة الله سبحانه وتعالى وحكمه في شأنك ، وما كان لنا أن نتجاوزه لنعذبك وقد غفر الله تعالى لك، إلاّ انّ ترتيب الأمور يقتضي علينا تنفيذ الحساب بحذافيره حتى لو لم يكن له أي معنى نهائي.

لم يقل صابر شيئاً إذ شعر بالعجز يطبق على روحه أمام منطق عجلي البحر.

أخيراً تحررت روح صابر من جسده مرة أخرى وخرجت من عجب ذنبه لتستقر على أرض المقبرة، وفتحت نافذة عن يساره صابر، أشار أحد العجلين إلى النافذة وقال له:
- هذا هو مكانك من النار لو أنّك قد عصيت الله وكفرت به. ولكن الله نجاك منها.

نظر صابر إلى النار وتوقع أن يفزع ويخاف ويرتجف، إلاّ أنّه فوجيء بنفسه مرة أخرى وهو ينظر إليها بلا اكتراث، ذلك أنّه قد رآها رأي العين من خلال أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وكتب العلماء التي أذابتها يداه من كثرة التصفح.

نظر إلى العجلين بملل وقال لهما متصنّعا البلاهة :
- والنافذة الأخرى التي عن يميني؟

زفر أحد العجلين بقرف من هذا الوقح، وأغلق النافذة التي عن يساره وفتح الأخرى فرأى صابر الجنّة، إلاّ أنّه هذه المرة فغر فاه بدهشة وتعجب وإثارة كذلك.

ليس من أجل الجنّة نفسها، فقد كان كل ما فيها مألوفاً وطبيعياً ولا جديد فيه، فقد قرأ عن كل ذلك في الكتب أيضاً، إلاّ أنّ ما أذاب قلبه حقاً هو تلك الفتيات العاريات اللواتي كنّ ينظرن إليه بشبق وتتخذ كل واحدة منهنّ وضع إغراء يختلف عن الأخرى، وكنّ من كل الألوان والأذواق، وكل واحدة منهنّ تتخذ موضعها على فراش وثير مجهز بوسائد الريش الناعمة والملاءات الحريرية مختلفة ألوانها ، وشعر صابر بلذة الإنتصاب حتى مع كونه بلا جسد حينذاك، ود لو أنّه يقفز عليهنّ واحدة تلو الأخرى، ولكن بمن يبدأ يا ترى؟ أيبدأ بتلك الشقراء عسلية العينين أم بالسمراء نافرة النهدين أم بـ...

أغلقت النافذة.
نظر صابر بغضب إلى عجلي البحر الكريهين، ود لو استطاع أن يصفعهما ، ولكنّ عجل البحر أنهى النقاش بقوله:
- يفسح لك الآن في القبر بمقدار مد البصر بإذن الله ( وأفسح القبر)

تابع عجل البحر:
- ويملأ عليك نوراً وخضرة ( وقد تم).

نظر العجلان إلى بعضهما مرة أخرى، وقال عجل منهما :
- ويملأ عليك مسكا.

كان ذلك بمثابة حكم إعدام ثان على صابر، ولكنّه لم يحظ بفرصة استئناف أو نقض، لقد هرب العجلان وهما يقرضان التراب بأنيابهما ويتضاحكان بقذارة وهما يتجهان نحو قبر آخر.

وكان على صابر أن يبقى في قبره إلى قيام الساعة بين الخضرة والنوافذ والنور....
والمسك.
10-10-2006, 09:31 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-07-2006, 02:27 AM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-07-2006, 09:08 AM,
الجحيم - بواسطة خوليــــو - 10-07-2006, 03:28 PM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-07-2006, 09:24 PM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-08-2006, 12:46 AM,
الجحيم - بواسطة Guru - 10-08-2006, 05:02 AM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-08-2006, 10:30 PM,
الجحيم - بواسطة salim - 10-09-2006, 02:57 AM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-09-2006, 04:12 AM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-09-2006, 04:28 AM,
الجحيم - بواسطة morgen - 10-09-2006, 11:31 AM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-09-2006, 12:52 PM,
الجحيم - بواسطة نزار عثمان - 10-09-2006, 09:27 PM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-10-2006, 12:01 AM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-10-2006, 09:31 AM
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-11-2006, 04:27 AM,
الجحيم - بواسطة Albert Camus - 10-12-2006, 02:36 AM,
الجحيم - بواسطة Guru - 10-15-2006, 11:14 AM,

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  سيجارتى الحبيبة .. اذهبى إلى الجحيم adoring_him 17 2,832 01-27-2005, 06:51 AM
آخر رد: المراقب

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS