يهرب الإنسان المقهور في أمجاد الماضي ويـتـيـه نشوان في مظاهر عظمة تاريخه وتراثه ، وهو يختار من هذا الماضي الذي يشكل الخير كله مقياسا للحياة : تلك كانت أيام ، تلك كانت الحياة . وفي هذه الرجعة للماضي يتماهى الإنسان المقهور خصوصا بالبطولات العسكرية بخوارق الفروسية وبكل مظاهر الأبهة في قصور الخلفاء والأمراء. ويحدث تضخيم مبالغ فيه أو هو دون حدود لتلك البطولات والأمجاد بقدر بؤس الحاضر ولذلك فالغالب أنتصبغ على أمجاد الماضي سبغة تخريفية نفاجية. تلاحظ تحديدا في تصوير الفرسان الأبطال فهؤلاء في القصص الشعبي أناس متفوقون ذوو جبروت لا يحد وقدرات خارقة لا يصمد أمامها شيء. ولا تقف دون تحقيق مآربها عقبة والواقع أن كل الرغبات الدفينة في القوة المطلقة التي تشكل الضد الكامل للعجز الواقعي تسقط على هؤلاء الأبطال ويحدث نوع مما يسمى التماهي الإسقاطي (تمثل صورة البطل ليس كما هو حقيقة بل كما نرغبه أن يكون كاملا فائقا ذو جبروت) في علاقة الإنسان المقهور بأبطال القصص الشعبي.

البطل في القصص الشعبي أسطوري فهو من الناحية الجسدية يمثل القوة المطلقة التي تأتي بالخوارق وتواجه كل التحديات وهو في السلاح قمة الخبرة والفروسية ، يصور على درجة كبيرة من الضخامة فرسه نادرة وسلاحه لا يتمكن سواه من حمله والقتال به وشجاعته تصمد أمام كل امتحان وهو يخرج دائما منتصرا من أقسى امتحان ويتحلى بطل القصص الشعبي كل الفضائل النفسية والخلقية ويتمتع بكل قيم الرجولة والشهامة والكرم وهو إلى ذلك البطل القوي العادل الذي يتصدى لكل معتدي وكل ظالم وكل عدو داخلي أو أجنبي مدافعا عن جماعته وأهله المعرضين من دونه لأشد الأخطار الحياتية ، إنه البطل المنقذ مبعوث العناية الإلهية كي يرفع التهديد عن الإنسان الضعيف إنه رمز العدالة والأمن الوجودي.

استعراض حياة هذا البطل الأسطوري كما يرويها القصص الشعبي هي دائما سلسلة من الأزمات وحلقات متصلة من الخطوب لا يخرج من أزمة حتى يقع في التي تليها ولا ينتصر على خطب حتى يقع في مأساة جديدة حياته ملحمة دائمة من الثبات أمام أقسى اختبارات الحياة والخروج منها منتصرا وهي إلى ذلك حلقة متصلة من التفاني من أجل الآخرين.

بطل القصص الشعبي بكل أسطورته هو مجرد إسقاط لأمل الإنسان المقهور في الخلاص ولرغبته الدفينة في امتلاك القدرة على مجابهة قدره ، حياته مجرد مرآة للاختبارات المتلاحقة التي يتعرض لها الإنسان المقهور ويعجز عن اجتيازها بينما ينجح البطل في ذلك. من هنا ندرك سبب إقبال الجماهير على حلقات رواية هذه القصص

ملاحظة شخصية لي خارج نص الكتاب والمؤلف (يحضرني في هذه اللحظة الحكواتي عمرو خالد وسائر شيوخ الدين الذين يؤدون هذا الدور في العصر الحالي وتقديسهم لأشخاص من عصر البعثة الإسلامية) انتهى.

وندرك سبب الاندماج في الاستماع إلى الراوي انها لحظة عزاء وسلوى عن آلام الوافع الراهن انها لحظة عز وكبرياء وأمل وشعور بالاعتبار الذاتي من خلال التباهي ببطولات الفارس صانع الخوارق ويزداد انتشار حلقات القصص الشعبي بمقدار الغبن المفروض على الإنسان ومقدار خلو الحاضر من الأمجاد . إن قصص البطولات الشعبية من الناحية النفسية هي عرض لمأساة الجماهير من ناحية وأملها في الخلاص في تغير المصير من ضعف إلى قوة ومن مهانة إلى عز من ناحية ثانية.

بالطبع يشجع المتسلط كثيرا انتشار هذا الحلقات ففيها هروب من الواقع وعيش في الخيال يبعد الإنسان المقهور عن الوعي بما يلحق به من غبن وما يجب عليه النهوض إلى المجابهة من أجل التغيير وبالتالي يحتفظ المتسلط بامتيازاته ويبقي الإنسان المقهور على غبنه والمتسلط يشجع هذه الحلقات أيضا لأنها تساعد على تصريف للتوتر الوجودي وتصريف للعدوانية التي تهدد بالانفجار ضده من خلال الغرق في عالم خرافي يحمل إرضاءات وهمية للإنسان المقهور.

[U]بالإضافة إلى التماهي بأبطال القصص الشعبي يلوذ الإنسان المقهور بتراثه وأمجاد هذا التراث ويتمسك به بشكل جامد حتى لا يعود يرى من مجال للخلاص من مأساة الحاضر إلا بالعودة إلى التراث والسير الجامد على غراره دون مراعاة لحركة التاريخ. ويزداد التعنت في هذا المجال بمقدار نفور الإنسان المقهور من واقعه الراهن لدرجة يتعلق معها لخطر خسارة الحاضر دون ربح الماضي. بينما يفترض أن تكون الرجعة إلى التراث مصدر إلهام لمواجهة تحديات العصر ومصدر استنهاض للهمم للخروج من خدرها. وهنا أيضا يلعب المتسلط وحلفاؤه دور المشجع على التمسك الجامد بأمجاد الماضي بشكل لا يتيح مطلقا التكيف المرن مع مهمات وتحديات العصر ومتطلبات المستقبل دافعين الفئات المغبونة إلى الجمود في مواقعها.

يتبع ...