اقتباس:أريد الإفاضة منك في التعبير لأن ما تسوقه جد خطير لا بل هو قفزة ثورية في مفهوم الإسلام والشريعة أتمنى أن تذكر المدرسة الفقهية التي تنطلق منها أو على الأقل مصادر هذا الرأي الفكرية والمنطقية والفقهية إن أمكن حتى يكون حوارنا مستنداً على ما يؤكد هذه المزاعم وينفي عنها صفة الاجتهادات الشخصية
الأمر : ليس بخطير ، ولا قفزة ثورية ولا أي من هذا الذي تقوله .
ما ذكرته ، أنا ، هو الخلاصة التي توصل لها كبار العلماء المسلمين القدماء .
لو أخذنا بالافتراض القائل : أن حملة نابليون على مصر ، تمثل : صدمة الحداثة ، حسب تعبير أدونيس . فإني سأعتمد في كلامي الآتي على علماء عاشوا قبل هذه " الصدمة " ، حتى لا تتهم اقتباساتي بأنها : توفيقية ، تلفيقية ...إلخ .
السؤال الذي أبدأ منه : لماذا بعث الله الرسل وما هو مقصده من وضع الشريعة ابتداء ؟
وهذا سؤال ينطلق من مقدمة : هل أفعال الله معللة ، أم لا ؟
قال أهل السنة - من غير الأشاعرة والظاهرية- و المعتزلة والإمامية والزيدية ، كلهم قالوا أن أفعال الله معلله ، وأن هناك قصد من وراء أفعاله ، وأن لأحكامه علل ومقاصد ، لأجلها كانت الأحكام .
وقال آخرون - منهم الأشاعرة والظاهرية : [ أن الله يفعل ما يشاء وكيف يشاء ولا يفعل لسبب ، بل أنه لا توجد أسباب ، وما نراه من ارتباط الأشياء بعضها ببعض ، ما هو إلا من قبيل " مجرى العادة " ، وإلا في الحقيقة .. لا توجد أسباب ]
قال بذلك ، أغلب الأشاعرة ، ما عدا الإمام أبي المعالي الجويني الذي كان لا يؤمن بالـ(كسب ) ، وتلميذه الإمام أبي حامد الغزالي ، رغم أنه ينفي الأسباب ، إلأ أنه يثبت للأحكام مقاصد وعلل .
ومن أشد من أنكر المقاصد والعلل ، الإمام ابن حزم الظاهري . كان يرى أنه لا يمكن تعليل أفعال الله ، فالله : يفعل ما يشاء ، ولا يسأل عما يفعل . ولا توجد علل في أحكامه . فهو لم يحرم الخمر لأن الخمر فيها ضرر أو أثم ، بل إن الخمر صارت إثما بعد التحريم . ولو أمر الله بقتل الأطفال والشيوخ والرجال ، لما كان ذلك عيبا ، فهو يحكم بما يشاء كيف يشاء . والأصل في الشريعة : الإبتلاء . والمكلف مطالب بالصبر .
وتبع إنكار العلل هذا ، إنكاره للقياس ، كما هو معلوم .
لن أطيل التفصيل على هذه المسألة ، وأترك الكلام للإمام الشاطبي .
يقول : [ وزعم الرازي : أن أحكام الله ليست معللة بعلة ألبتة ، كما أن أفعاله كذلك . وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه - تعالى - معللة برعاية مصالح العباد . وأنه : اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين . ولما اضطر في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية ، أثبت ذلك على أن العلل : بمعنى العلامات المعرفة للأحكام خاصة .
ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره ] اه كلامه
فالرازي وابن حزم وسائر الظاهرية ، اطلقوا أحكامهم هذه ، لا من استقراء آيات القرآن ، بل من النظر العقلي ، الذي قادهم إلى تلك النتائج .
والقرآن ، هو الحكم في هذه المسألة ، وهو المرجعية ، إذ أنه هو كلام الله .
ومن استقراء الكثير من الأدلة ، يتبين أن أفعال الله معلله ، وأنه يفعل الأفعال بقصد .
وهذ جزء من هذه الأدلة :
1- قوله تعالى : [ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ]
فإنزال الكتاب ، كان لعلة : الحكم بين الناس .
2- وقال : [ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ]
فإرسال الرسل ، كان لعلة : انتفاء حجة الناس على الله .
3- وقال : [ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ]
فالغاية من إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - هي : الرحمة بالعالمين .
3- وقال : [ الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ]
فالعلة من خلق الموت والحياة ، هو : الإبتلاء .
أما الأحكام المعللة ، فتكاد لا تحصى ، نذكر منها :
1- آية الوضوء : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ
وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ]
الشاهد ، ماتحته خط .
2- الصلاة :
قال تعالى :[ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ]
3- الجهاد :
قال تعالى : [ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ]
فالظلم ، كان على تشريع الجهاد .
4- القصاص :
قال : [ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ]
أي أن في تشريع حياة للناس .
وهذا باب كبير من أبواب أصول فقه ، يندرج تحت فرع من فروع الإجتهاد ، وهو تنقيح المناط ، وقد توسع فيه كل من الشاطبي في الموافقات ، وابن القيم في إعلام الموقعين .
فمن هذا كله ، نسجل خلاصة ، ألا وهي : أن الشريعة جاءت لعلل ومقاصد .
ماذا ينبني على هذه النتيجة ؟
ينبني عليها النتيجة التي ذكرتها ، أن استقراء الأحكام الجزئية التي جاءت بها الشريعة ، والعمومات اللفظية والمعنوية ، يوصلنا إلى كليات ، هي مقاصد الشريعة .
ومفهوم : مقاصد الشريعة ، ليس مفهوما جديدا ، بل هو قديم .. قدم أصول الفقه . كان يتداول هامشيا منذ كتب الشافعي " الرسالة " . ثم ذكرها إمام الحرمين أبو المعالي الجويني ، في كتابه ( الوصول ) وذكر أن الشريعة جاءت بحفظ الضروريات الخمس : العقل والنفس والمال والدين والعرض . وأن هناك مقاصد للشريعة ، منها الضرورية ومنها الكمالية ومنها التحسينية .
ثم أخذ تلميذه أبو حامد الغزالي ، هذه الفكرة وطورها ، في كتابه ( المستصفى ) .
ثم جاء العز بن عبد السلام وألف القواعد الشرعية ، مستقرءا القرآن . مستخلصا منه القواعد . وعمل بذلك أيضا تلميذه الإمام القرافي .
ثم انتقل المفهوم إلى ابن تيمية ، وبنى عليه الكثير من الأحكام ، لعل أنصعها ، رسالة : السياسة الشرعية . التي لم يذكر فيها الخلافة ، ولا تكلم عن نظام للحكم محدود ، بل تكلم عن القواعد والمبادئ التي لابد أن تقام عليها الدولة في الإسلام وهي العدل وحفظ الأمانة والشورى ..إلخ .
وجاء تلميذه ابن القيم وألف كتاب " إعلام الموقعين " ، جاعلا من فكرة المقاصد ، فكرة مركزية في ذلك المؤلف .
واكتمل المفهوم ونضج في القرن العاشر ، على يدي الإمام الشاطبي ، الذي قسم مؤلفه : الموافقات ، إلى أربعة أقسام ، جعل للمقاصد قسما كاملا .
ثم جاء ابن عاشور مؤلفا كتاب : المقاصد الشرعية ، معتمدا اعتمادا كاملا على الشاطبي .
ولما جاءت النهضة ، واستعادت الحضارة فعاليتها العقلية ، كان أول التفات رواد النهضة إلى كتاب الشاطبي ، نصح محمد عبده بتدريسه في الأزهر ، وألف علال الفاسي كتابه : مقاصد الشريعة ومكارمها ، مستلهما إياه .
هذه نبذة موجزة ، عن مفهوم المقاصد ، الذي ليس بـ : ثورة ، ولا قفزة . بل هو مفهوم أصيل من مفاهيم علم أصول الفقه .
فالشريعة جاءت بالمصالح ، والمصالح تتأتى بدفع المضرة وجلب المنفعة . وموضوع المصالح : الضروريات ، وهي دين الإنسان ، وعقله ، ونفسه ، وماله ، ونسله ، وعرضه ، وبدنه .
كان كل هذا كلام نظري ، سأنطلق للتاريخ الآن لأتلمس ما يثبت هذا الكلام :
وسأقصر كلامي ، على عصر الصحابة .
1- مات الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يترك نظاما للحكم . وكان تولي أبي بكر للحكم ، عن طريق التشاور واقتضاء المصلحة . فكانت هناك جملة آراء :
أ- منها رأي الأنصار أن يكون هناك أمير منهم ، وأمير من قريش .
ب- ومنها من كان يريد تولية الامر لنفر من بني هاشم ، إما علي أو العباس .
ج- ومنها من كان يرى أنه لا بد ان يجتمع العرب على رجل واحد ، من قريش .
وتم تداول الآراء ، ولم يكن أي منهم ، يرجع إلى نص ، بل كان الكلام دائرا حول الأصلح . فقال أبو بكر : أن العرب لا تسلم إلى لهذا الحي من قريش . يقصد أن العرب حديثة عهد بتوحد ووحدة ، وأنها لم تجتمع إلا بعد قتال وحرب ، وأنها لا تجتمع إلا على قريش ، قريش التي كانت القبيلة الأكثر نفوذا بين العرب .
فاجتمع الصحابة على هذا الرأي وتمت مبايعة أبي بكر .
2- بعد حروب الردة ، وموت الكثير من الحفظة . أشار عمر على أبي بكر أن يجمع القرآن . فقال ابو بكر ، كيف أفعل أمرا لم يفعله رسول الله . فكان جواب عمر : أن ذاك خير . أي أن فيه مصلحة ، فما كان من أبي بكر إلا أن قام بجمعه .
3- وجمع المصاحف على حرف واحد ، في عهد عثمان ، كان من منطلق أنه الأصلح . إذ حدثت حادثتان : الأولى : تعصب الغلمان الحفظة للقراءات التي أقرءوا عليها . والثانية : تعصب الأجناد في الأمصار على القراءات .
فما كان من حذيفة من اليمان إلا أن اطلع عثمان على الأمر ، فأقره عليه ، لما رأى في الأمر من مصلحة .
4- تخطيط البصرة والكوفة ، وتحديد المسجد في وسطها ، وضبط عرض أقل شارع فيه بثلاثة أذرع ، كل هذا تم بناء على المصلحة ، والخبرة ، ولم ينزل فيه نص .
5- تدوين الدوواين ، في عهد عمر ، وكتابة أسماء كل مواليد الإسلام لكي يتم الصرف عليهم من بيت مال المسلمين . إجراء ، تم اقتباسه من الفرس والرومان ، لما رأى فيه عمر من المصلحة . فكان كل من بلغ الفطام من الدولة الإسلامية ، يسجل اسمه ، ويصرف عليه من بيت مال المسلمين . وبعد أن تفشت ظاهرة : إسراع الأمهات في فطم ابنائهم ، عدل عمر القانون ، بأن أي مولود يولد ، له حق من بيت مال المسلمين .
6- عندما فتحت فارس والروم ، رفض عمر تقسيم الأراضي المفتوحة على الأجناد ، وضمها لبيت مال المسلمين . لأنه رأى أن هذا الفعل يعود بالمصلحة على عموم المسلمين ، بدل أن يتم تمليكها أبد الدهر لهؤلاء الأجناد وٍسلالاتهم .
أظن ان في هذه الأمثلة الكفاية .
فالشريعة ، ليست ، كما يصورها البعض : مجموعة نصوص وألفاظ . إنما هي مقاصد تستقى من هذه الألفاظ ، يتم إعمار الأرض بناء عليها .
الآن ، بعد هذا الشرح ، أعود فأسأل : هل ترى في هذه الشريعة ما يتناقض مع هذا الزمان والمكان ؟