ماهو مفهوم الحرية , وهل الإنسان حر ؟
إن موضوع مفهوم الحرية من أعقد المواضيع وقد بحث على مستويات كثيرة :
فلسفية, وعقائدية , واجتماعية , وقانونية , وسياسية , ومنطقية , وفزيولوجية عصبية..
وهذا رأي فزيولوجي عصبي :
يتحدث سلفادور لوريا الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء في كتابه-الحياة تجربة غير مكتملة- عن عملية الاختيار وحرية الاختيار وعلاقتهما بالوعي وعمل الدماغ فيقول كلاماً هاماً :
"لدى الإنسان يسمح الوعي بإمكانية الاختيار, في أغلب تصرفاته. فالإنسان دائماً في وضع يختار فيه. وهو في الواقع مجبر على الاختيار, لأن لديه معرفة بالبدائل- الامكانات والاحتمالات- .
هل يعني ذلك أن التصرف الواعي تصرف حر, أو بالأحرى, هل وعي الاختيار يتضمن حرية الاختيار بين الامكانات. أم حرية الاختيار وهم , لكون الأفعال الفردية معينة بطريقة صارمة بالتجارب الماضية وبالبنية البيولوجية للجملة العصبية(الموروثة) لا شيء في البيولوجيا يبيح أن يجاب على هذا السؤال الفلسفي الجوهري .
لكن لا شيء يحول دون التفكير بأن حرية الاختيار موجودة, لأننا نستطيع أن نوجه أفعالنا عندما تسنح, في ظروف معينة, عدة احتمالات يكون المقصود القيام بعملية اختيار بينها, بتنفيذ مجموعة أفعال معينة من خلال لعبة إثارة للخلايا العصبية الملائمة.
ما هو دور الدماغ في عملية الاختيار؟
وكيف يتم الاختيار ؟
هل يتم بناءً عل قواعد سجلت في الدماغ بالوراثة وبالتجربة, وتجبر حرية الاختيار على إتباع طرق معينة مسبقاً بالرغم من وجود وهم الحرية؟ أم الأمر غير ذلك........
لا يوجد تناقض بين الادعاء بوجود حرية اختيار بين ملكة إجراء اختيارات متعمدة, بين دوافع متناوبة, ومجموعة توصيلات محددة بيولوجياً في الفكر, والتوكيد بأن القيم الواصلة بين الاختيارات هي محددة بالخصائص البيولوجية للشبكة الدماغية. إن كل أوجه نشاطات الإنسان الواعية تبرز ثنائية للعقل لا مفر منها , أداة خلقها التطور البيولوجي وتحسنت في كل فرد من خلال التعلم والتجربة والعلاقات الاجتماعية.
إن التعامل مع الخيارات الواعية بواسطة التنبيه والتثبيط يتم بشكل أساسي في التشكيل الشبكي, بالإضافة إلى باقي بنيات الدماغ. والتشكيل الشبكي مركب في معظمه من عصبونات متراكبة فوق بعضها ذات محاور وتغصنات شديدة القصر. وبفضل هذه الهندسة يكون التشكيل الشبكي حسن التلاؤم مع التغير التدريجي المتقدم, لمستواه من النشاط عن طريق التعديلات البطيئة والمتدرجة للكمون الكهربائي للتغصنات (تغصنات المحا وير) ويجعل هذا التراكب الشديد للألياف العصبية, هذه البنية قادرة على تكميل إثارة تنبيه مصادر متعددة.
فالتشكيل الشبكي يتلقى السيالات الصادرة عن الطرق الحسية(واردات الحواس) في اللحظة التي تصعد فيها نحو القشرة. وعندما تعبر العصبونات الحسية الجزع الدماغي فإنها تتعشق على التشكيل الشبكي وتمده هكذا بمحاوير إضافية.
والنتيجة تكون أنه في كل مرة تصعد فيها رسالة حسية, دغدغة أم رنينا.....في السبل العصبية حتى باحتها المتلقية الحسية في القشرة, فإنها تنبه في نفس الوقت التشكيل الشبكي الذي ينقل عندها حالته الخاصة من التنشيط أو التثبيط إلى القشرة, وعلى عكس السبل الحسية التي تتجه نحو باحات التلقي الحسية(في القشرة), فإن التشكل الحسي يسقط بشكل مختلف على مناطق متسعة من القشرة. فهذه الميزة المتنوعة لتساقطاته هي التي تسمح للجهاز الشبكي المنشط إن يعمل بشكل غير نوعي , أي أن إشاراته العصبية الصادرة مهما كان مصدرها تصيب ليس فقط باحة من التلقي النوعي, ولكنها يمكن بواسطة تأثير الجهاز الشبكي المنشط إن تنشط كل الباحات الأخرى من القشرة (وهناك اتصالات راجعة بين القشرة والتكوين الشبكي وهي التي تنشئ التفكير والجدل الفكري, ولها دور كبير في الأحلام).
بناءً على ما ذكر يظهر أن الإشراط الواعي أو التعلم الواعي يقوم به بشكل أساسي التشكيل الشبكي وتساعده في ذلك القشرة (اللحاء) في التفاصيل وباقي بنيات الدماغ, وإن التشكيل الشبكي المنشط يسيطر ليس فقط على دخول المؤثرات, بل كذلك على الإرتكاس ضد(أو على)هذه المؤثرات. وبالواقع إن التشكيل الشبكي المنشط يتحكم بالإشارات المحركة الصادرة متعددة الأنواع, بما فيها وابل التحريضات التي تصون(الحظربة العضلية), وكذلك, إن أجزاء القشرة المنذرة بواسطة التشكيل الشبكي يمكنها إن تمارس بدورها في الاتجاه المعاكس نفوذاً على التشكيل الشبكي . فالقشرة قادرة جزئياً على تنظيم درجة نشاطها الخاص."
ويقول لتشالز فيرست في كتابه الدماغ والفكر:
"لقد اعتبر اكتشاف التشكيل الشبكي بمثابة خطوة عظيمة في سبيل تفهم الأسس المادية للوعي والإرادة. فوجود مثل هذا الجهاز الدماغي يبرهن بوضوح على أن الوعي(الخاص بحالة اليقظة أو أثناء الحلم) لا ينشأ عن حالة فزيولوجية وحيدة بل يتصف فزيولوجياً على الأقل بمجموعة اتصالية من الشدة المتدرجة. فالنشاط الدماغي الذي يديره الجهاز الشبكي يمكن أن يتغير تدريجياً متنقلاً من التنبيه الناشئ عن الخطر أو الاكتشاف إلى الذهول التعب, وبعض علماء الأعصاب ذهلوا بشمولية وظيفة التشكيل الشبكي في عملية تنشيط القشرة وتنسيق الأجهزة العضلية. فكأنه برج مراقبة لا يقتصر في عمله على تنظيم اليقظة, بل يبدو إن تأثيره أكثر حذاقة, فهو يتحكم بسياق الانتباه والتفكير والتذكر."
ومن كتاب الفيزيولوجيا العامة-وظائف الاتصال .
" يعتبر التشكيل الشبكي من أقدم الأنسجة العصبية المؤلفة للمحور الدماغي الشوكي , ويتألف من شبكة عصبونية قصيرة المحاور تملأ الفراغات الكائنة بين الحزم الصاعدة والنازلة من جهة وبين أشفاع نوى الأعصاب القحفية الإثني عشر من جهة أخرى , وتمتاز العصبونات المكوٌنة لهذه البنية بامتدادتها الطولانية(الأمامية - الخلفية) والأفقية على حد سواء والتي تحصر بين عيون شبكتها كتلاً من مادة سنجابية تعرف باسم النوى الشبكية , ويمتد التشكيل الشبكي بين النخاع الشوكي الرقبي في الأسفل وبين الدماغ المهادي في الأعلى بحيث يمتد على كل ساحة جذع الدماغ. ولا يكون توزع العصبونات متجانساً في جميع أرجاء هذه الساحة فنجد بؤراً ( نوى) تختلف في مقدار إتساعها وفي الوظائف التي تؤديها وتصل إلى كل منها سيالات عصبية تؤهلها للقيام بهذا الدور. وهكذا يستقبل بعضها سيالات عصبية متعددة المصادر تحقيقاً للوظيفة المنوط بها بينما يقتصر بعضها الآخر على استلام منبهات نوعية فقط . وتمتلك كل بؤرة ( مكمن ) أو نواة شبكة خاصة متعددة المشابك ترتبط مع غيرها من البؤر والبنى بمسالك ترابطية تطول أو تقصر, تسير أفقياً أو طولانياً كما يمكن لبعضها أن يشكل مسالك شبكية محددة . وتتمتع هذه البنية بقدرة هائلة على مكاملة المعلومات المتعددة المصادر الوارة إليها وإجراء تركيب اجمالي جديد لها يمكٌنها من تحقيق استجابة كيفية وكمية محددة تصلح لأن تكوٌن الرد المناسب والنوعي على مجموع الرسائل الوارة إليها "
إن عمل التشكيل الشبكي - كما نلاحظ- هو التعامل مع الخيارات والتحكم بها, والقيام بالاختيار حسب أوضاعه وأوضاع البنيات المتفاعل معها. وكذلك يحدث الجدل بين التشكيل الشبكي واللحاء والدماغ القديم المتضمن النتوء اللوزي وقرن آمون وتنتج التأثيرات المتبادلة بين الاستجابات أو الكف, أو بين الاختيار والتقرير أو عدمه, وذلك نتيجة التأثير المتبادل بين هذه البنيات . وهذه الدارات من التغذية العكسية أو التأثير المتبادل هي التي تكون وتظهر الإرادة.
وسوف أتكلم عن مفهوم الحرية ودوره من ناحية اجتماعية , لاحقاً
|