ربما لبنان ليس أكبر من غيره من الدول العربية و لكنه برأيي متقدم عنها ببضعة خطوات في طريق الحداثة ...

خصوصية لبنان هي أنه مؤلف من مجموعة أقليات ,و لذلك فلبنان منذ تأسيسه بني على تفاهم ما يين هذه الأقليات أنجب نظاماً سياسياً هجيناً , فريد من نوعه و شاذ , مزيج ما بين الديمقراطية و الثيوقراط , أو فيدرالية طائفية .
و لكن لا يمكن أحد أن ينكر أن هذا النظام الغريب متقدم ديمقراطياً بمراحل عن جميع الانظمة العربية الغارقة لأذنيها في مستنقعات الاستبداد والديكتارتورية.

الشعب اللبناني , لا يختلف كثيراً عن شعوب المنطقة المحيطة به, فهو منقسم طائفياً بشكل لا يقبل اللبس, و لكن طبيعة نظامه الديمقراطي تجعل الأمر واضحاً أكثر من غيره و هذا صحي أكثر من غيره ,لأن المشاكل على السطح يكون حلها ممكناً أكثر من عندما تكون تحت الرماد.

في العراق مثلاً , ظهرت كل التناقضات الطائفية بمجرد سقوط نظام الاستبداد , و مهما حاول البعض أن يصور الأمر و كأنه مستجد على الشعب العراقي , فلا يمكننا أن نصدق أن أمريكا و إيران و السعودية و سوريا و غيرها من دول المنطقة استطاعت فجأة أن تخلق هذا الشرخ المهول ما بين طوائف العراق و أعراقه .

في سوريا أيضاً , لا يمكنني أن أتصور أنه لو جرت انتخابات رئاسية ديمقراطية حقيقية أن يصل لرئاسة الجمهورية شخص درزي مثلاً أو اسماعيلي - ناهيك عن اللطخة السوداء في تاريخ سوريا المعاصر التي تضاف للطخات الأخرى المتمثلة بمنع المسيحيين من الترشح لهذا الموقع دستورياً-

هذا الامر ينطبق على معظم الدول العربية , و لبنان يتميز فقط بأن جميع طوائفه أقليات , و الأقليات في جميع دول العالم تخاف على هويتها و وجودها و لديها هاجس بأنها مستهدفة دائماً , أحياناً عن حق و أحياناً لا. لذلك فقد حسمت جميع الطوائف في لبنان أمرها و التحقت بزعمها الأقوى , فالدروز حسموا أمرهم مع جنبلاط منذ وقت طويل , كما حسم السنة خيارهم مع آل الحريري , و الشيعي الذي خرج بعد حرب تموز الاخيرة ليصرخ بأعلى صوته أن كل ما صار "على صرماية السيد" أعلنها أيضاً بدون لبس أن نحن وراءك مهما كان موقفك و مهما قررت لأنك الأقوى.
ربما للمسيحيين وضع خاص بسبب التضييق عليهم و على زعمائهم الحقيقيين خلال فترة ما بعد الحرب الأهلية , و لكن تظل بكركي صوت ضميرهم والعماد عون الذي أعماه غروره عن حقيقة أن البطريرك هو من منحه شعبيته الكبيرة في الانتخابات الأخيرة , لم يستطع أن يستقرأ أن البطريرك نفسه سيحرمه من جمهور كبير كان قد عقد عليه آمالاً.

إذاً الأقلية تريد دوماً الزعيم القوي الذي يكون " راساً بين الروس", و كون مشروع الشيعة في لبنان عنوانه المعلن مقاومة اسرائيل و أمريكا هو محض "صدفة" - أوربما خطأ تاريخي مقصود- و ليس لأن الشيعة أكثر عروبة أو أكثر كرهاً للاسرائيلي أو الأمريكي من باقي الطوائف , فالشيعة في العراق مثلاً لديهم مشروع آخر , لأن عدوهم الطائفي لديه مشروع آخر أيضاً.

لبنان هو الدولة الوحيدة التي صمدت في وجه اسرائيل , ليس بسبب تشيع مقاومته و ليس بسبب شخصية السيد حسن نصر الله الفذة , برأيي أن لبنان انتصر لأنه بلد حر , و نظامه متقدم ديمقراطياً إلى حد كبير,و دعونا نتذكر أن لبنان هو الدولة العربية الوحيدة التي سبقت اسرائيل بحرية الصحافة حتى قبل خروج القوات السورية منه - حسب تقرير مراسلون بلا حدود- , و هذا برأيي أهم انتصار حققه العرب على اسرائيل.

لبنان دفع كثيرا من الدماء في صراعات طائفية - ربما أكثر مما يجب- و لكن علمنا التاريخ أن لا شيء مجاني و طريق الحرية و الديمقراطية خضبته دماء الكثير من الشعوب , نتمنى ألا نضطر لدفع هذه الضريبة يوماً و لكني لست متفائلاً كثيراً بذلك.

.