إنكار الضحية أم كشف الجلاد؟
صبحي حديدي


بعد أن فرغت السلطات الإيرانية من وضع عشرات المواقع الإلكترونية علي اللائحة السوداء، تفرغت للقضية الثانية الأهم بعد محو إسرائيل من الخريطة: محو المحرقة (الهولوكوست) من الذاكرة الإنسانية!

والمرء يشعر بالأسي علي تبذير أموال الشعب الإيراني في قضية خاسرة سلفاً، تاريخياً وإنسانياً وأخلاقياً، ولا تخدم في نهاية المطاف إلا للدولة العبرية ومجموعات الضغط الصهيونية هنا وهناك، من جانب ثانٍ. وكان من الأجدي إنفاق الاموال ذاتها في ميدان بحث آخر، يخص المحرقة ذاتها، ولكن من زاوية مختلفة قد تلحق ضرراً بليغاً بكل المؤسسات الصهيونية الرسمية وغير الرسمية التي تتخصص في الهولوكوست بوصفه صناعة.

وهكذا، كان في وسع السلطات الإيرانية أن تنظم مؤتمراً دولياً يتناول القضية التاريخية التالية: دور المؤسسة الصهيونية في مختلف وقائع الهولوكوست، ودورها في تحويل الفاجعة إلي صناعة، وكيف انطوي ذلك الدور علي تواطؤ مباشر صريح بين بعض القيادات الصهيونية وكبار ضباط الرايخ الثالث المسؤولين عن تصميم وتنفيذ ما عُرف باسم الحل النهائي لإبادة اليهود. وفي وسع السلطات الإيرانية أن تترجم، إلي لغات حية واسعة الانتشار وليس إلي الفارسية وحدها، كتاباً بالغ الأهمية في هذا المضمار، هو في ظل الهولوكوست: الصراع بين اليهود والصهاينة في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، الذي وضعه يوسيف غرودزنسكي، أستاذ الألسنيات في جامعة تل أبيب.

والحال أن الوقائع التي يذكرها غرودزنسكي ليست جديدة، ولكنه هذه المرة يتناولها وقد وُضعت في سياقات تخص هذا الجانب تحديداً: كيف جري ويجري تسويق الهولوكوست لأسباب سياسية صرفة تطمس، وأحياناً تشطب تماماً، سلسلة الوقائع الإنسانية التي تسرد عذابات الضحايا وآلامهم وتضحياتهم؟ وكيف جري ويجري الضغط علي ضحايا الهولوكوست، وأحفادهم من بعدهم، للهجرة إلي فلسطين المحتلة رغم إرادتهم غالباً؟ وكيف استقر دافيد بن غوريون علي الرأي القائل بضرورة تضخيم حكاية سفينة الخروج الشهيرة، سنة 1947، لكي تشد أنظار العالم إلي مأساة اليهود وتستدر العطف عليهم والتعاطف مع الوكالة اليهودية التي كانت تقوم مقام دولة إسرائيل؟ وكيف أن حقيقة سفينة الخروج الأليمة لا تنطبق أبداً علي الجوانب الملحمية البطولية كما جري تلفيقها في رواية ليون أوريس الشهيرة وفيلم أوتو بريمنغر الأشهر...

وغرودزنسكي يتوقف مطولاً عند قضية كاستنر ، التي بدأت فصولها سنة 1945 حين نشر اليهودي الهنغاري مالكئيل غرينفالد (البالغ من العمر 72 سنة، وأحد الناجين من الهولوكوست) كراساً صغيراً يتهم فيه اليهودي الهنغاري رودولف كاستنر (القيادي الصهيوني البارز وأحد أقطاب الـ ماباي ، حزب بن غوريون) بالتعاون مع النازيين خلال سنتي 1944 و1945. والوقائع التي سردها غرينفالد يقشعر لها البدن حقاً: لقد وافق كاستنر، بعد تنسيق مباشر مع الضابط النازي المعروف أدولف إيخمان قائد الـ غستابو آنذاك، علي شحن نصف مليون يهودي هنغاري إلي معسكرات الإبادة، بعد أن طمأنهم كاستنر وبعض معاونيه إلي أنهم سوف يُنقلون إلي مساكن جديدة، حتي أن البعض منهم تسابقوا إلي صعود القطارات بغية الوصول أبكر والحصول علي مساكن أفضل! وكان الثمن إنقاذ حياة كاستنر وبعض أقربائه، وغض النظر عن هجرة 1600 يهودي إلي فلسطين.

وهذا الكراس تحول إلي قضية حين رفع كاستنر دعوي أمام القضاء ضد غرينفالد، بتهمة تشويه سمعته. وبعد أخذ ورد أصدر القاضي بنيامين هاليفي حكمه بأن كاستنر تعاون بالفعل مع النازيين و باع روحه للشيطان . المثير أن كاستنر قرر استئناف الحكم، لكنه اغتيل في عام 1957 في ظروف غامضة، الأمر الذي تشكك فيه االمؤرخة الإسرائيلية إديث زيرتال في كتابها الموت والأمة: التاريخ، الذاكرة، السياسة ، وتعزو اغتياله إلي أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، لأن وجوده علي قيد الحياة بات مصدر إحراج للدولة. صحيح أن المحكمة العليا برأت كاستنر بعد وفاته، إلا أن القضية كانت قد حطمت ــ للمرة الأولي منذ بدء فصول الهولوكوست ــ الحدود شبه المقدسة بين الضحية والقاتل، وأسقطت الحصانة المطلقة التي تمتع بها اليهودي في المسؤولية عن الهولوكوست.

وفي المقابل، لا بأس البتة من مناقشة مختلف الآراء الأخري التي تتحلي بالحد الأدني من الحجة العقلية في مناقشة تاريخ الهولوكوست. المؤرخ البريطاني أ. ب. تايلور أعاد جذور الرايخ الثالث إلي مارتن لوثر، وذلك رغم أن لوثر كان وراء دمج العهد القديم في العهد الجديد بحيث توحد اللاهوت الديني الغربي في صيغة تراث يهودي ـ مسيحي واحد. الألماني هانز أولريخ فيهلر رأي أن ألمانيا اختطت لنفسها طريقاً مختلفاً عن أمم أوروبا الأخري (فرنسا وبريطانيا) منذ أواخر القرن التاسع عشر، وطورت بالتالي سلسلة خصائص تكوينية ذاتية مهدت الهياكل الاجتماعية والفلسفية والسياسية والإيديولوجية لولادة النازية.

الماركسيون، من جانبهم، اعتبروا الهولوكوست مجرد مظهر من المظاهر الموروثة في الفاشية الأوروبية بصفة خاصة، والتي لا يمكن إلا أن تكون جزءاً من البنية الداخلية للنظام الرأسمالي نفسه. والمفكرة اليهودية حنة أرندت اعتبرت الهولوكوست تفصيلاً صريحاً فاجعاً في تراث توتاليتاري عريض يضم النازية كما الستالينية والرأسمالية الوحشية، سواء بسواء...

أليس كشف الغطاء عن ضحية سابقة انقلبت اليوم إلي جلاد ضد الفلسطينيين، أجدي كثيراً من إنكار وجود الضحية ذاتها؟