في شهر أغسطس الماضي من العام الحالي وبعد منازلة شرسة مع الجيش الإسرائيلي دامت أكثر من شهر استطاع حزب الله تحطيم أسطورة جيش إسرائيل الذي لا يقهر للمرة الثانية منذ بدء القرن الحالي.



تم ذلك دون غطاء جوي أو وجود نظام فاعل للدفاع الجوي ودون أسطول بحري يضاهي الأسطول الإسرائيلي الأسطوري في المنطقة، ودون حتى قوات برية ميكانيكية أو مدفعية تقف في وجه سلاح المدرعات الإسرائيلية المتفوّق.

دعمت الإدارة الأميركية إسرائيل بالسلاح والمال إلى جانب الدعم السياسي المعهود، وتبعاً لذلك شاركت الإدارة الأميركية الطرف الإسرائيلي بنصيب لا بأس به من الشعور بمرارة الهزيمة العسكرية والسياسية المذلة.

بخروج حزب الله منتصراً من الحرب زاد حجم وجوده السياسي والثقل الشعبي كثيراً على حجمه قبيل »الحرب السادسة« هذه، كما تفضل بعض وسائل الإعلام تسميتها.

لا يستطيع لبنان بأحزابه السياسية التقليدية الحالية استيعاب أو احتواء حزب الله؛ أبعد من ذلك فقد ذهب بعض أركان ما تعرف بحركة 14 آذار إلى العمل على تقزيم انتصار حزب الله متهمين الحزب بتلقي دعم مباشر من طهران ودمشق، كما لو كان تلقي الدعم الخارجي جديداً أو غريباً على الأحزاب السياسية اللبنانية قاطبة ودون استثناء.

جماعة 14 آذار أنفسهم يتلقون حالياً دعماً قوياً سرياً وعلنياً من أنصار لهم في واشنطن ولندن وباريس وبدرجة أقل عواصم عربية وغربية أخرى.

اكتسحت سمعة السيد حسن نصر الله العالمين العربي والإسلامي وبات على إسرائيل والإدارة الأميركية توخي الحذر الزائد في التعامل مع جبهة واسعة يمثلها حزب الله تهدد بجدية المشروع الأميركي في لبنان خاصة والشرق الأوسط الصغير والكبير عامة،

خاصة بعد تنامي ظاهرة اندحار وفشل المشروع الأميركي في العراق وأفغانستان. لا تستطيع الإدارة الأميركية عمل أكثر مما كان باستطاعة إسرائيل فعله حين هاجمت الأخيرة البنية الأساسية للمجتمع اللبناني خاصة في منطقة الجنوب اللبناني؛ لا مكان لمصطلح اسمه »انتصار أميركي« على حزب الله بالمعنى العسكري أو حتى السياسي.

لن يُهزم حزب الله من قبل الجيش الأميركي نظراً لطبيعة عمل وتكوين وتنظيم وتركيب حزب الله وتبعاً لذلك لن تستطيع الإدارة الأميركية إلحاق هزيمة سياسية بقيادة حزب الله. شأنه شأن أية مقاومة وطنية متأصلة في الشعب والجماهير من حولها وتقاوم الاحتلال الخارجي بالإضافة إلى التأييد الواسع عبر العالم، يظل حزب الله عصياً بل محصناً على مفردة اسمها »الهزيمة«.

على الإدارة الأميركية لعب أوراق أخرى تساعدها في النيل من حزب الله وهي باقية في مكانها وعن طريق تقديم دعم مادي ومعنوي وسياسي لحلفائها القدامى والجدد منهم.

تحاول الإدارة الأميركية التدخل في الشأن الداخلي اللبناني عن طريق تأييد إنشاء محكمة دولية أو لبنانية بغطاء دولي للتحقيق في اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري قبل حوالي السنتين من الآن، لمآرب وأهداف واضحة للعيان.

من المثير للاستغراب أن حادثاً بسيطاً في عاصمة عربية أو دولية لا يحتاج الأمر لأكثر من بضع ساعات لكشف خيوط الحادث وملابساته وتسمية الأمور بمسمياتها، إلا في المشهد اللبناني حيث تظل الأمور مقيدة ضد مجهول إلى إشعار آخر. ذلك ما يشجع مجهولين آخرين للقيام بأعمال اغتيال وتخريب مشابهة طالما أن ذلك المجهول سيظل مجهولاً.

هذا ما حدث مع صحافيين لبنانيين من مثل سمير قصير وجبران تويني والإعلامية مي الشدياق ووزير الصناعة الشيخ بيير أمين الجميّل، والذين كان يُعرف عنهم معاداتهم العلنية للوجود السوري في لبنان.

هنالك أصوات خفية وعلنية تحاول إلصاق تهم كافة الاغتيالات بسوريا لأهداف سياسية معلنة وأخرى مبيتة. يشمل ذلك محاولة البعض مد صلاحيات المحكمة الدولية للبت في ظروف اغتيال الآخرين في محاولة لاستحداث مواجهة بين سوريا والولايات المتحدة تستطيع الأخيرة الحصول منها على مسمار جحا آخر أو أوراق ضاغطة أخرى في ألعابها السياسية ومغامراتها العسكرية ضد دول المنطقة.

ليس من مصلحة سوريا في الظروف الحالية على الأقل القيام بأعمال اغتيال بشكل مباشر أو غير مباشر ضد قادة سياسيين في لبنان.

في لبنان، المنشأ الأصل لنظام المحاصصة الطائفية في المنطقة، هنالك حبل شديد الحساسية والقابلية للعب عليه وهو حبل الطائفية.

إذا ما اغتيل أحد قياديي طائفة معينة فإن أصابع الاتهام تذهب بشكل تلقائي إلى الطوائف الأخرى خاصة المعروفة باختلافها أو عدائها لتلك الطائفة المنكوبة، إذا ما جاز التعبير.

في ذلك يغيب عن البال أن من يريد أن يرتكب عملية اغتيال لا يحتاج كثيراً إلى ربطه بفئة أو طائفة. احتوت قوى المعارضة اللبنانية الحالية بقيادة حزب الله والتيار الوطني الحر، الأخير بقيادة الجنرال ميشيل عون، احتوت الاتهامات الموجهة إليها بالمشاركة أو المباركة في اغتيال رموز المال والسياسة والإعلام اللبنانيين.

تتبادل الأطراف اللبنانية المنقسمة الآن بين مجموعتي 8 و 14 آذار بشكل رئيسي، تتبادل الكرة في ملعب كل منهما. يتقاذف السياسيون الكرة بطريقة سياسية أحياناً وإعلامية عبر الفضائيات ووسائل الإعلام، التي باتت في متناول الجميع الآن بكل يسر وسهولة، ويبقى الضحية هو الشعب اللبناني الذي يفترش الشوارع ويلتحف السماء داعماً لحكومة السيد فؤاد السنيورة أو معارضاً لها.

هنالك تخوّف لكنه غير ذي أهمية عن احتمال تصعيد المواقف إلى حرب أهلية تبدأ بين الأحزاب السياسية المتنافسة، والتي لا تزال يحتفظ كل منها بترسانة لا بأس عليها من السلاح منذ انتهاء الحرب الأهلية الأخيرة، قبل أن تنتقل بزخم كبير إلى الشارع والحي والضاحية والقرية والمدينة.

لا تزال ذكريات الحرب الأهلية السابقة المريرة تقض مضاجع الصغار والكبار مما يجعل أمر الرجوع إلى تلك الأيام يعد من باب الانتحار الجماعي الذي لا أحد يجرأ على وضع لبنان مرة أخرى في أتونه. لكن تدهور الوضع الاقتصادي وتعثر الحراك السياسي نحو إيجاد حلول مقنعة ومرضية لكافة الفئات اللبنانية يجعل الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ.

من هنا تأتي المطالبة بحكومة وحدة وطنية قادرة على تحمل المسؤولية الجماعية وتراعي الظروف والمتغيرات الجديدة على الساحة، حكومة تمثل كافة مشاعر وطموحات وتطلعات اللبنانيين وتعمل على جسر الهوة بين الفئات المختلفة.

لقد جرّب اللبنانيون الكثير من أنواع التدخل في الشأن الداخلي اللبناني، من جهات شقيقة وصديقة وأخرى محايدة وثمة معادية وذات معايير مختلفة في التعامل مع الأمورـ لم يأته منها سوى المزيد من الاحتقان وتدهور الأحوال العامة.

يتجه السياسيون في لبنان كالعادة إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي ودول أخرى منفردة ذات شأن للمساعدة في حل المعضلات المزمنة. ينسى السياسيون اللبنانيون حكما شعبية كثيرة من مثل »ما حك جلدك إلا ظفرك« و»أهل مكة أدرى بشعابها«.

لا يستطيع القادمون من خارج لبنان تقديم دعم حقيقي فاعل، ببساطة لأنهم يجهلون تفاصيل الحوادث وتسلسلها حيث أنهم لم يعيشوها، في حين لا يجد السياسيون في لبنان متسعاً من الوقت لبحث مشاكلهم بأنفسهم!.

حان الوقت لجلوس جميع المعنيين بإصلاح الوضع في لبنان بهدوء وتعقل حول طاولة مستديرة لاستدراك حجم المسؤولية التي يترتب على كل منهم حملها في سبيل بقاء لبنان آمناً سالماً مزدهراً لنفسه لا محتقناً ولا متوتراً، ومستقبلاً للسائحين العرب والأجانب!. اللبنانيون ينسون الحكمة الشعبية التي تقول »أهل مكة أدرى بشعابها«



المصدر : البيان