«جحاويو» لبنان قبالة «استئصاليي» واشنطن
إياد ابو شقرا


خلال العقود القليلة الماضية راجت أوصاف سياسية رائعة، من أجملها وأصدقها أثنان هما «الاستكبار» الذي روجته الثورة الخمينية في ايران عن الغرب (والولايات المتحدة تحديداً)، و«الاستئصاليون» الذي خرج من الجزائر لوصف تيار العسكر المتشدد في مجابهة الاصوليين الاسلاميين.
هذان الوصفان ينطبقان اليوم تماماً على سياسة الادارة الأميركية ازاء خصومها، اذا جاز استخدام كلمة «خصومة» في تصوير مشاعر العداء بين قوة عالمية جبارة، بضخامة الولايات المتحدة، وجماعات واقوام وتنظيمات تعجز عن مقارعتها حجةً بحجةً او مواجهتها عسكرياً بالاسلحة والاساليب الكلاسيكية.
ولكن في لبنان، ما زال نفر من أهل الحكم يجهلون ـ أو يتجاهلون ـ حجم الولايات المتحدة في عصر «الأحادية»، ومن ثم أي نوعية من الإدارات تحكمها اليوم. فهم يستغربون كلام السفير الأميركي جيفري فيلتمان في لقاءاته وجولاته وتصريحاته، مع أن سلفه السفير السابق فنسنت باتل «لم يقصّر» البتة على امتداد عدة سنوات في أداء دبلوماسية «العصا الغليظة» الأميركية، المطبقة اليوم بدرجات متفاوتة الشدة في مختلف عواصم العالم.
ان الفارق الوحيد، أو قل الأبرز، بين «أداء» فيلتمان و«أداء» زملائه في بلاد الله الواسعة، ان بعض القيادات التي يتعامل معها فيلتمان في لبنان تكابر وتتحدى كلما تجد نفسها محشورة، بدلاً من أن تحاول، بحد أدنى من الحصافة والمصداقية، أن تنزع أوراق التين التي بالكاد تستر غايات واشنطن في المنطقة. وهذه الحقيقة مؤلمة لمن يتذكّر جيداً ان طيفاً من «أشاوس» مقاومة واشنطن في لبنان كانوا وما زالوا أقرب اليها من حبل الوريد. وأن كوكبة من هؤلاء لها سجل أسود حافل عام 1982 ....عام الاحتلال الاسرائيلي البغيض.
اليوم يعيش لبنان، بعد قرار مجلس الأمن 1559، واقعاً سياسياً سيئاً لن تلغيه الديماغوجية والكذب على النفس وعلى الآخرين على طريقة الطيب الذكر جحا. وحبذا لو أجابت السلطة اللبنانية صراحةً على سؤالين:
هل يتحقق الصمود الوطني وتصان الوحدة الوطنية بالتفنن في تنفير الناس من الحكم وأهله؟ وهل تتأمن حماية المقاومة بتسعير التحدي ومفاقمة «الكيدية» ورشق المعارضة باستحضار أشباح الحرب ...عندما قرّر أطراف الحرب أنفسهم دفنها؟
انها لـ«مأساة ـ ملهاة» حقاً، رؤية سلطة محاصَرة خارجياً ومشكك بسعة تمثيلها داخلياً اعتمدت الهجوم وسيلة للدفاع، وأحرجت خصومها حتى أخرجتهم ...ثم اتهمتهم بسوء الظن بها، ومارست وتمارس يومياً كل فنون «الكيدية» الصبيانية ضد خصومها ...ومع هذا تبدي استغرابها الشديد اذا شكك هؤلاء في نيتها وغاياتها.
الحقيقة ان هناك ثمة تيارين رئيسيين في معسكر الموالاة اللبناني: الأول موالٍ عن اقتناع بكل الشعارات التي تطلقها السلطة، بما فيها عروبة لبنان وحماية المقاومة والتصدي للتدخل الفرانكو أميركي في سياسة لبنان الداخلية. وهذا التيار لا مشكلة معه الا نظرته الخاصة لتعريف الأكثرية والأقلية في النظام الديمقراطي.
أما التيار الثاني، فانتهازي مزايد ومتآمر، دفعه طموحه الخاص نحو الموالاة، مع أنه رافض في قرارة نفسه كل المبادئ العريضة المعلنة، ولقد تعمد توريط السلطة وحلفائها وداعميها الاقليميين في حالة حصار سياسي ...تتبدى لنا اليوم بكل قسوتها وقبحها.