محاضرة ألقاها الباحث السوري ( فراس السّـــواح ) في مركز القيروان التربوي في بلدة الجديدة . لبنان _ البقاع الشمالي _ 10 / كانون الأول / 1993

مسائل أولية في المصطلح والتعريف

أيها السيدات والسادة

لم أشأ للقائي بكم في هذه الأمسية . ولأول مرة . أن يكون مناسبة لتواصل من جانب واحد ، حيث يتلو المحاضر عددا من الصفحات في ساعة أو ما يقاربها ، ثم يجيب بعدها ، وبما يتسع له الوقت على بضعة استفسارات يطرحها الحضور ، بل لقد شئت له أن يكون مناسبة لتواصل من جانبين ، ولقاء مفتوحاً نناقش فيه معاً أكبر قدر من تساؤلاتكم العامة حول الميثولوجيا ، لا بإعتبارها ركاماً من أقاصيص القدماء أو من معتقداتهم ، بل بإعتبارها مفتاحاً مهماً لفهم البعد الروحي عند الإنسان ، سواء في عصوره القديمة أو الحديثة . ولكني نُصحت بأن أتقدم بورقة عمل تكون بمثابة الأساس للحوار المرتقب ، خصوصاً وأن الحضور يتوقع الإستماع من ضيفه الى ما يفتح شهيته للكلام والإستفسار ، وتبينت الفائدة العلمية من ذلك . على أني أردت الجمع بين الطريقتين ، فجئت إليكم بورقة عمل تشبه ما يلقى عادة في الندوات العلمية الإختصاصية ، أي بكلمة مكثفة موجزة تحتوي على عدد من الأفكار الجديدة ، تلقى في زمن قصير يسمح بعدها بالحوار المجدي الذي أرى فيه الفائدة الحقيقية من الإجتماع لأية محاضرة .

مما لا شك فيه أن كل واحد منكم قد جاء إلينا في هذه الأمسية يدفعه إهتمام من نوع ما بالاسطورة ويحمل معه عدداً من التساؤلات التي يود لو نجح لقاؤنا هذا في الإجابة عليه . ولكني أظن أن قلةً منكم قد حملت التساؤل الأهم الذي لا نستطيع تجاوزه إلى غيره قبل التوقف عنده مطولاً ، ألا وهو : ما هي الأسطورة مصطلحاً وتعريفاً ؟ وكيف نميز بين النص الأسطوري والنص الآخر غير الأسطوري . إن هذا التساؤل ليطرح في اعتقادي موضوعاً إشكالياً على غاية من الأهمية والتعقيد ولا أدل على إشكاليته وتعقيده من أننا إذا استمعنا اللآن الى اجتهاد كل واحد من هذا الحضور الكريم ، في تعريف اللاسطورة ، لحصلنا على اجتهادات بعدد المجتهدين ونظرات بعدد زوايا النظر وجهاتها .

ولعلكم تعجبون إذا قلت لكم بأن الأمر في الحلقات الأكاديمية المتخصصة ليس بأحسن كثيراً من حالنا هنا . فالقوم مختلفون في الأمر وما زالوا فيه يتجادلون .

تنبع المشكلة ، في رأيي ، من أن القدماء أنفسهم لم يعملوا على تمييز النص الاسطوري عن غيره ولا هم دعوه باسم خاص يساعدنا في التعرف عليه بوضوح بين ركام ما تركوه لنا من حكايا وأخبار وأناشيد وصلوات وما إليها ، ويمكن أن أسوق في هذا المجال مثالين ، المثال السومري والمثال الاغريقي . فلقد كان للسومريين مكتبات يحفظون فيها الرقم تدعى بيت الألواح ، وكان لهم نُظُماً للأرشيف تساعد خازن بيت الألواح على جرد محتوياته ، والمستفيدين منها على تحديد مايرغبون في الاطلاع عليه . ولكننا إذا نظرنا إلى لوائح إرشيفهم ، لوجدنا أن النصوص الأسطورية مبعثرة بين البقية ، وكأن المؤرشف لم يلمح مايجمع هذه النصوص إلى بعضها ، ولم يجد فيها مايبرر ضمها إلى زمرة واحدة . وقد فعل جامعو الحكايا التقليدية الاغريقة الشيء نفسه عندما جمعوا شتاتاً من الحكايا التي تنتمي إلى أجناس أدبية مختلفة ضمن سفر واحد ، كلّ في أسلوب أدبي خاص به ، ووفق صنعة وخيال تدخل على النص المنقول تعديلات لابد منها في أية صياغة أدبية هدفها الامتاع والمؤانسة لا التوثيق والتدقيق . وعندما جاء الباحثون الغربيون في العضر الحديث إلى النظر في تلك المجموعات الأدبية ، أطلقوا على ماحوته إسم الأساطير ، وابتدأت مشكلتنا مع المصطلح والتعريف . ومما زاد الطين بلّة أن جامعي ومقدمي الميثولوجيا الإغريقية من المحدثين ، وقد عمدوا إلى إعادة صياغة ماكان الجامعون الإغريقيون قد أعادوا صياغته ، وذلك بلغة عصرية تروق لقاريء اليوم ، إضافة إلى مزجهم بين عدد من الروايات القديمة للحكاية الواحدة ، فجاءت النسخ العصرية للميثولوجيا الإغريقية في حلّة لاتربطها إلاّ أوهى الروابط بأصولها التي كانت متداولة شفاهة قبل عصر التدوين في اليونان . ولكي أعطي مثالاً على الجمع العشوائي غير المدقق للحكاية الاغريقية التقليدية تحت عنوان الميثولوجيا ، أذكر كتاباً رائجاً في الدول الناطقة بالانكليزية عنوانه " الميثولوجيا " لمؤلفته أديث هاملتون ، جمعت فيه كل مايخطر بالبال من حكايا تتدرج في الجدية والأهمية من أسطورة خلق العالم كما رواها هزيود إلى حكاية حب عادية أوردها الكاتب الروائي أوفيد في تحولاته المعروفة . تقول في مطلع نصها لاسطورة تكوين العالم :

" في البدء كان العماء ، هاوية لايُســـبر غورها
هائجة كالبحر ، مظلمة وجرداء ووحشية . "

ثم تتابع :

" هذه الكلمات لميلتون ، ولكنها تُعبّر بالضبط عما كان الاغريق يعتقدونه في أساس الأشياء وبداياتها . قبل أن تظهر الآلهة بزمن طويل ، لم يكن هناك سوى العماء الذي لاشكل له يحضن تحته ظلمة كثيفة . ثم وُلدَ لهذا اللاشيء الذي لاشكل له إبنان ، هما الليل وأريبوس الذي لاغور له حيث يقطن الموت . ولم يكن في الكون أي شيء آخر ، كل شيء كان أسود فارغاً صامتاً يلا نهاية . عندئذ حدثت معجزة المعجزات ، فبطريقة غامضة ، ومن هذا الفراغ المترامي الخاوي ، انبثق أعظم الأشياء طرّاً . إن الكاتب المسرحي العظيم أريستوفان الساخر يصف هذا الانبثاق بكلمات طالما اقتبسها الكتّاب منه . يقول :

الليل بجناحيه السوداوين
في قاع أريبوس المظلم العميق
وضع بيضة في رحم الريح . وبتوالي الفصول
انبثق الحب إيروس بأجنحة من ذهب

( ثم تتابع ) هكذا إذاً ، من الظلمة ومن الموت ولد الحب ، وبولادته بدأ النظام والجمال يطغيان على العماء والفوضى . يتلو ذلك خلق الأرض . وهنا يحاول هزيود وهو أول إغريقي حاول تفسير كيف بدأت الأشياء ، يقول :

الأرض الجميلة نهضت ، وظهرت بصدرها العريض ،
إنها الأساس الرّاسخ لكل الأشياء .
والأرض الجميلة أنجبت بكرها أورانوس
السماء المتلألئة بالنجوم ، الذي يساويها
ليغطيها من جميع الجهات ويكون
بيتاً أبدياً للآلهة المباركة .

( ثم تتابع ) كان الكون بالنسبة لأولئك الذين رووا هذه الأقاصيص ، ممتلئاً بالحياة التي يرونها في أنفسهم وفيما حولهم . فقد كانت الأرض مساحة صلبة ، ولكنها تحولت في خيالهم إلى شخصية غامضة ، وكانت السماء قنطرة زرقاء في الأعالي ، ولكنها تتصرف كما يتصرف كائن بشري . لقد قاموا بتشخيص كل شيء يظهر الحركة والتغيّر ... "

يشكل نص أديث هاميلتون هذا ، مثالاً على العمل التلفيقي الذي قام به الميثولوجيون الغربيون المحدثون . إن هاميلتون هنا لم تكتفي بمزج نصوص مختلفة للرواة الميثولوجيين الإغريق بل تعدّتهم إلى مؤلفي الدراما الإغريقية وتوّجت هذه الخلطة بنص للشاعر الحديث ميلتون اعتبرته معبراً عما كان الاغريق بالضبط يعتقدونه في أساس الأشياء . وهنا يحق لنا أن نتساءل : ما الذي بقي من الأسطورة الأصلية بعد كل هذا الصقل والتحرير وإعادة التحرير . ثم تتابع المؤلفة بعد ذلك سرد الحكاية واحدة تتبع أخرى دون معيار محدد في الانتقاء سوى جمال الحكاية وجاذبيتها وحسن صنعتها ، حتى تصل إلى إيراد ماهو أقرب إلى الحكاية الشعبية بمفهومها الذي نعرفه اليوم وذلك في قصة بيراموس وتيسبي التي أوردها الشاعر الروماني أوفيد في كتابه ، التحولات . ميتامورفوسيز metamorphoses. وتجري الحكاية على النحو التالي :

" مرة في قديم الزمان كانت الثمار الحمراء لشجرة التوت بيضاء كالثلج . وقصة تغير لونها غريبة ومحزنة ، ذلك أن موت عاشقين شابين كان وراء ذلك . فقد كان بيراموس وتيسبي شاباً وسيماً وعذراء باهرة الجمال ، عاشا في مدينة بابل ، في بيتين متلاصقين ، وربط بينهما الحب فتاقا إلى الزواج ولكن أهلهما رفضوا . اكتفا العاشقان من متع الحب بتبادل الهمسات ليلاً عبر شق في الجدار الفاصل بين منزليهما .

حتى جاء يوم وصل فيه العاشقان درجة من الشوق لاتحتمل ، فاتفقا على اللقاء ليلاً عند مقام للآلهة فينوس يقع تحت شجر توت شامخة تنوء بثمارها البيضاء كالثلج . وصلت الفتاة قبل حبيبها ولبثت تنتظر ، وفي هذه الأثناء ظهرت لبوة من الدغل القريب والدم يضرّج فكيها بعد أن أكلت فريستها . هربت تيسبي تاركة عباءتها ، فجاءت اللبوة إلى العباءة ومزقتها إرباً ثم توارت . حضر بيراموس ورأى عباءة تيسبي ممزقة وعليها آثار الدم فاعتقد بأن الوحش قد افترس حبيبته ، فاقترب من شجرة التوت وأغمد سيفه في جنبه وسال دمه على حبيبات التوت ولونها بالأحمر القاني . بعد زوال الخوف عن تيسبي عادت إلى المكان لكي لايفوتها لقاء حبيبها / وهناك وجدته يعاني سكرات الموت ، وعندما لفظت اسمه فتح عينيه ليراها لآخر مرة ثم أطبقهما الموت . شاهدت سيفه ساقطاً من يده ، وإلى جانبه عباءتها الممزقة المدماة فعرفت ماجرى حملت السيف الذي مازال مُندّى بدم حبيبها وقالت : بيديك قتلت نفسك حباً بي ، وأنا أيضاً أستطيع أن أكون شجاعة ، أنا ايضاً أستطيع أن أحب ، الموت وحده كان قادراً على تفريقنا ولكنه لايملك الآن تلك القوة . ثم أغمدت السيف في قلبها . حزنت الآلهة لهذه النهاية وكذلك والدا الحبيبين وكل من عرفهما ، فجُمع رمادهما في مزهرية واحدة حيث لايمكن أن يفرّقهما الموت ، وبقيت ثمار التوت الحمراء ذكرى أبدية لهذين العاشقين .

والآن . ماالذي يجمع حكاية ظهور الكون المنظم من العماء البدئي . إلى حكاية هذين العاشقين . وكيف يمكن لكليهما أن يصنفا في كتاب واحد عنوانه الميثولوجيا .

لقدقمت بهذه الوقفة الطويلة نسبياً عند كتاب يقرأه اليوم كل مَن يرغب في الاطّـلاع على الميثولوجيا في الدول الناطقة بالانكليزية وفي غيرها من الدول التي ترجم هذا الكتاب إلى لغتها ( وقد صدر عام 1990 عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق ) ، وذلك بغرض إيضاح طبيعة المشكلة التي تعانيها الدراسات الميثولوجية بسبب غموض المصطلح نفسه . وسأنتقل الآن إلى طرح وجهة نظري في هذه المسألة . كما تشكلت عبر تفرغي لدراسة الأسطورة وتاريخ الدين خلال ربع قرن مضى .

في تراث الشعوب . يختلط الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه الأسطورة بعدد من الأجناس الأدبية التقليدية الأخرى التي يمكن حصرها في أربعة هي : 1_ الخرافة _ 2_ الحكاية البطولية _ 3 _ الحكاية البطولية الإخبارية _ 4 _ الحكاية الشعبية .

ولكي نستطيع التعرف على الأساطير وفرزها عن الحكاية التي تنتمي إلى بقية الزمر الأدبية التقليدية . لابد لنا من التعرف على عدد من الخصائص التي لابد من توفرها في نص ما . لكي ينطبق عليه مصطلح الأسطورة بالمعنى المحدد لهذا المصطلح . وهذه الخصائص كما وجدتها تتلخص فيما يلي :

1 _ من حيث الشكل ، الاسطورة هي قصة ، تحكمها مبادىء السرد القصصي من حبكة وعقدة وشخصيات وما إليها . وغالباً ماتجري صياغتها في قالب شعري يساعد على ترتيلها وتداولها شفاهة . ويزودها بسلطان على العواطف والقلوب .

2 _ يحافظ النص الأسطوري على ثباته عبر فترة طويلة من الزمن ، وتتناقله الأجيال بحرفيته ، طالما حافظ على طاقته الإيحائية بالنسبة إلى الجماعة . فا لأسطورة السومرية المعروفة بهبوط انانا إلى العالم الأسفل مثلاً ، والتي لدينا عنها نسخة مدونة من أواسط الألف الثالث قبل الميلاد تقريباً ، وقد استمرت في صيغتها الأكادية المطابقة تقريباً للأصل السومري حتى أواسط الألف الأول قبل الميلاد .

3 _ لايعرف للأسطورة مؤلف معين ، لأنها ليست نتاج فردي ، بل هي ظاهرة جمعية يخلقها خيال الناس وعواطفهم وتأملاتهم . ولاتمنع هذه الخصيصة الجمعية من أن الأسطورة قد تخضع في بعض الأحيان الى إعادة صياغة أدبية يقوم بها أفراد متميزون في الحياة الفكرية أو الدينية للجماعة .

4 _ يلعب الآلهة وأنصاف الآلهة الأدوار الرئيسية في الأسطورة ، فإذا ظهر الإنسان على مسرح الأحداث كان دوره مكملا لا رئيسياً.

5_ تتميز الموضوعات التي تدور حولها الأسطورة بالجدية والشمولية ، وذلك مثل التكوين والأصول ، والموت والعالم الآخر ، ومعنى الحياة وسر الوجود ، وما إلى ذلك من مسائل التقطتها الفلسفة فيما بعد ، إن همّ الأسطورة والفلسفة واحد ، ولكنهما يختلفان في المقترب والمنهج ، فبينما تلجأ الفلسفة إلى المحاكمة العقلية وتستخدم المفاهيم الذهنية كأدوات لها ، فإن الأسطورة تلجأ إلى الخيال والعاطفة والترميز ، وتستخدم الصور الحية المتحركة.

6_ الحدث الأسطوري حدث غير تاريخي ، ورسالة الأسطورة رسالة لا زمنية . ومع ذلك فإن مضامينها أكثر حقيقة وصدقاً من مضامين الروايات التاريخية . وقد يشكك المؤمن بأية رواية تاريخية ويعطي نفسه الحرية في تصديقها أو تكذيبها . ولكن الشك لا يتطرق إلى نفس البابلي بأن الإله مردوخ قد خلق الكون من تنين العماء البدئي وأنه قد صنع الإنسان من تراب ممزوج بدم إله قتيل ، كما أن الشك لا يتطرق إلى نفس اليهود بأن الرب قد خلق العالم في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع.

7_ ترتبط الأسطورة بنظام ديني معين ، وتعمل على توضيح معتقداته ، وتدخل في صلب طقوسه . فالطقوس الدورية الكبرى في أي دين إنما ترتبط عضوياً بأساطير أساسية كبرى . وتعتبر بمثابة تكرار على المستوى الطبيعي ، للحدث الأسطوري الذي يجري على المستوى الغيبي . فطقوس رأس السنة في بابل ، هي عرض درامي لأسطورة التكوين البابلية ، وكذلك أعياد الربيع في جميع أنحاء الشرق القديم ، التي تعيد تمثيل أسطورة موت وبعث إله الخصب . كما تدور الأعياد المسيحية حول المفاصل الرئيسية في حياة السيد المسيح ، ولدى المسلمين يتخذ الحج إلى بيت الله في مكة شكل تكرار دوري سنوي لحادثة بناء ابراهيم لأول بيت عبادة أقيم في مكة ، ولأول مكان مبارك أراد الله إقامته ليكون نقطة تواصل بين السماء والأرض .

إن التأمل في هذه الخصائص المميزة للأسطورة يقودنا إلى صياغة ما أدعوه بتعريف الحد الأدنى فأقول بأن الأسطورة هي حكاية مقدسة . وأن عنصر القداسة هذا هو أهم ما يميزها عن بقية الأجناس الأدبية الشبيهة بها ، والتي سأنتقل الآن إلى بحثها .

لعل الخرافة هي أكثر أنواع الحكايا التقليدية شبهاً بالأسطورة ، ولكن العين الفاحصة ما تلبث طويلاً حتى تتبين الفروق الواضحة بين النوعين . تقوم الخرافة على عنصر الإدهاش وتمتلىء بالمبالغات والتهويلات وتجري أحداثها في جو بعيد عن الواقع حيث تتحرك شخصياتها بسهولة بين المستوى الطبيعي المنظور والمستوى فوق الطبيعي ، وتتشابك علائق هذه الشخصيات مع كائنات ما ورائية متنوعة مثل الجن والعفاريت والأرواح الهائمة . وقد يدخل الآلهةمسرح الأحداث في الخرافة ، ولكنهم يظهرون هنا كبشر متفوقين لا كآلهة سامية متعالية كما هو شأنهم في الأسطورة ، من هنا ، فإن الحدود بين الخرافة والأسطورة ليست دائماً على ما نشتهي من الوضوح ، وقد يشبه بعض الخرافات الأساطير في الشكل والمضمون إلى درجة تثير الإلتباس والحيرة ، فلا نستطيع التمييز بينهما إلاّ باستخدام المعيار الرئيسي الحاسم الذي أثبتناه في تعريفنا للأسطورة أعلاه ، وهو معيار القداسة . فالأسطورة هي حكاية مقدسة يؤمن أهل الثقافة التي أنتجتها بصدق روايتها إيماناً لا يتزعزع ، ويرون في مضمونها رسالة أزلية موجهة إلى بني البشر ، فهي تبين عن حقائق خالدة وتؤسس لصلة دائمة بين العالم الدنيوي والعوالم القدسية . أما الخرافة فإن راويها ومستمعها ، على حد سواء ، يعرفان منذ البداية أنها تقص أحداثاً لا يقوم أحداً بتصديقها أو الإيمان برسالتها .

من الحكايا التقليدية التي يصنفها المؤلفون الغربيون في زمرة الأساطير الإغريقية ، وأصنفها حصراً في زمرة الخرافة ، تلك المتعلقة بالأبطال الخرافيين من الرجال وأنصاف الآلهة أمثال هرقل وبيرسيوس وجيسون ونيسيوس ، فهذه جميعاً حكايا غير مقدسة ، ولم يتداولها الإغريق كأساطير تحمل رسالة أزلية من أي نوع لبني البشر ، ولعل أي دارس متعمق للثقافة الغغريقية يستطيع اكتشاف هذه الحقيقة دونما صعوبة تذكر . فإذا أردنا أمثلة أكثر قرباً من ثقافتنا ، وجدناها في عدد من الحكايا العربية التقليدية ، مثل سيف بن ذي يزن والأميرة ذات الهمة ، وعدد لا بأس به من حكايا ألف ليلة وليلة .

إن صلة القربى التي تربط الأسطورة والخرافة تخلق بينهما حالة تبادل ، فقد يلتقط الكهنة ، في فترات ضعف المؤسسة الدينية وانهيار المعتقدات الراسخة ، حكاية خرافية شائعة ويحملونها مضامين دينية ويضفون عليها طابع القداسة . وبالمقابل فقد تؤدي تغييرات عميقة في بنية المعتقدات الدينية إلى زوال القداسة عن أسطورة ما وهبوطها إلى مستوى الخرافة ، حيث تستمر فاعلة في الأدب التقليدي بعد زوال الرابطة التي كانت تشدها إلى نظام ديني معين .
وكما رأينا في الخرافة أقرب الأقرباء إلى الأسطورة ، فإننا نرى في الحكاية البطولية ، أقرب الأقرباء إلى الخرافة ، ولكن الحكاية البطولية تختلف عن الخرافة في أمرين هامين ، أولهما أن أحداثها أقرب إلى الواقع رغم المبالغة والتهويل ، وثانيهما وهو الأهم ، أن البطل فيها يشكل صورة مثالية عن الإنسان وعما هو إنساني ، وهي تستثير الرغبة في السامع إلى تحقيق هذه الصورة وإن بدرجات قد لا تصل حد النموذج الأعلى الذي ترسمه الحكاية ، وذلك على عكس صورة البطل في الخرافة فإنها تطرح نموذجاً متخيلاً ، بعيداً عن الواقع إلى درجة لا يصلح معها لأن يكون نموذجاً يحتذى على أي صعيد . لقد قام بيسيوس في الخرافة اليونانية بقتل المرأة الأفعى ميدوزا التي تحول الرجال بنظرتها إلى حجارة ، ثم حط رحاله بعد ذلك في أثيوبيا حيث أنقذ العذراء أندروميدا المقيدة أمام التنين الهائل قرباناً له . وفي الخرافة العربية نجد سيف بن ذي يزن يصرع عشرات الجن بسيفه الذي انتهى إليه من سام بن نوح ، ويقضي على الغيلان في واديهم بريشة ديك مسحور ، وتلتقطه العفاريت الطائرة في الهواء كلما أحكم عليه الأعداء حصاراً ، وهنالك مارد يحمل به قصره فيطوي به المسافات ليقيمه حيث يشاء ، وفي طريقه إلى كنوز الملك سليمان التي يحرسها مارد بسبعة رؤوس يركب الحصان الطيار ويقضي علىحيوانات مهولة بينها ثعبان عملاق احتل مدينة وأجلى سكانها . إن مثل هذه المشاهد والأحداث لا تحركها شخصيات إنسانية نموذجية ، بل شخصيات مختلفة حكم عليها منذ البداية أن تبقى حبسةً في حبكة الرواية وخيال السامع دونما تفاعل حقيقي مع النفس الإنسانية . أما في الحكاية البطولية ، ونموذجها الإغريقي حكايا أبطال الإلياذة والأوديسا ، والعربي حكاية عنترة بن شداد ، فرغم المبالغات التي تغلف أحداثها وشخصياتها ، إلا أن أبطالها بشر عاديون يتحركون في جو إنساني واعمالهم هي نموذج سامٍ ومتفوق لما يمكن للأفراد أن يطمحوا إليه ، وعواطفهم ليست مما لا يشعره أو يختبره السامع . أما حضور الجني الحارس للشخص والذي يقدم له المساعدة حين الحاجة ، ويبقى مسرح الحدث هنا إنساني ومشكلاته إنسانية وأبطاله إنسانيون إلى أبعد حد ممكن .

فإذا كانت الحكاية البطولية مما يقص أحداثاً تاريخية وقعت بالفعل ، أسميناها بالحكاية البطولية الإخبارية . ويعتمد هذا النوع الأدبي على عدد من الوقائع التاريخية ، ولكنه يراكم فوقها أحداثاً إضافية خيالية إلى درجة يغيب معها التاريخ في ضباب الخيال . إن الحروب الطروادية نموذج للحكاية البطولية الإخبارية ، ومثلها تغريبة بني هلال في الأدب الشعبي العربي ، فالتغريبة رغم عنايتها بوصف البطولات الفردية لشجعان بني هلال ولخصومهم على حد سواء ، إلاّ أنها تهدف من وراء ذلك الى تقديم حدث تاريخي في قالب أدبي مشبع بالخيال .

نأتي الآن إلى الحكاية الشعبية ، إن مايميّز الحكاية الشعبية بشكل رئيسي عن الحكاية الخرافية والحكاية البطولية هو هاجسها الاجتماعي ، فموضوعاتها تكاد أن تقتصر على مسائل العلاقات الإجتماعية والأسرية منها خاصة . والعناصر القصصية التي تستخدمها الحكاية الشعبية معروفة لنا جميعاً ، وذلك مثل زوجة الأب الحقودة ، وغيرة الأخوات في الأسرة الواحدة من أصغرهن سناً والتي تكون في العادة الأجمل والأحب ، أو غيرة الأخوة من أخيهم الأصغر المفضل لدى الأب والذي تجتمع له خصائص الشجاعة والنبالة في مقابل الخسة والحسد لدى إخوته ، وما إلى ذلك . والحكاية الشعبية واقعية إلى أبعد الحدود وتخلو من التأملات الفلسفية والميتافيزيكية ، وهي تهتم بأدق تفاصيل الحياة اليومية وهمومها . ورغم استخدامها لعناصر التشويق ، إلا أنها لا تقصد إلى إبهار السامع بالاجواء الغريبة أو الأعمال المستحيلة ، ويبقى أبطالها أقرب إلى الناس العاديين الذين نصادفهم في سعينا اليومي ، ففي مقابل القوة الخارقة للبطل في الحكاية الشعبية يلجأ إلى الحيلة والفطنة والشطارة للخروج من المآزق والتغلب على الأعداء . وكل هذا لا يعني أن العناصر الخيالية معدومة تماماً في الحكاية الشعبية . فهذه العناصر في نسيج الحكاية الشعبية ، لا ينفي طابع الواقعية عنها ، مثلما لا يضفي طابع الواقعية على الخرافة وجود أحداث وشخصيات واقعية فيها . ومن حيث أسلوب الصياغة ، فإن بنية الحكاية الشعبية هي بنية بسيطة تسير في اتجاه خطي واحد ، وتحافظ على تسلسل منطقي ينساب في زمان حقيقي ومكان حقيقي ، على عكس الحكاية الخرافية ذات البنية القصصية المعقدة والتي تسير في اتجاهات متداخلة عدة ولا تتقيد بزمان حقيقي أو مكان حقيقي .

وأخيراً تتميز الحكاية الشعبية برسالتها التعليمية التهذيبية ، ومعظمها يحمل في ثناياه درساً أخلاقياً ما مثل جزاء الخيانة وفضل الإحسان ومضار الحسد وما إلى ذلك .

الأسئلة ؟ والأجوبة ...

س1 : إلى أي مدى يتأثر الفكر الغربي والشرقي بالأسطورة ؟

فراس السواح : الميثولوجيا ركام من أقاصيص القدماء . والتفكير الميثولوجي مستمر عند الانسان . لم تأتي فترة لم تكن الانسانية متأثرة بشكل أو بآخر ، بالتوجه العقلي الميثولوجي وكأن الميثولوجيا هي وظسفة من وظائف العقل الانساني أو النفسية الانسانية نحن نفكر أحياناً بطريقة ميثولوجية . نخلق أحداثاً أسطورية أو شخصيات أسطورية . الميثولوجيا , إذن داخلة في صلب وظائف العقل الانساني وعندما جاءت الفلسفة كان همها الأول محاربة الاسطورة لأنها المنافس الحقيقي لها . لكي يستطيع الفكر الفلسفي الاغريقي ، مثلاً ، توطيد أقدامه كان عليه أن يحارب الاسطورة ، مع أنه وليد الأسطورة . الفكر الفلسفي هو وليد الأسطورة وتطوير طبيعي لها . والفكر الغربي والشرقي متأثر بالأسطورة ، بشكل طبيعي ، فهي جزء من التراث الثقافي والحضاري للإنسان .

الفلسفة بنيت على الأسطورة ، والعلم بني على الفلسفة ، والحضارة الحديثة هي ناتج الفلسفة والعلم ، فالأسطورة إذن جزء طبيعي من الحضارة الشرقية والغربية .

س 2 : تحدثت عن حكاية الخلق أوالتكوين اليهودية ، وهذا الأمر مشابه لما جاء في القرآن ، لاحقاً ، فهل اقتبس القرآن ؟ وما موقف العلم من المسألة ؟

فراس السواح : هناك في كل بيئة ثقافية أفكار أسطورية يجري تداولها من جيل إلى جيل . فأسطورة خلق العالم في ستة أيام هي أسطورة توراتية سمعنا فيها لأول مرة . من مدوني التوراة ، فلا يوجد عندنا أسطورة سابقة لها تقول بأن الله صنع العالم في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع . إن كل بيئة ثقافية هي متحد ثقافي يأخذ من بعضه بعضاً . ويعطي بعضه بعضاً . هناك أوجه شبه ، أشرت إليها في بعض مؤلفاتي ، عن صلة الأسطورة التوراتية بأسطورة الخلق البابلية ، يمكن الرجوع إليها في كتابي " مغامرة العقل الأولى " .

إن انتقال العناصر الأسطورية من ميثولوجيا إلى ميثولوجيا أخرى شيء وارد وطبيعي وموجود عبر تاريخ الحضارة . والأسطورة لا تتفق مع العلم ، فإذا اتفقت فهذا هو الغريب وليس العكس ، لكل منهما زمن ووظيفة .

س 3 : ماهو الفرق بين الأسطورة والخرافة ، وماهو امتداد كل منهما في حياتنا الاجتماعية والدينية ، وعلى وجه الخصوص حياتنا القومية والسياسية ؟

ج : قلت أن الأسطورة هي حكاية مقدسة . أي إن لكل دين حكاياه المقدسة . عندما أصف الحكاية الدينية الموجودة في التوراة والإنجيل والقرآن بأنها أسطورية ، لا أقصد التقليل من أهميتها ، بل أقصد الرفع من أهمية أساطير الأولين وأضع المجموعتين على مستوى واحد

الاسطورة هي معتقدات ترتبط بشكل عضوي بنظام ديني معين ولا حياة لها خارج هذا النظام الديني . فالاسطورة تتداخل ، بشكل طبيعي ، في حياتنا الدينية . أما كيف تتداخل في حياتنا الاجتماعية فبمقدار ماتتداخل حياتنا الدينية بحياتنا الاجتماعية ... هذا عن الأسطورة .

أما عن الخرافة ، فالخرافة ، أصلاً ، وجدت في المجتمعات القديمة للتسلية لا لكي نأخذها بعين الاعتبار وبشكل جدي، أما في الحالة الثانية فتمارس الخرافة تأثيراً سلبياً على المجتمع .

س 4 : في حديثكم عن الأسطورة أعطيتم مثلاً الكعبة الشريفة .. فكيف تفسون توجه ملايين المؤمنين بتفكيرهم إلى الكعبة ... هل هذا مجرد أسطورة ؟

ج : الاسطورة كما قلت حكاية مقدسة وليست باطلاً . عندما نقول بأن الاسطورة شيء باطل ولا قيمة له .. هذا شيء ، وعندما نقول بأنها حكاية مقدسة .. شيء آخر . وقلت بأن الأسطورة ، أي الحكاية الدينية المقدسة ، هي مصدّقة بالنسبة للمؤمن أكثر من أية واقعة تاريخية مثبتة . وقلت أنه قد يشكك المؤمن بأية واقعة تاريخية ولكنه لايشكك بمضمون الحكاية المقدسة التي يؤمن بها . وهذا السؤال لايعتبر بما قلت على الاطلاق .

س 5 : أين وجه القداسة في الأسطورة ؟

ج : تأتي قدسية الأسطورة من مسألة الدين برمتها . إذا درسنا بنية الدين ، أي دين على الاطلاق ، إذا أخذنا الديانات من بلدان الأسكيمو في الشمال إلى أفريقيا الجنوبية في الجنوب .. لرأينا بأن الدين الانساني ، دين الانسان ، مؤلف من ثلاثة مكونات . بمعنى أن أية ظاهرة إنسانية يجب أن تتكون من ثلاثة مكونات . لكي تكون ديناً . وهي :

1 _ المعتقد
2 _ الطقس
3 _ الأسطورة

لا يوجد دين بدون معتقد ، ولايوجد دين بدون أسطورة ، أي حكاية مقدسة ، ولايوجد دين بدون طقس . فالأسطورة هي مكون أساسي من مكونات الدين . من هنا تأتي قداستها .

س 6 : من الملاحظ أن الشعوب المقهورة تؤمن بالميثولوجيا للهروب من واقعها الأليم ، هل الشعوب المتطورة تكترث لهذه القصص ؟

ج : الشعوب المتطورة لها أديانها أيضاً . ومهما بلغ الانسان الغربي من تطور ، فإن عالم الذرة مثلاً يخرج من مختبره الى منزله ليحتفل بعيد الميلاد ويذهب إلى الكنيسة .

هذان أمران مختلفان ولا علاقة بينهما البتة .

س 7 : ماوجه الشبه بين الآراء التي يتضمنها كتاب " لغز عشتار " وكتاب " آيات شيطانية "لسلمان رشدي ؟

ج : أنا لم أحفل بكتاب " آيات شيطانية " ولا أعرف عنه شيئاً . هل يمكن للسائل أن يشرح لي وجه شبه واحد ؟!

س8 : ما هو الربط بين هذا المثلث : الحكاية - الخرافة - الأسطورة ؟

ج : هنا مفارقة . الحكاية قد تكون أسطورة بالنسبة لجماعة ما وخرافة بالنسبة لجماعة أخرى . أنا أوضحت بدقة الفروق التي أراها بين الأسطورة والخرافة . ما هو خرافة ، أحياناً ، بالنسبة للهندوسي هو أسطورة بالنسبة لغيره . وما هو أسطورة بالنسبة للهندوسي هو خرافة بالنسبة للبوذي أو المسلم . فالقضية قضية نسبية . الأسطورة هي حكاية مقدسة بالنسبة لنظام ديني معين . قد يؤمن اليهودي بصورة معينة ، بحكاية يعتبرها مقدسة ولا ننظر إليها ، نحن ، على هذا الشكل ، وبالعكس . قد نتشارك نحن كمسلمين ومسيحيين ، مع اليهود ببعض القضايا المقدسة . إذن الموضوع موضوع نسبي . الخرافة غير مقدسة . الأسطورة مقدسة .

س9 : أرى أن معظم الحكايات المقدسة في الديانات الوثنية القديمة هي ذاتها في الديانات السماوية ، وحتى تأريخ الأعياد ، فما معنى هذا ؟

ج : أريد أن أوضح ، أولاً ، أنه لا يندرج في هذا السياق كل الأشياء ولا كل المناسبات ولا كل الأساطير . وقلت منذ قليل أن هناك اتصالاً واستمراراً في الثقافة الواحدة . حتى إذا آمنا بمسألة الوحي . ربما أن هناك اتصالاً مباشراً يجريه الخالق مع أنبيائه ، ومع أفراد متميزين مؤهلين لاستقبال هذا الوحي ، يمكن أن نجمع بين الإيمان بالوحي ومسألة التشابه هذه . حتى في الدين الإسلامي ، في المعتقد الإسلامي ، الذي يرى في القرآن كلام الله ، هناك أكثر من مدرسة . فمدرسة تقول أن القرآن قد نزل بكلامه وبحرفيته ، ومدرسة تقول قد نزل بمعناه . فإذا كان قد نزل بمعناه فإن ثقافة المتلقي تستخدم كل ما يمكن أن يقع في محيطها وبيئتها وثقافتها وتراثها من عناصر لاستيعاب هذا المعنى . وهذه مسألة قديمة عالجها سبينوزا في كتابه الذي أنصح سائل السؤال بقراءته ألا وهو كتاب "رسالة في اللاهوت والسياسة" .

س10 : إن القداسة التي تميز الأسطورة عن غيرها تأخذ قيمتها من واقع الحياة الإجتماعية ، ومعتقدات المتحدات عبر التاريخ ، وهي طبعاً متغيرة ومتناقضة أحياناً . فهل هذا يجعل الأسطورة تفقد قيمتها الأدبية والتاريخية ؟

ج : طبعاً . قلت أن الأسطورة تفقد قداستها لأسباب كثيرة وتتحول إلى خرافة . أو أنه يجري ترفيع خرافة لكي تنتقل إلى مستوى الأسطورة . لكن يبدو أن التخلص والإيجاز الذي تحدثت به سبّب مثل هذا الإلتباس . الأسطورة حكاية لا زمنية أي أنها لا تقصد رواية وقائع تاريخية حدثت ، بل تعمد إلى القص والحكاية والرمز . يجب أن لا نطلب من قصص التكوين التوراتية والبابلية والقرآنية أن تكون متطابقة مع العلم الحديث أو مع التاريخ لأن الأسطورة تلجا إلى الترميز . إنها حكاية لا زمانية تحمل رسالة غير تاريخية موجهة إلى بني البشر . لا تتقصد الحدث التاريخي ولا تقصد إعطاء معلومات علمية .

الأسطورة تفقد إيحاءها ، قيمتها ، أحياناً عبر مراحل الإنتقال الحضاري الكبرى وتتحول إلى خرافة . وقد تنتقل الخرافة من مستوى الخرافة العادية وتصير أسطورة. نحن ، كناس ، كعلمانيين ، لا ننظر إلى الأساطير البابلية والكنعانية والآرامية بمنظار القداسة . ومع ذلك /هل لها قيمة بالنسبة إلينا ؟

س11 : لم تأتوا على ذكر الفرق بين الملحمة والأسطورة . نأمل أن تضيئوا على هذا الجانب ؟

ج : لقد تعرّضت إلى الأجناس الأدبية التقليدية التي تختلط عادة بالأسطورة . الملحمة لا تختلط بالأسطورة كثيراً . الملحمة قصة شعرية طويلة مليئة بالأحداث غالباً ما تقص حكايات شعب من الشعوب في بداية تاريخه . إنها تقص عن تحركات جماعات بأكملها وبنائها للأمة والمجتمع . ما يدعى بملحمة جلجامش ليست بملحمة . الملحمة هي الشهنامة ، الأوديسة ، والألياذة . جلجامش لا أدعوها ملحمة . هي أقرب إلى الحكايةالبطولية منها إلى الملحمة .. الملحمة حكاية بطولية تقص عن حركة جماعات ، حركة الشعوب حركة قبائل وغالباً ما تقص أحداثاً وقعت في بداية تاريخ شعب .

قد تحتوي الملحمة على أساطير . قد تدخل الأسطورة في نسيج الملحمة ، ولكن لا تتداخل الملحمة مع الأسطورة . الملحمة شيء والأسطورة شيء آخر . البطل في الحكاية البطولية ، أي الملحمة ، هو نموذج إنساني يُحتذى به ، يفعل بحياته وسلوكه ما يمكن أن نطمح جميعاً إلى تحقيقه . الحكاية الخرافية ، لا . البطل الخرافي ليس بأمثولة ، ليس بإنموذج ، ليس بمثال يحتذى . من هنا ، إن ملحمة جلجامش هي قصة بطولية وليست ملحمة .

س12 : إن أكثر القصص الدينية الواردة في التوراة والإنجيل والقرآن هي أشبه بالأساطير القديمة . هل يمكن إعتبار هذه القصص ، كسابقاتها ، مغامرة العقل ، سيما وأن المدرسة الدينية ترفض أن تُخضع قصصها ومعتقداتها لسلطان العقل ؟

ج : إذا نظرنا إلى الإنسان القديم النظرة التالية : قبل مئة ألف سنة ، هذا الإنسان القديم أي النيندرتالي ، الذي كان يشبه القرد ، كان قد ابتدأ لتوه بصناعة الأدوات البدائية جداً . في قبور هذا الإنسان ، عثرنا على ما يشير ويؤكد على أن حياته الروحية كانت قائمة وموجودة وبأنه كان يفكر بشكل ديني .

أريد من هذا المثال أن أقول بأن الدين في البداية ، بداية الحضارة الإنسانية ، كان كل الحياة الفكرية للإنسان . تدريجياً بدأ الدين يأخذ جانباً من جوانب حياة الإنسان . وبدأت ظواهر كثيرة ، ووجوه من حياة الإنسان . وبدأت ظواهر كثيرة ، ووجوه من حياة الإنسان ، تخرج عن مجال الدين ، كذلك . من هنا كانت الأسطورة مغامرة عقلية ، فلسفة ، محاولة للتفسير . وكانت المنهج الوحيد للإنسان للتعامل مع الكون وللتفكير في الكون والبحث عن إجابات الفلسفة غير مستقلة عن الدين . وكل أسطورة دينية هي بشكل من الأشكال ، طريقة في التعبير ، طريقة في التعامل مع الواقع الخارجي . ولا نعتقد أن المؤسسة الدينية مجبرة على أن تخضع أساطيرها لسلطان العقل . ليست مجبرة ، وليس العلم هو الفيصل الأساسي في حياة الإنسان . يستطيع الإنسان أن يعيش حياة علمية عقلية أو يستطيع في الوقت نفسه أن يعيش حياة دينية ، غنية ، مليئة . ليس ، من الضروري ، أن يعمد إلى إجراء التقاطع بين هذين الأسلوبين في الحياة .

س13 : الأسطورة كما جاء في أحد كتبك هي دين الأقدمين . فهل كانت تشتمل على عناصر أخلاقية مشابهة لما عليه الدين في شكله الحاضر ؟

ج : هناك فرق بين الأخلاق والدين . وهذا المزج بينهما هو ظاهرة حديثة في تاريخ الدين . إن الدين شيء والأخلاق والتشريع شيء . الأخلاق والتشريع ظاهرة ، والدين ظاهرة أخرى . وهناك كثير من الأديان لم ينص على شرعه أخلاقية معينة ، ولا على شريعة معينة للتفاعل بين الناس ، ومع ذلك فقد أسميناه ديناً . إتصال الدين بالأخلاق والشريعة هو إتصال لاحق . الشريعة والأخلاق ليستا من المكونات الأساسية للدين . لقد تمّ تعليق الأخلاق والشرائع على الدين وليستا من مكوناته الرئيسية. وهناك كثير من الأديان لا تربط بين الأخلاق والدين . الدين الإغريقي ليس فيه شرعة أخلاقية ، أي تشريع ينظم علاقات البشر بين بعضهم البعض . من هنا برع الإغريق بفلسفة الأخلاق . في الصين ، الدين منفصل عن الأخلاق . ومع ذلك ظهرت الفلسفة الأخلاقية الكونفوشية . أتباع هذه الفلسفة يتبعونها كمنهج أخلاقي ، كسلوك أخلاقي ، لا كدين ملزم . إذن هناك شريعة أخلاقية يلتزم بها الإنسان دون أن تكون دينا . فلا صلة بين الدين والأخلاق . وهناك أديان ليست فيها أخلاق . في الإسلام كما في اليهودية كما في المسيحية ارتبطت الأخلاق بالدين . وهناك أديان كثيرة لم ترتبط فيها الأخلاق بالدين.

س14 : ما مدى صلاحية الأسطورة كمرجع تاريخي ، وخصوصا أن لها تأثيراً كبيراً على الأحداث الجارية من خلال ما يستوحيه اليهود منها ، كوعد إلهي مكتوب ؟

ج : هناك نصوص أسطورية تعتمد على حدث تاريخي ولكنها تبقى ، في النهاية ، أسطورة ، وهناك نصوص أسطورية لا أساس تاريخي لها . فهناك صلة بين التاريخ وبين الأسطورة . قد يكون للأسطورة أساس تاريخي وقد لا يكون لها على الإطلاق . وجود اليهود في المنطقة هو نتيجة لنفوذ الصهيونية العالمية ولتدخلات أجنبية ساعدت الصهيونية ، لا نتيجة وجود أساطير تتحدث عن وعد إلهي لليهود بفلسطين .

س15 : ما العلاقة برأيكم ، بين الفلسفة والأسطورة ؟

ج : إن همّ الأسطورة والفلسفة واحد . ولكن بينما تلجأ الفلسفة إلى المفاهيم الذهنية فإن الأسطورة تلجأ إلى الصورة والحركة والصوت والقص والترميز . فالهم واحد ولكن التعبير مختلف ، والصياغة مختلفة .

س16 : أليست الأسطورة ردة فعل على المجهول ؟

ج : لا شك أن كل تساؤل هو ردة فعل على المجهول . إن الأسطورة والفلسفة هما محاولة لإيجاد التوازن بين معلوم نعرفه ومجهول لا نعرفه .

س17 : كيف يمكن أن نفسر أنه ، بالرغم من تبني بعض الشعوب لأساطيرنا ، بقيت متحجرة في نظرتها إلى الحياة . كما وأنها استخدمت هذه الأساطير بما لا يتوافق مع ما ترمي إليه من استهداف نبيل ؟

ج : الأساطير موجودة . والأفكار الفلسفية التي تحملها موجودة أيضاً . ولكن يمكن لهذه الأفكار أن تطوّع ، بشكل قسري ، لتخدم أغراضاً غير إنسانية . النازية مثلاً استخدمت موسيقى فاغنر ، وصارت هذه الموسيقى الإنسانية تعزف في مناسبات نازية وكأنها وُضعت خصيصاً للحركة النازية . رمز الصليب المعقوف مفرق في قدمه . إنه رمز إنساني ، رمز خصبوي ، رمز شمولي ، موجود في الشرق الأدنى القديم ، كما في القبائل الجرمانية وفي الشرق الأقصى . هذا الرمز الإنساني استخدم كرمز للقهر ضد الشعب الألماني وضد الشعوب الأخرى . و هناك كثير من الحكايا الميثولوجية استخدمت من قبل النازية أيضاً لتحقيق أغراضها وتأكيد تفوقها العرقي .

س18 : هل تعتقدون أن فكر الأديان التوحيدية هو تكثيف نوعي وتاريخي للفكر الأسطوري ؟

ج : أنا ، الدين عندي واحد . لا يوجد دين توحيدي . ولا يوجد دين وثني . هناك دين للإنسان ابتدا مع إنسان النيندرتال الشبيه بالقرد الذي رفع ظهره ورأى نجوم السماء وهذا الدين مستمر حتى الآن . هناك دين للإنسان . لا يوجد أديان ! .
لقد تمّ التعبير عن الموقف الديني للإنسان بأشكال مختلفة . ولكن الدين واحد . إن دين الإنسان في العصر الحجري هو دين المسلم اليوم بشكل أو بآخر . اختلفت التجربة ، اختلفت البيئة ، اختلفت المرحلة .؟ لكن هذا الدين دين واحد .

س19 : رأينا أن الأساطير هي قصص خرافية لا وجود لها ، وهي تقريبا ، مقدسة فكيف يمكن تقديس ما لا وجود له؟

ج : لا . الأساطير لها وجود ، وهو أن صاحبها يؤمن بمحتوياتها كما يؤمن بأي شيء آخر . وأنا لست حكماً لأقول بأن ما يؤمن به صحيح أو لا . الحكايا المقدسة موجودة وأنا لا أحاكم تاريخيتها . أحاكم الرمز أقيّم الرمز الموجود في الحكايا الأسطورية : ماذا تحتوي ؟ ما هو المضمون ؟ إلى أي مدى تعينني الأسطورة على التلاؤم مع العالم ومع الكون . هذا هو دور الأسطورة . ليس من الضروري أن تكون حدثت ، أو أنها تكون حقيقة تاريخية ، أو أنها تكون مثبتة علمياً ، هي حقيقة بالنسبة لي ، وقد قدّمت لي أسلوباً للتلاؤم مع الكون ، وطريقة للنظر إلى العالم . وقد أدّت مهمتها .

س20 : اليهود اقتبسوا من أساطير الشعوب القديمة أو التي عاصرتهم فإلى أي حد حصل ذلك ؟

ج : الأسطورة الآكادية فيها العديد العديد من الأساطير السومرية . والآشوريون أخذوا الكثير من السومريين والآكاديين .. الخ . هذه ثقافة واحدة . فمن الطبيعي ، لأي شعب من الشعوب ، أن يتأثر وأن يؤثر . فمن الطبيعي أن يتسلّل إلى التوراة كل هذا التراث الثقافي السوري

س21 : ما هو تأثير الأسطورة في حياة الشعوب ؟

ج : الأسطورة هي تراث . إن كل أمة تستنهض في مرحلة نهوضها . ما عندها من تراث : الشعر القديم ، والأدب القديم ، والفن القديم . و تحاول أن تستفيد من التراث وتبرزه إلى ساحة الشعور الجمعي . بهذا المعنى ، الأسطورة هي تراث فكري غني ، تراث ديني . ونحيّي النصوص الأسطورية كما نحيّي أي تراث .

س22 : الحضارة الصينية ابتدأت ولم تزل مستمرة ويبدو أنها لم تتأثر بحضارات أخرى . فهل هناك من استعارة أو أوجه شبه بينها وبين أساطير الإغريق والشرق؟

ج : لا يوجد حضارة منعزلة .ولا يوجد ثقافة منعزلة . حتى دراستنا لسكان أستراليا الأصليين الذين هم أكثر الشعوب والحضارات تخلفا ، بالمعيار التقني ، لم يثبت إنهم كانوا منعزلين تما ما ، أقزام الدغال في إفريقيا ليسوا منعزلين ، أيضاً . التأثيرات الثقافية جارية دائماً بين المناطق والشعوب . الحضارة الصينية ليست حضارة منعزلة ، هي حضارة منفتحة . تلقنت وأعطت .