عندما نتكلم عن العلوم ، فنحن نتكلم عن الإنسان وقصة الإنسان .والخوض في العلوم – بدراستها وتعلمها – يعني ضمنيا : المعاصرة ، إذ أن العلوم هي عصب هذه المرحلة من قصة الإنسان . ولكن دراسة دراسة العلوم تختلف من شخص لآخر ، فهناك من يدرس العلم – فهما وتطبيقا – وهو ما يزال قابع في إطاره محدود بحدوده ، يتحول إلى موضوع لهذه العلوم . وهناك – بالطرف المقابل – من يدرس العلوم ، محولا إياها إلى موضوع يراقبها ويبحث تطورها وتركيبها ويتسائل عن أسباب ظهور هذه النظريات وبطلان تلك ، يكون هذا الشخص قد ( تفلسف ) بالعلوم . أي أنه يمارس عليها تطبيقا لـ( فلسفة العلوم ) . هذه الفلسفة ، نحن بامس الحاجة إليها ... فما هي هذه الفلسفة ؟ ولماذا نحن بحاجة إليها ؟ أسئلة ستحاول هذه المقالة الإجابة عليها .

فلسفة العلوم هي ( الدراسة النقدية لمبادئ مختلف العلوم ،و لفروضها ونتائجها ، بقصد تحديد أصلها المنطقي ( لا السيكولوجي ) وبيان قيمتها وحصيلتها الموضوعية ) (1) . إذن ، نحن امام علم موضوعه : العلوم . يتناولها بالبحث وتشكل هذه العلوم حدودا لهذا البحث ، تتسع وتضيق بحسب تداخل هذا العلم بغيره من العلوم المرتبطة فيما بينها ارتباطا يعطي ما يسمى : وحدة العلوم . وتناول العلوم بالبحث يتما إما بدراستها كما هي – أي العلوم – في مرحلة من مراحل تطورها ، أي بمعزل عن انتمائها التاريخي ، وهذا النوع من الدراسات هو دراسة ( تزامنية ) . وثم نوع آخر من الدراسات وهو دراسة العلوم دراسة تكوينية ، أي بإعادة الإعتبار لتاريخ العلم وتطوره . ودائما ما يحدث نوع من ( الخلط ) بين هذه العلم وعلوم أخرى ، كالمنطق ودراسة مناهج العلوم ( الميثولوجيا ) وتاريخ العلوم . وذلك أنها تشترك مع المنطق في دراسة شروط المعرفة إلا أنها تختلف معه في انها تهتم بمادة المعرفة إضافة إلى صورتها – وهذه الصورة هي ما يقتصر عليها المنطق في دراستها . كما أنها تشترك مع الميثولوجيا في دراسة مناهج العلوم ، إلا أنها لا تكتفي بدراستها دراسة تحليلي وصفية ، بل تتعمق أكثر في دراستها دراسة نقدية تركيبية . كما أنها شديدة الصلة بتاريخ العلوم ، إلا أنها لا تطلب هذا التاريخ لذاته بل تعتمد عليه لملاحظة تطور الفاعلية الإنسانية من الناحية الفكرية بشكل خاص (2) .

ومن خلال هذا التعريف المختصر جدا بهذا العلم الضخم ، يتضح جليا أهميته على عدة مستويات . فعلى مستوى دارس العلوم ، فهو – قطعا – بحاجة إلى هذا العلم حتى يتحرر من قيود القانون العلوم والنظريات المكتشفة أخيرا ، والتي تعطى له على شكل : مطلق . وهو بحاجة لهذا التحرر حتى يمكنه من إعادة نقد هذه النظريات والقوانين ، إما لتجاوزها أو إصلاحها من الداخل . فالتجاوز لا يكون إلا لمحدود ، ومتى ما كانت العلوم تعطى على أساس أنها مطلق ، فمجال إبداع دارسها ينخفض وينصب جهده في فهم هذه النظريات ، دون محاولة تجاوزها ، فهي بالنسبة له مطلق بلا حدود . وعلى مستوى المجتمعات والثقافات فإن الحاجة إلى مثل هذا النوع من العلوم يتمثل في كونها ، تضفي نوعا من العقلانية الضرورية لتنظم نسق علومها داخل مجال ثقافتها الخاصة . وبالتالي تتحدد أولويات هذه العلوم بناء على تلك العقلانية المعطاة من هذه الفلسفة . وتشتد الحاجة إليها لثقافة كثقافتنا الإسلامية العربية – عربية لأنها تعتمد على حامل عربية هو اللغة ، وإسلامية لأنها تدور حول نقطة مركزية هو القرآن الكريم إما دوران مع التيار أو ضده ، فهذه الثقافة مرت بمرحلة جمود عقلي طغت فيها الخرافات والخزعبلات ، وانتشرت فيها المذاهب التي تفتح مجالا لهذه اللامعقولية للولوج داخل كيانها . فتشتد الحاجة إلى هذا النوع من العلوم لإذفاء نوع من الإصلاح والتوازن داخل هذه الثقافة . بعد هذا الكلام النظري ، أجدني ملزما بتقديم نموذجا تطبيقيا لهذا العلم ، توضيحيا له وإيضاحا لفائدته ، وسيكون هذا النموذج هو : النظرية النسبية .


لكل نظرية قصة ، أو مشكلة تحاول حلها . والمشكلة التي نشات منها النظرية النسبية هي مشكلة ( الأثير ) التي حاول حلها إينشتاين . ولكن ما يميز قصة هذه النظرية عن غيرها ، أن الحل الذي أدلت يعتبر ( حدا ) فاصل بين نوعين من الفيزياء : الفيزياء الكلاسيكية والفيزياء الحديثة . لنأخذ القصة من بدايتها ، استطاع العلماء تفسير ( الضوء ) على أنه موجات كهرومغناطيسية تنتقل في وسط سموه ( الأثير ) . استطاع ماكسويل أن يفسر بهذا التصور للضوء الظواهر المستعصية التفسير قديما وأتى بمعادلة قوية متينة. لكن على الرغم من ذلك لم تكن هذه النظرية تستطيع إثبات هذا ( الأثير ) المفترض. لذلك حاول العلماء إيجاد إثبات لهذه الفرضية . ومن ضمن المحاولات ، محاولة مليكسن . تتلخص هذه المحاولة في أنه اعتمد على حركة الأرض حول الشمس . واراد حساب سرعة ضوء التي تشعه الشمس في الفترة التي تكون فيها الأرض تقترب من الشمس في دورتها ، ومقارنتها بسرعة الضوء عندما تكون الأرض مبتعدة . وبالتالي يتم إثبات وجود هذا الأثير إذا تبين أن السرعتين مختلفتين . ولكن النتيجة كانت سلبية ، فسرعة الضوء في كلتا الحالتين لم تتغير بل ظلت ثابتة . أعاد مليكسن هذه التجربة بمساعدة صديقه مورلي ، ولكن ظلت النتيجة سلبية ، سرعة الضوء واحدة وثابته مهما كان اتجاه الارض بالنسبة للشمس . حاول العلماء تفسير هذه الظاهرة ، حتى استطاع لورنز – بالفرضية التي أدلى بها فيتزجيرالد والتي مؤداها أن الضوء يتعرض لنوع من الإنكماش تتسبب فيه إلكتروناته – من أن يوجد معادلة لتحديد معامل الإنكماش ، الذي سيستخدم في حساب السرعات المقاربة لسرعات الضوء . فإذا كانت السرعات المراد حسابها هي سرعات عادية – بالنسبة لسرعة الضوء- فغننا نستخدم حساب السرعات كما قررها جاليليو اعتمادا على القصور الذاتي للأجسام ، أما إذا تعلق الأمر بسرعات مقاربة لسرعة الضوء فإنه من الضروري إدخال معامل الإنكماش حتى تكون حساباتنا صحيحة . ومن هذا المعامل تم استخلاص هذه النتيجة ، وهي أن سرعة الضوء هو الحد الأقصى لكل سرعة ممكنة . أي – بمعنى آخر – لا يمكن تجاوز سرعة الضوء . (3)

بناء على ما سبق ، قام ألبرت إينشتين بتجاوز المفاهيم الأساسية للفيزياء القديمة : مفهوم الزمان المطلق والمكان المطلق وقوانين تركيب السرعات . قام بذلك بالإعتماد على مبدأين اثنين :

1- أن جميع المنظومات المرجعية – يقصد بالمنظومة المرجعية هي تلك المرتكزات التي على أساسها نقوم بالقياس كالإعتماد على نقطة ما لحساب بعد اخرى منها – الغاليلية – أي التي تعتمد على القصور الذاتي وبسرعات منخفظة بالنسبة لسرعة الضوء – متساوية من حيث صلاحيتها للقياس . أي أنه سواء قمنا بقياس سرعة قطار بملاحظة مروره بالنسبة لقطار آخر ، أو قمنا بقياس سرعته من داخله بملاحظة سرعة مرور القطار الواقف بالنسبة للمتحرك ، فإن النتيجة واحدة ومتساوية . أي أن السرعة نسبية دائما ، وتكون متساوية فقط إذا كانت تحكمهما منظومة مرجعية واحدة أي مستقيمة ومنتظمة . وهذا يعني أنه لا يوجد جسم ثابت ولا وجود للأثير ولا وجود أيضا للمكان المطلق .

2- سرعة الضوء ثابتة لا تتغير ، أي أنها دائما تساوي ما يقارب 300 ألف كيلومتر لكل الثانية . وهي أقصى سرعة يستطيع أي جسم – أو جسيم – الوصول إليها . وهذا يعني أنه سواء كان الجسم مقبلا أو مدبرا بالنسبة لجسم آخر فإن سرعة الضوء واحدة لا تتأثر بسرعة ذلك الجسم . بعكس الصوت –الذي هو أمواج صوتية تنتقل في وسط مادي - فإن سرعته تختلف باختلاف سرعة مصدره واتجاهها (4) .


بناء على هذه النظرية – النظرية النسبية الخاصة إذ أننا لن نتعرض للنسبية العامة – نستنتج انه لا وجود لشيء اسمه تآني . أي أنه لا توجد حادثتان تقعان في نفس اللحظة . وفي هذا يضرب العلماء مثالا ظريفا : لو فرضنا ان هناك توامان عندما بلغا الثانية عشر من عمرهما سافر أحدهما على متن مركبة تسير بسرعة قريبة من سرعة الضوء . وبعد أن مر عشرين سنة على الاخ الموجود على الارض ، عاد ذاك المسافر . فلما تقابلا ، إذ بهما يتفاجآن ، فالمسافر لم تمر عليه سوى اربع ساعات فقط ، بينما الموجود على الأرض مرت عليه عشرين سنة . هذه القصة لا يرفضها العلم ، فالشعور بالزمان يختلف باختلاف السرعة . كما انه لا يوجد – في الحقيقة – شيء اسمه : حاضر . فكل ما نراه ونشاهده هو في الحقيقة عبارة عن ماضي . فضوء النجوم المنتشرة في الليل هو ضوء قد أرسلته تلك النجوم منذ فترات طويلة . فضوء النجم القطبي هو ضوء أرسله النجم منذ 480 سنة . قد يكون هذا النجم قد انفجر أو ذهب نوره ولكننا لن نعلم بذلك إلا بعد اربعمائة وثمانين سنة . أي أننا نرى صورة لذلك النجم قبل 480 سنة . كذلك الشمس فما نراه منها الآن هو ما أرسلته قبل 8 دقائق – وهي الفترة التي يستغقها الضوء للوصول الى الارض . بل إن متابعتك لحركات زميل لك جالس بجوارك ليست متابعات آنية . بل هناك فارق ضئيل جدا لا يلاحظ وهو الزمن الذي يتطلبه إنعكاس الضوء على جسده إلى عينيك ، وبالتالي لا وجود لزمان مطلق ( 5) .


هذا نموذج تطبيقي ، يخبرنا عن مدى التغير في المفاهيم نتيجة وعي العلماء بمحدودية العلم وعدم وجود علم مطلق . هناك من ينبهر بهذه النظرية ويكتفي بها ويعتبرها السلاح السحري الذي سيفسر كل شيء . وهذا يعني إعطاء النظرية صفة المطلق . وقد يغيب عن ذهنه أنها تعتمد على فرضية لم تثبت بعد وهي أن الضوء لا يمكن تجاوزه . وفعلا يقوم بعض العلماء نتيجة وعيهم بهذه الفرضية بتجارب في اماكن متعددة في الكو نللوصول إلى نتيجة تقضي بوجود سرعات أكبر من الضوء . وإذا ما تحقق ذلك فهذا يعني انهيار بناء النسبية وتشييد صرح جديد .

بعد التعريف بهذا العلم المهم ، وبيان الحاجة الملحة إليها بالنسبة لطلبة العلوم والمجتمعات . وبعد توضيح ذلك بمثال تطبيقي . نود أن نتسائل : لماذا لا يلقى مثل هذا العلم الإهتمام الكافي لينتج لنا مبدعين وعلماء ؟




العاقل