دمشق - ابراهيم حميدي الحياة 2005/01/7

هذه المرة، لم يستطع الجسد النحيل لـ«الاستاذ الشريف» مواكبة ذهنه المتقد الى آخر لحظة. فرحل انطون المقدسي عن 91 عاماً تحكي الكثير عن سيرة وطن وجيل طموح، انتقل من الريف الى دمشق ليحجز مساحة له في الضوء.

وما من رحيل ونعي مشابهين لصاحبهما مثل الايام الاخيرة التي امضاها المقدسي في «مستشفى الطب الجراحي». اذ احاطت مجموعة من اصدقائه بينهم وزيرة الثقافة السابقة نجاح العطار واشباهه و«احفاده» بسريره يومياً. ومثلما تجاهل المقدسي عمداً زيارة وزير الثقافة الدكتور محمود السيد واكليل الزهر من رئيس «اتحاد الصحافيين» صابر فلحوط، طلب في «الوصية» ان لا تكون هناك أي هيئة رسمية او كنسية في مراسم الدفن التي ستتم قبل ظهر اليوم الجمعة، فعلق امس نعيه مذيلاً بتوقيع اسرته الصغيرة في شوارع دمشق التي كان سعى في السنوات الاخيرة لكي تكون حاضنة لـ «مجتمع مدني».

قصة المقدسي غريبة في كل شيء، لكنها منسجمة مع ذاته. كان من مؤسسي «الاتحاد الاشتراكي» مع اكرم الحوراني، لكنه لم يصبح زعيماً سياسياً. وكان من كاتبي وثيقة اندماج «الاشتراكي» مع «البعث العربي» قبل نصف قرن، لكنه نأى عن السلطة عندما وصل الوليد الجديد (حزب البعث العربي الاشتراكي) الى السلطة في العام 1963.

وعندما ادرك ان لاسلطة للمثقفين والحزبيين امام الانقلابات العسكرية، ابتعد ايضاً عن السلطة ملتصقاً بالجامعة والمدرسة ليتحدث عن الفلسفة والفكر والادب، مستنداً الى الدراسات الاكاديمية التي اجراها في جامعات فرنسية ولبنانية، قبل ان يصبح مديراً للترجمة والنشر في وزارة الثقافة في العام 1965 حيث قدم فيها وأشرف على ترجمة امهات الكتب العالمية الى الجمهور السوري والعربي.

وكانت «المكافأة» الرسمية على عقود ثلاثة ونيف من الخدمة العامة، انه فوجئ ذات يوم من شهر آب (اغسطس) العام 2000 بقرار مرمي على مكتب من وزيرة الثقافة السابقة مها قنوت نص على ان شخصاً عين خلفاً له، فصل من وظيفته بسبب مقالات نقدية. اذ كان من اوائل الذين تحدثوا عن المجتمع المدني في سورية بدعوة من منتدى النائب السابق رياض سيف. كما انه نشر رسالتين مفتوحتين واحدة الى الرئيس بشار الاسد واخرى الى حفيده قال فيهما «لسنا مواطنين بل رعايا» وتحدث عن ضرورة «تحرير الشعب من القيود التي وضعتها الانقلابات العسكرية». كما بعث بـ «رسائل خاصة» الى مسؤولين سوريين كبار تتضمن وجهة نظره بواقع الحال ونظرته الى الحل.

لم يؤلف الراحل المقدسي كتاباً سوى ما جمعته «دار رياض الريس» تحت عنوان «افتراق الجسد العربي» ومشاركته في «الامة على مشارف الالف الثالث» صدر عن «دار النهار». كان يركز دائماً على المقالات لأنها الاكثر قراءة «في بلد لا يقرأ طالب الجامعة سوى المقرر، فما بالك بالحداد وصاحب الحانوت» الذين كان يراهم في مسيره اليومي بين منزله ومقر عمله. لكن كل ذلك ما زاده إلا انسجاماً مع فكره وذاته. ومثلما كان النشطاء السياسيون يسعون الى الحصول على «الشرعية» منه، كان المثقفون والاساتذة يسألون «الاستاذ» وكان الاصدقاء يشيرون اليه بـ «الشريف»، الوصف الذي ينطبق عندهم على شخصيته وحياته.

كان المقدسي كرم في السنوات الاخيرة ثلاث مرات، حيث نال «جائزة الامير كلاوس» الهولندية في نهاية 2001 و«اتحاد المترجمين العرب» في بداية 2003 وجائزة فرنسية في منتصف العام نفسه لأنه «ساهم في شق طرق للتفكير في العالم العربي».

وبرحيل المقدسي، تفقد سورية شخصاً لم يكن «شاهداً على العصر» فحسب، بل لاعباً ادواراً في المراحل المفصلية من التاريخ الحديث سواء بجرأته الفكرية او بابتعاده عن المناصب و«تلميع» الصور.


:wr: