[CENTER](1)
في حراء


في ليلة من ليالي الصيف ، الذي ، وإن كان حارا في جزيرة العرب ، إلا أنه يشتد حرارة في ذلك الوادي . في تلك الليلة ، وعلى شرفة كهف ، من إحدى الجبال المحيطة بذلك الوادي .. جلس ، يتأمل السماء والنجوم . كان ، وهو يتأمل ، يفكر ، يفكر في كل شيء . إذ أنه في هذا العلو ، الذي يمده بنسمات لطيفة من الهواء المنعش ، محفوفا بهذا الهدوء ، الذي يشعرك أنه لا حي في هذا الوجود إلا أنت . كان كل هذا ، يجعله يرى كل شيء ، ويسمع كل شيء ، فكان حريا به ... أن يفكر ، بكل شيء .



كان يفكر في حالة غريبة مرت به . إذ في الستة الأشهر الأخيرة من العام الثالث عشر قبل الهجرة الموافق لـ 609 م ، كانت تجري له امورا عجيبة . كان ينام ، ويحلم .. وحين يفيق . يجد ما كان يحلم به ، يجده .. حقيقة . كان خائفا ، من هذه الحالة ، وكان هذا الخوف ، أيضا ، يخالطه شيء من التربص والترقب .


رفع رأسه إلى السماء ، التي كانت صافية ، والنجوم فيها تتلألا ، وكانها تحتفل . تأمل هذه السماء ، نظر إليها ... وفي حركة سريعة نزل بعينيه إلى الأسفل . لاحظ وجود نورا في قريته ، كان هذا النور ، كفيلا بأن يقلب عليه همومه . إذ ان التفكير في قومه ، يجعله كئيبا .. حزينا . حاول طرد هذا التفكير بان رفع بصره مرة أخرى إلى السماء ، تأمل النجوم .. مرة اخرى .

تذكر كلمات ذلك الشيخ ، الذي كان قد سمع له في سوق عكاظ . ذلك الذي كان يمر بالعرب قائلا لهم : أيها الناس ، من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آت آت .. ليل داج ، ونهار ساج ، وسماء ذات أبراج ... كان يتذكر كلامه ، مغمورا بالقداسة والروحانية ، إذ أن عبادة أهله لتلك الحجارة ، كانت تجعله يشعر بالأسى لهم .

قام من مكانه ، وأخرج من راحلته شيئا ليأكله ، كان وهو يعمل يديه في أغراضه يشعر بالإمتنان لزوجته ، التي لم تترك شيئا تفعله لخدمته إلا وقامت به على أكمل وجه . كان يحبها ، ويشعر بكثير من الامتنان لها . تذكر كيف أنه ، في بيت عمه ، كان ذلك الفتى اليتيم الفقير .


كان يتيما ، فأبوه : يسمع عنه ، ولا يتذكره . إذ أنه مات قبل أن يراه . وأمه ، كان بجهد نفسه ، حين يتذكر بضع صور ، كانت تسعفه بها ذاكرته .. إذ أنه كان قليل الإتصال بها ، إذافة لموتها قبل إتمامه السابعة من عمره . ففي تلك السنوات السبع ، كان خارج قريته ، في الصحراء في ديار مرضعته ، التي تربى في ربوع ديار قومها .


تعلقت عينيه في القمر ، وتذكر الأيام الأخيرة ، كان يتذكرها جيدا ، وكأنه يراها ، او كأنها أحد تلك الأحلام التي .. ما إن يفيق حتى يجدها حقيقة . كان يتذكر كيف استعد مع أمه ليذهب إلى اخواله ، وكيف غادر قريته مودعا جده . كيف أن تلك الرحلة ، كانت الفرصة التي اقترب من أمه ، في نفس الوقت الذي راى احتضارها .. وموتها ، ودفنها . عاد إلى قريته ، لا صلة له بها .. فوالداه تركاه قبل بلوغها . كان ، وعينيه على القمر ، يتذكر هذه المشاهد .. فما أن أغمض عينيه .. حتى تلألأت صورة اقمر - او نوره - على خده ، تلألات انعكاسا على دمعته التي تلتها اخريات .


استمرت به الذكريات ، تذكر كيف استقبله جده ، الذي يعرف مأساته ، إذ انه مثله كان يتيما حين مولده . فقريتهم ، التي كانت التجارة عصب الحياة فيها ، كان طبيعيا ، أن يفقد الأبناء آباءهم الذين كانوا يجالدون الصحراء تنقلا ما بين الشام واليمن ، لتوفير لقمة العيش لهم . كان جده ، رغم فقره ، إلا أنه كان أعظم قومه مكانة ، خصوصا بعد اكتشافه لمصدر للماء في هذا الوادي المقحل .


كان لذلك الإشتراك الذي يربط بينه وبين جده ، كفيلا بان يجعل هذا الجد كريما معه . كان يغدق عليه الحنان ، ويقدمه على ابنائه التسعة . كان يفخر به ، ويقول - معملا فراسة العربي الأصيل : ( إن لابني هذا شان عظيم ) . لكن هذا الجد ، لم يكمل المشوار ، إّذ تحول ، هو أيضا ، إلأى طامة أخرى يفجع بها ذلك الفتى ، .. فقد تركه ورحل ، بمعنى آخر : مات .


كانت عيناه ، التي ما إن توقفت عن الدمع ، إلا وعادت تنهمر من جديد . كانت لا تزالان تنظران للقمر . فرغم أن موت جده كان فاجعة لوحده ، إلا أنه كان بابا ، انطلقت منه باقي الفجائع . إّذ سرعان ما انتقل إلى عمه ، الفقير ذو الأبناء الكثر . كان يشعر شعورا بعيدا أنه يمثل عبئا على عمه ، إلا أن عمه لم يصدر منه أبدا أ] شيء يدل على هذا الشعور . فكان يعتبره : ابن له ، بل إنه كان يفضله على بعض ابناءه . لكن هذا الشعور الغريب ، لم يزل يعمل عمله ، حتى اضطره لان يرعى الغنم .


كان يخرج بأغنام قومه ، راعيا لها . وافق هذا فترة مراهقته . التي ما إن تذكرها ، حتى تبسم ، وشاح بوجهه عن القمر . إّذ أنه في تلك الفترة ، أراد كما يريد باقي الشباب الذين في مثل عمره ، من لهو وعبث . إلا أنه في كل مرة يسعى فيها إلى أماكن الصبا ، كانت تأخذه غفوة ، فينام .


قام من مكانه ، وغير وجهته ، وجلس قبالة السماء من طرف آخر . فما إن اشتد عوده ، حتى أراد ، كغيره من ابناء قريته ، أن يمارس قدره . فالتجارة لهذه القرية كانت كالقدر . ذهب مرة مع عمه ، إلا أنه أعاده في منتصف الطريق ، بعد تحذير بعض الرهبان له . انتظر فترة أخرى ، حتى جاءه أحدهم يخبره ، أن هناك أرملة غنية ، تريد أن يتاجر لها بمالها . وكانت تبحث عن شخص أمين ، فوقع عليك اختيارها .


تذكر فرحته بذلك الخبر ، الذي كان فاتحة : لأفراح كثيرة بعده . خرج ، بتجارتها ـ وتاجر بها . رأى الشام ، ورأى اختلاف اجناسها . رأى الكتائب الرومانية وهي تجوس خلال الاسوق ، ورأى رجال الدين المسيحيين ، وشاهد اليهود . ورأى ابناء البلد . كانت رحلته ناجحة على ثلاث مستويات . كانت ناجحة إذ عاد لتلك الأرملة بربح وفير ، وكانت ناجحة إّذ أن مولى تلك الأرملة قد نقل امانته وكرم أخلاقه لتلك الارملة ، التي ما إن سمعت بها حتى هتف قلبها . وكانت ناجحة ، إّ أنها أمدته بخبرة في الحياة واطلعته على عالم جديد ، وامم جديدة لم يكن يعرفها ، وإن كان قد سمع عنها .


جرت الامور بسرعة بعد ذلك ، فتزوج بتلك الأرملة . وانتقل إليها ، وكفل ذلك له حياة هنيئة ، نقلته عن ضيق الفقر . وساعد عمه بأن كفل أحد ابناءه عنده لكي يربيه . كان قومه عرفوه بهدوءه وامانته واخلاقه . ولم يكونوا يلتفتوا إلى عدم اختياره لعبادة آلهتهم ، إّذ أن مكة كانت قد شهدت مثل حالة محمد ، وشهدت رجالا لم يختاروا دينهم ، فلم يكن ذلك أمر يزعجها .


كان يتعجب من تلك الاصنام الكثيرة المحيطة بالكعبة . وما أن تذكر الكعبة ، حتى اغمض عينيه قليلا ، ثم فتحهما باحثا عن القمر . تذكر ذلك اليوم التي كادت تتمزق مكة فيه وتتقاتل . حين سال الوادي وحطم الكعبة . وعندما أعاد قريش بناؤه ، اختلفوا أشد الاختلاف حول من يضع الحجر الأسود . كاد هذا الختلاف أن يرتفع إلى مناجزة بالسيوف ، لولا أن رضوا بتحكيم أول الداخلين من أحد الابواب المحيطة بهم . كان محمدا ، هو الداخل، وكان داخله مؤذنا بان يهتفوا : هذا الأمين ، رضينا به . كانت لحظة اختبار لسياسته وحكمته ، ففكر قليلا ، حتى توصل لحل يرضي الجميع ، بان يوضع الحجر على قطعة من القماش ، ويمسك كل سيد قبيلة طرفا من اطراف القمشا وما ان يصلون به إلى موضعه حتى يضعه هو بيديه ، فاتفق الأطراف على ذلك ، حلت المشكلة .

عندما تذكر هذه القصة ، وما كادت تجر إليه من قتال ، تذكر تلك الحرب التي خاضها مع قومه عندما كان صغيرا . كان يجهز النبال لأعمامه ، ولم يشارك . لكنه رأى الحرب ، ورأى التقاء الإنسان باخيه الإنسان ، وكيف ان هناك من يريد أن يقاتل لكي يبقى الكل سليم ، وان هناك من يقاتل ، حفاظا على مصلحته هو .

كانت طفولته الشقية ، وفقره القديم ، إضافة إلى ما خلفت فيه تلك الحرب من بغض للظلم وأهله . كان كل ذلك سببا ، في أن يشارك في حلف أقامه قومه ، حلف ينصر المظلوم ، أيا كان ، ضد الظالم ، أيا كان .


نظر لمكانه ، وتلفت حواليه ، أصبح يحس بميل ، أقرب إلى العشق ، لهذا المكان ، الذي خصه بجزء من وقته . كان كثيرا ما يخلوا فيه ، يتأمل عظمة خالقه الواحد الذي يؤمن به . كان دائما ما يتفكر في كل شيء ، كان هذا المكان يمده بصفاء الذهن ، ونقاء الروح ، يرتقي بروحه عاليا ، حتى لأنها تكاد أن تفارق جسده لفرط ما تسموا به تلك الروح .


لكن ... وفجأة ، على غير العادة .. سمع حركة خفيفة ، ازدادت بسرعة ، كانت تلك الحركة وما تحدثه من صوت سببا في انبعاث الخوف من صدره ليشمل كل جسده .. كانت تلك حادثة قليلة ما تتكرر ، وفاصلة في حياة هذا الرجل ، وحياة من بعده .





يــتــبــع